لا يشك أحد اليوم في أن الجائحة الحالية ستهوي بالاقتصاد العالمي إلى حالة من الركود الخطير، وهذا على الأقل خلال سنة 2020، حيث توقّع صندوق النقد الدولي أن ينكمش الاقتصاد العالمي ثلاثة في المائة خلال هذا العام، مع توقع خسارة للاقتصاد العالمي بنحو 9 تريليونات دولار خلال عامين.
ولم تكن تونس بمعزل عن هذه التداعيات الاقتصادية بفعل ارتباط اقتصادها بأوروبا التي تعيش شللا اقتصاديا تاما وهو ما يؤثر سلبا على القطاعات التصديرية والسياحة والنقل البحري والجوي، بالإضافة إلى القطاعات التي تهم التجارة الداخلية والخدمات، وهو ما يزيد في نسبة البطالة ويؤدي بالتالي إلى الانكماش، وستعيش تونس أزمة مالية واجتماعية مؤكدة وسيخيم شبح الإفلاس على اغلب المؤسسات والنسيج الاقتصادي الذي سيشهد تمزقا.
بسبب هذه التداعيات، اتخذت دول العالم تدابيرا واعتمدت آليات لتقليص الأضرار الاقتصادية والاجتماعية لهذه الأزمة إلى أقل حدٍ ممكن. كما اعتمدت برامج تحفيزية لمواجهة التداعيات الاقتصادية لانتشار فيروس كورونا، فهل سيكون التعافي الاقتصادي سريعاً؟
باستقراء تجارب التعافي الاقتصادي بعد الأزمات، حصر الخبراء أربع أشكال للتعافي الاقتصادي عقب مرحلة الركود، وأول هذه الأشكال هو الشكل الذي يأخذ حرف (V) والذي يعنى أن هناك ارتدادا سريعا من قاع الركود الاقتصادي، وهذا غالباً ما تكون فيه فترة التعافي هي نفسها فترة الركود، ليعود نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى مستوى ما قبل الركود نفسه.
أما النموذج الثاني فهو التعافي البطيء الذي يأخذ شكل حرفU ، وهو ما يعنى أن التعافى يحدث بعد فترة من السير في اتجاه عرضي يمثل استقرار المؤشرات الاقتصادية الرئيسية عند الحدود الدنيا مثل سوق الأسهم ومعدلات البطالة والنمو الاقتصادي ومؤشرات ثقة المستهلكين والمنتجين، ويأخذ سنوات حتى تعود السوق إلى مستوى ما قبل الركود.
أما الشكل الثالث فهو ما يأخذ شكل حرف W حيث ترتد المؤشرات الاقتصادية والمالية إلى الأعلى بسرعة في إشارة إلى التعافي السريع من الكساد, غير أن جزءً كبيراً من التوقعات التي بُنِىَ على أساسها الارتفاع ـ خاصة في الأسواق المالية على اعتبار أنها تسبق تعافي الاقتصاد في العادة ـ لم يتحقق منها جزء كبير على أرض الواقع، ومن ثم تحدث انتكاسة كبيرة مرة أخرى سواء على مستوى المؤشرات الاقتصادية أو على مستوى الأسواق المالية، وهذه الانتكاسة تبلغ ذروتها بالوصول إلى القاع الذي وصلته المؤشرات سابقا والذي يحدث ارتداد منه لأعلى بشكل نهائي.
أما الشكل الرابع والأخير من أشكال التعافي الاقتصادي فيأخذ شكل حرف (L) وهو من أسوأ الأشكال الذي تمر به اقتصاديات الدول، وهو يعنى أن مرحلة التعافي قد تأتى بعد فترة زمنية طويلة جدا من ثبات المؤشرات الاقتصادية وكذلك مؤشرات الأسواق المالية، للدرجة التي لا يمكن معها التنبؤ بطول هذه الفترة.
والسؤال الملحّ هنا: أي أشكال التعافي المحتمل والأقرب للتحقق في تونس؟
يعتمد التعافي بعد الأزمة الاقتصادية على طول فترة الركود، وعلى تأثير الركود في القطاعات الاقتصادية المختلفة.
يعيش الإقتصاد التونسي بطبيعته أزمة هيكلية، فنسبة الدين العمومي تناهز 80 بالمائة، وقد بلغت نسبة النمو قبل الوباء 1 بالمائة، والاتجاه نحو سالب 5 إلى 7 بالمائة بسبب الوباء، حيث تجاوزت نسبة الديون الخارجية 90 بالمائة بفعل الوباء، وقد تضرر العديد من القطاعات الاقتصادية، أبرزها: السياحة والنقل، والصناعات التقليدية، والتجارة الخارجية، والصناعات التصديرية كالنسيج، وصناعة مكونات السيارات، والصناعات الميكانيكية والكهربائية، التي ستكون الأشد تضررا. خاصة في ظل انتشار الوباء في إيطاليا وألمانيا والصين، باعتبار أنّ المبادلات التجارية لتونس مع هذه البلدان تبلغ ما يزيد عن 60 بالمائة من مجموع المبادلات التجارية مع الخارج.
فإذا ما انزلقت هذه الدول إلى كساد شديد وطويل الأمد، فإن هذا سيجر على تونس عواقب وخيمة، مثلما حدث على إثر انهيار الاقتصاد العالمي في عام 2008.
والسبب في ذلك يعود لمنوال التنمية الذي اتبعته تونس منذ بداية السبعينات بمقتضى قانون 1972 ويقوم على أساس النظام الاقتصادي الرأسمالي، والذي يعتمد أساسا على المناولة في القطاع الصناعي لفائدة الشركات الأجنبية التي تحتاج لعمالة متدنية الأجور وامتيازات ضريبية لتعزيز قدراتها التنافسية، فكانت تونس من بين بعض الدول التي التجأت إليها الشركات الأجنبية، خاصة الغربية لما توفره تونس خاصة في القطاعات ذات القيمة المضافة المتدنية نظرا لأنها تقوم بآخر حلقة للإنتاج عبر استعمال يد عاملة وافرة العدد وغير مؤهلة علميا حتى لا نتمكن من نقل التكنولوجيا.
وقد اعتمد سياسيّو البلد هذا المنوال بهدف جلب الاستثمارات الخارجية لإيجاد نمو اقتصادي وتقليص نسبة البطالة، وهو ما لم يتحقق عمليا لأنه لم يكن سوى مجرد حل مؤقت للتقليص من نسبة البطالة بمواطن شغل غير مستديمة، فضلا عن كونه لم يؤدي إلى تنمية حقيقية مقابل ربط اقتصاد البلاد بالأجنبي وهو ما يعد انتحارا سياسيا.
هذا المنوال ازداد توجها نحو الرأسمالية المتوحشة في أواسط الثمانينات من القرن الماضي وتواصل حتى الثورة، حيث التوجه الواضح نحو التفويت في المؤسسات العمومية لصالح القطاع الخاص وتراجع الدولة عن التدخل في الاقتصاد وتخليها عن القطاع الصناعي ورفع يدها عن السياسة الصناعية نحو الاعتماد بصفة كبيرة على قطاع المناولة وتشجيع القطاع الخاص والاستثمار بارزا في خيارات الحكومات المتعاقبة.
وقد كان لاتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي التي وقعها المخلوع بن علي سنة 1995 تداعيات كبيرة على اقتصاد البلاد، حيث أدى إلى تدمير النسيج الصناعي التونسي وحول نصف مليون تونسي إلى معطلين عن العمل وحرمت تونس من أموال طائلة كانت تدخل سنويا للخزينة التونسية بفعل الضرائب على السلع الأوروبية التي وقع التخلي عنها بعد الاتفاقية، كما فتحت الباب بعد الثورة على مشروع “اتفاقية الأليكا”، أي مشروع اتفاقية التبادل الحر الشامل والمعمق مع الاتحاد الأوروبي.
كما كان لصندوق النقد الدولي تدخل في فرض منوال تنموي يتماشى مع مصلحة منظوريه، فبعد رسالة النوايا الأولى سنة 2013 والثانية سنة 2016 إلى صندوق النقد الدولي التي تضمنت تعهد الدولة التونسية بتطبيق كل الإجراءات المتفق عليها بين الطرفين مقابل حصول تونس على قروض مشروطة، أصبح لصندوق النقد الدولي دور محوري في هيكلية الاقتصاد التونسي عرفت فيما بعد بالإصلاحات الكبرى التي كلف بها توفيق الراجحي الوزير السابق لدى رئيس الحكومة وحقق منها 85 بالمائة، حيث وقع تمرير ترسانة من القوانين أثناء حكومة يوسف الشاهد وأدت إلى مصادرة الإرادة وفقد السيادة وإحكام السيطرة على مفاصل البلاد ومقدراتها. ويكفي في هذا الخصوص أن نرجع إلى قانون الاستثمار وقانون استقلالية البنك المركزي لنعرف حجم الكوارث التي ترتبت عما يسمى بالإصلاحات الكبرى، وتونس مطالبة هذه السنة بتسديد ديون بقيمة 12 مليار دينار تقريبا.
ولذلك لم تكن كورونا إلا المسرعة للتدهور الاقتصادي والكاشفة لفساد المنظومة الرأسمالية التي اتبعتها الدولة وجعلت اقتصاد البلاد رهينة بيد الدول الأوروبية والمؤسسات المالية العالمية، ولذلك فإن كل المؤشرات المحلية والإقليمية توحي بأن الشكل الرابع والأسوأ هو الذي ينتظر تونس في ظل حكام رهنوا القرار السياسي بيد الدوائر الإستعمارية وفرطوا في ثروات البلاد وربطوا اقتصاد البلاد بالخارج، حيث مرحلة التعافي قد تأتى بعد فترة زمنية طويلة جدا ولا يمكن معها التنبؤ بطول هذه الفترة، ويبقى المخرج الوحيد هو بإتباع شرع الله الحنيف، فبه وحده تتحرر إرادتنا وثرواتنا وتشهد بلادنا نموا اقتصاديا حقيقيا.
الدكتور الأسعد العجيلي، رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير – تونس