سواء عليكم، “أعدلتم أم جُرتم” لن يبرئ الذمة إلا شرع الله

سواء عليكم، “أعدلتم أم جُرتم” لن يبرئ الذمة إلا شرع الله

       لا زالت تونس تتقلب في جحيم هذا النظام الذي، في أي صورة تشكّل للناس، يجد في صفاقة وجهه ما يبرر به جريمة عبثه بمصيرهم، بل وخيانتهم خيانة موصوفة، حين اتخذ من معاداته للاحتكام للمعالجات التي تقتضيها عقيدة أهل البلد ركنا تُضبط على أساسه سياسة شأنهم وإدارة مصالحهم، وذلك تحت مفهوم عدم تدخل الدين في السياسة في أول أمر هذا النظام، ثم نأيا منه عن الإسلام السياسي، حاليا.. فسواء شُكِّلَ هذا النظام، حين شكلته القوى الاستعمارية خلال المفاوضات التي أحكمت إدارتها حتى ضمنت بقاء نفوذها فينا، وصانته بمواثيق واتفاقيات لا نعلم عنها إلا النزر اليسير ولكن، نلمس شدتها علينا، فسواء شُكِّلَ هذا النظام تحت عنوان المجاهد الأكبر، أو صانع التغيير، أو تحت “ظلال الياسمين”، فإن الناس لم يروا في كل ذك خيرا، ولم يكن لهم في موازين الشعوب ثقل، حتى أنه لم ينقضِ عهد من هذه العهود الثلاث، إلا وكان البلد في أحطّ حالاته وعلى أوهن صوره. وبالرغم من هذه الأوضاع المهينة، والتي لا تصون كرامة ولا تحفظ مروءة، فإن بيضة القبان في مختلف العهود تلك، هي الديمقراطية. فإن كانت في مبتدإ أمرها “تدريب” للناس عليها وعلى “قوانينها” بيد الزعيم الأوحد والحزب الوحيد، فإنها تسربلت بسربال السلم الاجتماعي، وسياسة التوازن الاقتصادي والاجتماعي في عهد التغيير”المبارك”، فقد تهتّك سترها في عشرية ما بعد الثورة، حيث تعاورها مدّعوها، فلم يُنجِدها الخصم من خصمه، ولا استطاع القائمون عليها تبرير وجودهم في الحياة العامة للناس..

    إلا أنه لا زال هناك من يجد في هذا الوجه الصفيق للديمقراطية، متسعا في معانيها، ما يبرر به، إقصاء كل منافس على “وصالها”، وإسقاط الدستور الذي أكسبه مشروعية الحكم والتصرف، واستنساخ دستور لن تُفكّ يوما أحاجيه ولا أحاجي الذي سبقه، وأسقط هيئات وأقام مكانها أخرى، وأهمل منها ما ليس لها “صلاحية” كالمحكمة الدستورية، وقد لا يكون شطب الهيئة العليا المستقلّة للاتّصال السّمعي والبصري آخر الانجازات، خاصة وأن الانتخابات المحلية ليوم 24 ديسمبر المنقضي عُدّت المرحلة الأخيرة من تشكيل نظام حكم الرئيس قيس سعيد الذي يحكم منذ 2019. تأتي ولا زال هناك من يرى في الدرك الذي تردت فيه البلاد، ضرورة لإنقاذ الديمقراطية من الخطر الذي كان يتهددها، حتى ولو كان سقف همة سلطة 25 جويلية لم يجاوز توفير السكر والسميد لأهل تونس. ومع كل ذلك تتباهى هذه السلطة بوفائها بتعهداتها أمام الدائنين، وانشغالها بوجوب تسديد ما قيمته 9 مليارات دولار، عامها هذا، أي بزيادة قدرها 40 في المائة عن 2023.

   على امتداد عقود تحمّل أبناء الأمة لهذا النظام، تظلّ الحقيقة ملك يمين القائم على رأسه في مختلف عهوده، وتظلّ تلك “الحقيقة” سيفا مسلطا على رقاب الناس، مهما جرّت سياسته عليهم من ظلم، أو مهما ساءت أحوالهم، لأن سيف الخيانة جاهز لقطع الرقاب. مما جعل الحياة السياسية تتسم بالجمود، وبالهبوط الفكري، وشيوع التفاهة بين الناس وكثرة الدجل فيهم. والأخطر في كل ذلك أن المبرر الرئيس لتلك السياسة دوما هي “الخشية على مصالح الناس، وصيانة المصلحة العامة للبلاد”، والتي لا يدرك كنهها غيره، مما يضفي المشروعية على رفع سيف قانون الزجر.. ويظل المعيار الذي لا يتبدل هو الحفاظ على صورة التشكل الأولي للنظام، بحيث تمنح لرأس الهرم حصانة من أي مساءلة. والديمقراطية التي أريد لها أن تفرض على أهل تونس لم تتزحزح عن نقطة الصفر التي وضعت عندها، رغم مضي ما يقرب من سبعة عقود على محاولة حمل الناس على استبدالها بنمط عيشهم الذي ارتضاه لهم رب العالمين. ولا أدل على ذلك من أن كل هذه الضوضاء المثارة حول مختلف قوانين المحاسبة، سواء كانت محاسبة سياسية أو محاسبة فساد، لم تزد على أن عمقت الجمود السياسي، فلا التغيير في درجات المسئولية والحكم غيّر من واقع الناس البائس، أو خفّف عنهم شيئا ممّا يعانون، ولا استطاع معارضو السلطة فتح أفق أمام الناس يمكن أن يروا من خلاله آخر النفق الذي أغلق عليهم. وأمام هذا الفشل المحتوم، لنظام فُرض في غير بيئته، ولأشباه سياسيين أبوا إلا الإنحناء أمام فكر غريب باطل، وعدوّ حاقد لا يرضى منهم إلا الذل والتبعية، يمكن للملاحظ أن يرى بيُسر أن المطلوب اليوم هو إبقاء تونس في دائرة الأزمة، فلا ضير أن يتجرع التونسيون الغصص ألوانا، وأن تُدمر بنى البلاد ومقومات منعتها، إلى حين نضوج التسويات الكبرى على مستوى الأمة الإسلامية، خاصة وأن أحداث غزة وصمود الثلة الواعية المخلصة من أبناء أمة لا إلاه إلا الله محمد رسول الله، قد كشفت زيف فكرة الديمقراطية ونظامها الرأسمالي، وتهافت قيمها التي طالما صدع المضبوعون بها من أبناء الأمة أسماعنا، مما أربك الغرب وصار يعدل من خططه ويرتب أولوياته، بعد أن أصبح نفوذه على بلاد المسلمين مهددا بالانحسار والزوال.

   ومع ذلك، وإن كنا لسنا بصدد تقييم موضوع الفساد المالي أو السياسي، فإن أمر المحاسبة في أي إطار كانت، هي من أركان الحكم الرشيد وهي قاعدة سلامة حياة أي مجتمع. إلا أن هذه المحاسبة لا يمكن أن تؤدي الغرض منها إذا كانت على غير أساس سليم، ولا تكون كذلك إلا إذا أجريت على مقتضى الحكم الشرعي. فمن اقتضي أو قُضِي عليه، على غير هذا الأساس، فما برئت ذمته أمام الله. ولنا في حكمة الفاروق رضي الله عنه عظة، حيث سأل أصحابه يوما: “أرأيتم إن استعملّت عليكم خير من أعلم, ثم أمرته بالعدل أيبرئ ذلك ذمتي أمام الله؟” فأجابه أصحابه، أن نعم. فقال: كلا, حتى أنظر في عمله، أعمل بما أمرته أم لا”.

CATEGORIES
Share This