كان الترفيع في الأسعار في عهد “بن علي” يمر في صمت ولا يجرؤ أي أحد على رفع صوته ولو همسا منددا بزيادة تستهدف مادة ما من المواد الأساسية بل بالعكس, كانت الأبواق تتجند مع كل زيادة لتشيد بحكمة الرئيس ونظرته الثاقبة وحرصه الشديد على مراعاة مصالح الناس وفي طليعتها مقدرتهم الشرائية, فمهما بلغ الغلاء مداه في تلك الفترة يعد سياسة حكيمة ورشد لا نظير له إلى أن طفح الكيل وثار الناس على “بن علي” وعلى ظلمه الذي لم ينج منه إلا بطانته والمستفيدين من النظام الوضعي بشكل أو بأخر.
رحل “بن علي” ورحلت معه آلة البطش والقمع وتوفر للجميع بمفعول الثورة مجال واسع للنقد والانتقاد دون الخوف من تبعات ذلك وأصبح الماسكون بدفة إدارة شؤون البلاد -بالوكالة طبعا- أكثر الناس عرضة للتجريح والطعن في كفاءتهم وقدراتهم وما كان محظورا بالأمس أصبح متاحا وفي متناول الجميع, لكن دون المساس أو الاقتراب من مكمن الداء وهو النظام الوضعي الذي حكم, وفقه “بورقيبة” ومن بعده “بن علي ومازال قائما إلى اليوم, ولم يطرأ عليه أي تغيير تماما كما هي أحوال الناس, وإن حدث فيها تغيير فمن سيء إلا ما هو أسوء. وما التدهور المطرد في الجانب الاقتصادي منذ تشكيل أول حكومة بعد الثورة إلى غاية عهدة الحكومة الحالية إلا خير دليل على ذلك.
لقد علق كثيرون أمالا عريضة على كل حكومة جاءت بعد فترة حكم “بن علي”, وكلما خاب ضنهم في حكومة ضنوا خيرة في التي تأتي من بعدها وظل الحال يراوح مكانه طيلة عقد من الزمن, أمل تعقبه خيبة.. إلى أن بلغ الأمر مداه وخفتَ بريق الأمل ولو كان خُلّبا, وأصبح لا مكان إلا للخيبات غير المسبوقة بأي أمل, وبلغ السيل الزبى مع الحكومة الحالية التي تزامن قدومها مع نفاد كل أرصدة النظام في المناورة, فسابقا كان هذا النظام الزئبقي يتعامل مع الأزمات والهزات التي تحدث من حين إلى آخر, والمتأتية من طبيعته بشيء من المرونة لقدرته على الترقيع والقفز على الأزمات دون معالجتها فيتوهم الناس بأنه قادر على معالجة المشاكل وإيجاد الحلول, إلى أن توَقّف حماره عند العقبة ولم يعد قادرا على مواراة فشله وفساده, فالعالم بأسره يعيش اليوم أزمة اقتصادية حادة يسمونها أزمة الركود الاقتصادي العالمي التي يعتبرونها إلى جانب أزمات أخرى مجرد أعراض ومؤشرات لانهيار تام قد يقضي على عدة دول كبرى, وما يحدث في تونس اليوم هو مجرد ارتدادات لهزات سببها النظام الوضعي وليس عدم كفاءة رئيس حكومة أو مسؤول ما في الدولة, ولو أنهم جميعا أعجز من أن يديروا شؤون حظيرة, فما بالك بدولة, فعجزهم ثابت ولكن العجز الأكبر يكمن في النظام الوضعي فهو لا يخدم إلا فئة بعينها, فئة تملك النفوذ والمال سواء كانوا أشخاصا أو دولا فيزداد الغني غنى والفقير فقرا, وهذا ما يحصل منذ هيمنة النظام الرأسمالي على العالم.
فبواسطة الاستعمار, مباشرا كان أو غير مباشر, تنهب الدول القوية البلدان الفقيرة وتعمل على تفقيرها لتضمن التبعية والارتهان لها, وقد خلقت تلك القوى الاستعمارية أذرعا تستعملها للهيمنة والسيطرة على من دونها قوة وكان لها ما أرادت بتنصيبها دمى تحركهم كيف ومتى شاءت, وما حكام تونس منذ عهد “بورقيبة” إلى من يحكم اليوم إلا دمى وبيادق ينفذون أوامر وتعليمات المسؤولين الكبار ولا يعصون لهم أمرا. فالزيادات الأخيرة التي أعلنت عنها حكومة “هشام المشيشي” مؤخرا تندرج في خانة الانصياع التام لإملاءات صندوق النقد الدولي, فهي عبارة عن ضمان لاسترجاع الصندوق الأموال التي أقرضها للحكومات المتلاحقة. وبما أن هذه الدولة لا تملك من مقومات الدولة إلا الخواء ولا موارد لها إلا الجباية و الضرائب المجحفة, فهي لا تنتج شيئا وتستورد كل شيء, وحين تضيق بها السبل لا ملجأ لها غير الاقتراض, وحين يشتد عليها الضيق تثقل كاهل الناس المثقل أصلا بالترفيع في الأسعار إلى حد قسم ظهورهم وهذا ما تقوم به حكومة “المشيشي” الآن، فالزيادات المجحفة طالت كل ما هو أساسي وسيترك حبل الزيادات في الأسعار على الغارب رغم ارتفاع نسبة الفقر التي بلغت 17 فاصل 8 بالمائة والفقر ارتفع منسوبه بشكل كبير ليصل نسبة 16 فاصل 2 بالمائة رغم أن البلاد لا تعوزها الثروات والمقدرات لكنها ذهبت أدراج النهب وتم التفويت فيها لمستعمر لا يرقب فينا إلاّ ولا ذمة.
إذن فمن يلقي باللائمة كلها على حكومة “هشام المشيشي” وحدها فهو مزايد يستغل الوضع لمصلحة خاصة ضيقة وخدمة لأجندات مغايرة لتلك التي تخدمها الحكومة وحزامها فجميعهم خادم وحارس للنظام الوضعي ولا يبغون عنه حولا فمهما اختلفوا وتنازعوا لا يحيدون عن وجهة نظره قيد أنملة سياسيا أو اقتصاديا أو أجتماعيا، فالاتحاد العام التونسي للشغل والأحزاب التي تدور في فلكه عبروا عن رفضهم الشديد للزيادات الأخيرة في الأسعار وألحوا في المطالبة بإلغائها وقد حملوا الحكومة وزر إنهاك القدرة الشرائية لغالبية الشعب واستهداف قوتهم, وهم لا يملكون بدائل غير تلك التي في حوزة الحكومة فهم يكيلون لها الاتهامات ليزايدوا عليها وعلى داعميها فقط إضافة لصرفهم الأنظار عن المتسبب في هذه الأوضاع الكارثية وهو النظام الديمقراطي الوضعي وألياته الرأسمالية الفتاكة.