سلطتا بورقيبة وبن علي انتهكت حقوق الناس، وسلطة ما بعد الثور تذلّهم باسم العدالة الانتقالية !!!
تطفو مسألة العدالة الانتقالية في تونس بين الحين والآخر على سطح الأحداث، وتعود إلى واجهة الاهتمامات:
ــ كلما زادت وتيرة الاحتجاجات من قبل “ضحايا الاستبداد”، فيسارع عرابو النظام الرأسمالي الذي اكتوى الناس بناره منذ أن فُرض عليهم، أواخر القرن التاسع عشر، ووكلاء الاستعمار الذين ارتضوا مهمة خدمته وحراسة مصالحه في بلادنا، إلى محاولة الالتفاف عليها، بالتصريحات المضللة والمخادعة، كحق هؤلاء في الإنصاف وبلوغ الحقوق، أو بشراء الذمم، لبعض من تصدروا حراك المجموعات الممثلة للضحايا، كلما بلغ صبرهم حدود النفاد، كتهديد بعضهم بالانتحار جماعيا.
ــ أو أن تتخذ بعض الجهات السياسية من هذا الملف أداة مزايدة على الخصوم السياسيين بإظهار تبني قضيتهم من قبل البعض، أو ترذيل، البعض الآخر، لمسألة استرداد الحقوق بدعوى قيامه على الانتقام والتشفي من جهة، والسعي للكسب المادي الذي يرهق موازنة البلاد من جهة أخرى.
؟؟؟
ولئن تذرعت هيئة الحقيقة والكرامة بما وجدته من صعوبات في تخطّي المناخ السياسي المأزوم الذي يهدّد جهودها الهادفة إلى محاسبة منتهكي “حقوق الإنسان” و”إصلاح” مؤسسات الدولة العصيّة. أو قاومت المؤسسات الحكومية والقوى السياسية المتعاطفة مع نظامي بورقيبة وبن علي أي محاولة للمس من نفوذها وعارضت بشدّة جهود “العدالة الانتقالية” لخشية بعضهم ثبوت ضلوعه في جرائم سابقة، واعتقاد آخرين أنه ثمة مبالغة في تصوير الانتهاكات السابقة بما يؤدّي إلى الإلهاء عن المسائل الأكثر أهمية. أو من يرى أنه لا ضرورة “لإصلاح” المؤسسات، أو محاسبة منتهكي كرامة الناس ومدنسي أعراضهم، بعلة منع تكرار الماضي، حيث قال الغنوشي أخيرا: “في الحقيقة، أنا عارضت كثيراً من الإجراءات !!! ومنها قانون المصادرة. كان من الممكن التعاطي مع قضايا الفساد الماليّ بأسلوب آخر، منه ترك الأموال لأصحابها (هكذا !!! ها قد صاروا أصحابها)، وتحميلهم مسؤولية دفع تعويضات عمّا سبق من خطأ منهم”.
فإن ملهاة العدالة الانتقالية والظروف التي جرت فيها، أو ما حفت بها من أحداث، والآمال التي عُلقت عليها لإحداث التغيير وإنصاف المظلومين، لا تعدو في الحقيقة إلا أن تكون بعض المكر المكر الذي تمكره الرأسمالية العالمية، كلما انتبهت الشعوب لفساد هذا المبدأ وخطره على الإنسانية، وسعت إلى التخلص من شرّه ومن شرّ طغام الحكام، سواء كان ذلك في أمريكا اللاتينية أو إفريقيا أو آسيا وحتى في أوروبا نفسها، بالالتفاف على نضال جمهور الناس بالتحكم في مراحل تحركاتهم، واتخاذ موقف الرافض للظلم والاستبداد الذي تأتيه السلط التي أشرفوا على توليها الحكم، وسيروا كل خطواتها.
استطاع النظام الذي لم يسقط، وبعض رموز الحكم فيه التي ظلت تتصدر المشهد السياسي في البلاد حكما ومعارضة، من جهة، ومن تسللوا إلى المواقع الأولى لحراك جمهور الناس، أن يعطلوا المسار الثوري نحو إسقاط النظام، وإفراغ الشعار المركزي للثورة عامة، “الشعب يريد إسقاط النظام” والذي أصبح إيقونة الثورة في العالم نحو إسقاط النظام الديمقراطي الرأسمالي في العالم كله، وخاصة هيئة الحقيقة والكرامة من جهة أخرى، حين نجحوا في قصر موضوع العدالة الانتقالية على محاسبة بعض رموز النظام، والدفع بمن ناضلوا ضد نظام بن علي وبورقيبة، وثاروا ضد الظلم والحرمان من الحقوق المادية والمعنوية، أن تصبح مطالبهم موقوفة على ما صار يعرف ب “التعويض” وتضليلهم عن أصل القضية التي عانوا من أجلها السجون والمنافي وذاقوا فيها الذل ألونا…
حين تصبح حقوق الضحايا أداة للمتاجرة السياسية
إلا أن المطالبة بتفعيل مقررات جبر الضرر الفردي، والواردة بالتقرير النهائي الذي أصدرته هيئة الحقيقة والكرامة يوم 26 مارس 2019، بتقريرها النهائي والذي “يلخص أعمالها والصعوبات التي تعرضت لها من أجل تكريس العدالة الانتقالية” ورغم مرور أكثر من عامين على إصداره أصبحت هذه المطالبة أداة إذلال للضحايا والمناضلين وسلاحا سياسيا، بيد مختلف الفرقاء الفاعلين في المشهد السياسي، لتحقيق المكاسب السياسية، كل يوظفه بحسب موقعة من المشهد العام للبلاد:
ــ فالعلمانيون عامة يعرقلون تفعيل المقررات بحجة أن تمكين الضحايا بعض حقوقهم يمس من موازنة الدولة ويحرم المجموعة “الوطنية” مورد هي في أمس الحاجة إليه وهم في الحقيقة لا يعتبرونهم ضحايا ولا يرون لهم حقوقا.
ــ والإسلام المعدّل اتخذ منهم رهائن، يضمن ولاءهم، ويساوم بهم خصومه السياسيين، ويثبت عند الدوائر الغربية براءته من تدخل الدين في السياسة
ــ واليسار عامة يعلن رفضه لمقايضة النضال بالمال في “طهورية” دنيئة وتعفّف مقيت.
أما الغرب المستعمر الماسك بكل الخيوط فهو راض تمام الرضا عما يأتيه الجميع، فهي سواقي تصب في جدوله، جدول العدالة الانتقالية التي اتخذ منها رأس حربة له يلتف بها على صراع الأمة مع نظامه الذي فرضه علينا بالحديد والنار وأعانه علينا طغمة منا ينطقون بلساننا ويعيشون بيننا، من أجل إعادة تدوير نظامه. فهو لن يسمح بصرف هذا الفتات الذي يلوح به أمام ألمناضلين، ما لم يسلم هذا الجزء من أبناء الأمة قياده لعملائه الذين فرضهم عليه ويستسلمون من جديد للنظام العلماني بدلا عن نظام رب العالمين، ولن يسلم قياده لمن خانوا الله ورسوله ولن يستسلم أحفاد عقبة وطارق…
حقوق سلبت وليست تعويضات
بقي أن نقول لمن رفعوا شعار “الإسلام هو الحل”، نعم الإسلام هو الحل وليس من حل سواه، فنحن قوم أعزنا الله بالإسلام فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله، وأما ما قررته هيئة الحقيقة والكرامة، فمن الظلم وصفه بالتعويض، فلا عوض للسعي إلى إقامة شرع الله إلا عند الله، وإنما هي بعض حقوقكم سلبت منكم فحُق لكم أخذها ولا فضل لأحد عليكم وهي اليوم مقررات وجب تنفيذها ولا لأحد حق في المزايدة عليكم فيها ولاحق لأحد في أن يمنعها، ولكن إن تعارضت مع فرض القيام بأمر الله فلا كانت ولا حاجة لنا بها.
أ, عبد الرؤوف العامري