بخطى حثيثة وثابتة، ما فتئ اليمين المتطرّف يرسّخ تقدّمه في أوروبا منذ العقد الأوّل من القرن الحالي محمّلاً بخطاب عنصري بغيض يفيض بمشاعر الكراهيّة والعداء للإسلام والمسلمين ولسائر الأجانب من المهاجرين واللاّجئين، وقد بلغ ذروته هذه الأيّام واتّخذ الشّكل الرّسمي على وقع الهجمة الشّرسة المستهدفة لأشرف المرسلين صلّى الله عليه وسلّم.. وفي الواقع فإنّ جذور الظّاهرة تعود إلى مطلع القرن 21م حيث اعتملت وتشكّلت ولم تبلغ سنة 2017م حتّى راجت سوقها في الأوساط السياسيّة :فقد أكّدت النتائج الانتخابيّة لتلك السنة هذا الاتّجاه في كلّ من فرنسا وألمانيا والنّمسا وهولندا حيث شهدت نجاح الأحزاب الشعبويّة المشكّكة في البناء الأوروبي والمعادية للهجرة والمناهضة للإسلام والمسلمين..كما تعاظمت المخاوف من تنامي قوّة تلك الأحزاب اليمينّية المتطرّفة وتزايد حظوظها الانتخابيّة واحتمالات وصولها إلى السّلطة بما قد يعيد تشكيل المشهد السياسي في القارّة العجوز.. ولم يتوقّف الأمر عند تلك الدّول الأربعة بل إنّ وباء الشعبويّة واليمينيّة استشرى في معظم الدّول الأوروبية مُكتسِحًا كلاًّ من (بريطانيا ـ إيطاليا ـ اليونان ـ الدّانمارك ـ السويد ـ المجر ـ بولندا ـ بلجيكا ـ تشيكيا ـ سلوفاكيا ـ صربيا ـ فنلندا ـ بلغاريا).. ورغم اختلاف التجارب في كلّ بلد إلاّ أنّها تشترك في التّركيز على قضايا تدغدغ مشاعر الرّأي العام الاوروبي الممتعض من الحاضر والمتخوّف من المستقبل..كما تكشف عن انغلاق الغرب وتقوقعه على ذاته وتخلّيه عن مقولاته الإنسانيّة الجذّابة وشعارات الدّيمقراطية الجوفاء التي بان عُوارها في أوّل امتحان جدّي لها..فما هي العوامل الداخلية والخارجية التي ساعدت على بروز اليمين المتطرّف في العقدين الأخيرين في أوروبا..؟؟ وما هي تداعيات تلك الظّاهرة على الإسلام والمسلمين..؟؟
ما اليمين المتطرّف..؟؟
قبل البحث في الأسباب والمآلات، من المفيد للتحليل أن نضبط المصطلحات ونحدّد الظّاهرة المعنيّة بالدّراسة بشكل دقيق، فما المقصود باليمين المتطرّف وما الفرق بينه وبين اليمين التّقليدي..؟؟ إنّ اليمين المتطرّف هو مصطلح سياسي يُطلق على بعض الجماعات والأحزاب كوصف لموقعها من المحيط السّياسي وتحديد لمنهجها في تجسيد فكرتها في الواقع قياسًا بالأعراف والتقاليد المعتمدة في العمل السياسي..والفرق بين اليمين التقليدي واليمين المتطرّف عملي تطبيقي ميداني أكثر منه فكريّ نظري: فكلاهما يسعى للحفاظ على التقاليد وحماية الأعراف داخل المجتمع والذّود عن عنصر الشّعب وعرقه وحضارته وثقافته ومعتقداته من أيّ خطر خارجي محتمل..إلاّ أنّ اليمين المتطرّف يبالغ في تشخيص الأخطار المُهدّدة ويدعو للتدخّل القسري واستخدام العنف والتخلّي عن المقولات الانسانيّة للحفاظ على عناصر الهويّة والذّاتية، لذلك فهو يتّصف بالشّوفينيّة القوميّة والتعصّب الدّيني ومعاداة الآخر المغاير وتحميله مسؤوليّة أزماته، والتّوجّس من العادات والتّقاليد الأجنبيّة بوصفها تشكّل خطرًا على العادات والتّقاليد والأعراف المحليّة.. أمّا اليمين التّقليدي فإنّه يعتمد لتحقيق نفس الأهداف اللّين والعمل السّياسي والتّموقع في السّلطة وسنّ ترسانة من القوانين التّنظيميّة والحمائيّة، كما يرى أنّ الآخر المُغاير لا يشكّل ابتداءً خطرًا على الهويّة في المُطلق، بل يمكن احتواؤه وتحييده بل وتوظيفه والتّعايش معَهُ..
بين التطرّف والاعتدال
وبصرف النّظر عن هذه التّعريفات والتّقسيمات النّظريّة فإنّ السّياسة تقاس بالنّتائج، والنّتائج على أرض الواقع تنطق بالمشاهد الملموس أنّ الحُكومات الغربيّة على اختلاف تصنيفاتها ومواقعها في الخارطة السياسيّة تتّفق في محاربة الإسلام ورفض المسلمين والتوجّس منهم واستباحة خيراتهم ومقدّراتهم واعتبارهم معدن الإرهاب وخطرًا على الحضارة الغربيّة..كما تتّفق في انتهاج سياسة حمائيّة تجاه الآخر المغاير لاسيما إذا كان لاجئًا أو مهاجرًا، يستوي في ذلك الأحزاب اليمينيّة واليساريّة بكافّة أنواعها وتشكيلاتها..فالهدف واحد ـ شوفيني عنصري إقصائي استعماري ـ والاختلاف في كيفيّة تحقيقه والمنهجيّة المعتمدة في ذلك والرّؤية الفلسفيّة السياسيّة التي يتنزّل ضمنها: فهي كلّها يمينيّة متطرّفة في تعاملها مع قضايا الإسلام والمسلمين، إلاّ أنّ خطابها يختلف ـ حدّةً ووضوحًا وتفصيلاً وشحنة ـ باختلاف التّموقع في السّلطة (حكومة/معارضة/موالاة..) والتّموقع في المحيط السّياسي (محافظون ـ عمّال ـ جمهوريّون ـ ديمقراطيّون ـ اشتراكيّون ـ قوميّون..) فبينما هو فظّ مباشر وقح عنصري عدائي مع الأحزاب اليمينيّة المتطرّفة، إذا به مع اليمين التقليدي واليسار ينقلبُ معتدلاً ملتحفًا بالشّعارات البرّاقة والمقولات الجوفاء التي تدغدغ المشاعر وتُسيل لُعاب (الطّبقات الكادحة) من قبيل (المُثاقفة ـ حوار الحضارات ـ التّسامح ـ التّعايش ـ التعدّدية ـ حقّ الاختلاف ـ المساواة ـ الاشتراكيّة ـ العدالة الاجتماعيّة..) والتي ترمي إجمالاً إلى تلطيف احتواء الآخر وتذويبه ـ ثقافةً وعقيدةً وعرقًا ـ في هويّة السيّد الأوروبي والاستفراد بخيراته ومقدّراته كحقّ مكتسب..فالضّمير الجمعي والمخيال الشعبي الأوروبي يمينيّ متطرّف بامتياز، وما الخطاب الرّسمي إلاّ متراس يحتمي به ويختفي خلفه ويلمّع به وجهه البشع حتّى لا يتناقض مع ما يدّعيه ويتشدّق به من مقولات إنسانيّة جوفاء..
رصد الظّاهرة
وبعيدًا عن نظريّة المؤامرة وعقدة الاضطهاد، فإنّ نظرةً سريعة على خارطة توزّع اليمين المتطرّف في أوروبّا تقرّ صراحةً بأنّ المسألة تتجاوز مجرّد نزوة سياسيّة فرديّة معزولة محليّة ضيّقة، لترتقي إلى مستوى ظاهرة سياسيّة تجتاح أوروبا وتعكس عقليّة عنصريّة منغلقة مسكونة بفوبيا المغاير غادرت اللاّوعي الأوروبي وطفت على السّطح السياسي: فقد شهدت الأسرة اليمينيّة الأوروبية المتطرّفة بعد سنة 2008 قفزة نوعيّة من حيث الكمّ والحضور على السّاحة والتّأثير في المشهد السياسي بما ينذر العرب والمسلمين المقيمين في أوروبا بالويل والثّبور وعظائم الأمور..ففي سابقة لم تتكرّر منذ ثلاثينات القرن المنصرم (الفاشية والنازيّة) اكتسحت الأحزاب اليمينيّة المتطرّفة الانتخابات في أوروبا سنة 2017: فقد حلّ حزب الحريّة الهولندي بزعامة (خيرت فيلدرز) ثانيًا وبات أكبر قوّة في البرلمان الهولندي بـ 20 مقعدًا من أصل 150، وحصلت رئيسة الجبهة الوطنية الفرنسية (مارين لوبين) على 34% من الأصوات متأهّلة إلى الجولة الرّئاسيّة الثانية..كما حقّق حزب (بديل لألمانيا) المفاجأة بحصوله على 12,6% من الأصوات ودخوله (البوندستاغ)، وعلى منواله نسج حزب الحريّة النّمساوي بحصده لـ 26% من الأصوات ونجاحه في الوصول إلى الحكم ضمن ائتلاف مع حزب المحافظين..ولم يتوقّف الأمر عند هذا الرّباعي بل ارتفعت أسهم الأحزاب اليمينيّة المتطرّفة في انتخابات تشيكيا حيث حصل حزب (الحريّة والديمقراطية المباشرة) على 22 مقعدًا من جملة 200، وانتخابات بولندا حيث حصل حزب (القانون والعدالة) على 39% من الأصوات ،وانتخابات المجر حيث حصل حزب (جوبيك) على 20% من الأصوات بما يجعله ثالث أكبر الأحزاب في البلاد، وكذلك في انتخابات السّويد حيث حصل (الحزب الدّيمقراطي اليميني) على 13% من الأصوات، وفي انتخابات اليونان حيث حصل حزب (الفجر الذّهبي) المصنّف كنازي جديد على 18 مقعدًا في البرلمان..وقس على ذلك حزب (رابطة الشّمال) الإيطالي وحزب (الاستقلال) البريطاني وسائر الأحزاب اليمينيّة المتطرّفة في الدّنمارك وبلجيكا وسلوفينيا وصربيا وفنلندا وبلغاريا..بما يُنبئ بأنّها تتأهّب لرسم ملامح أوروبّا الجديدة بمواصفاتها المتطرّفة..
تداعيات خطيرة
هذه الأرقام المفزعة لها تداعيات مباشرة خطيرة على الخطاب السياسي والخارطة السياسيّة في أوروبا: فتنامي قوّة اليمين المتطرّف يُرغم كافّة الأطياف الحزبيّة على محاولة التّأقلم معه وتنقيح خطابها وتكييف استراتيجيّاتها تُجاههُ، لاسيّما أنّه يمثّل حجمًا سياسيًّا وثقلاً بشريًّا يُقرأُ له ألف حساب..وقد تجسّد هذا التمشّي على أرض الواقع بعدّة أشكال، أوّلاً: عبر الدّخول مع الأحزاب اليمينيّة المتطرّفة في تحالفات وائتلافات للمشاركة في الحكومات على غرار حزب الحريّة النمساوي الذي اعتلى سدّة الحكم ضمن ائتلاف مع حزب المحافظين بـ 40 مقعدًا من أصل 183، وعلى غرار حزب يمين الوسط في بلغاريا الذي يحكم منذ 2017 مع ائتلاف من الأحزاب القوميّة..ثانيًا: عبر التنظّم في جبهات وتأسيس منظّمات وحركات لتنسيق الجهود اليمينيّة الأوروبية على غرار منظّمة (مدن ضدّ الأسلمة) التي تهدف إلى مكافحة انتشار الإسلام في أوروبا، وحركة (بيجيدا) التي تعرّف نفسها بأنّها حركة (مواطنين أوروبيّين ضدّ أسلمة الغرب)، ومجموعة (أوروبا الأمم والحريّات) التي تأسّست سنة 2015 داخل البرلمان الأوروبي نفسه.. ثالثًا: عبر عقد المؤتمرات والاجتماعات الدّاعية إلى رصّ الصّفوف وتوحيد المواقف اليمينيّة الأوروبيّة لمواجهة الأخطار المشتركة على غرار المؤتمر الذي انعقد في ألمانيا (جانفي 2017) لإقامة جبهة يمينيّة أوروبيّة موحّدة، وقد وُصف بأنّه (قمّة أوروبيّة موازية)، وعلى غرار المؤتمر الذي عُقد بالعاصمة التشيكيّة براغ (16 ديسمبر 2017) لتنسيق سياساتهم ضدّ الهجرة تحت شعار (من أجل أوروبا للأمم ذات السّيادة)..بما يُنبئ بتضييق الخناق على الأجانب عامّةً والمسلمين خاصّة والحدّ من حريّاتهم والتدخّل في خصوصيّاتهم الثقافية والعقائديّة وإذكاء صراع الحضارات ضدّهم..
عوامل الصّعود
إنّ نجاح اليمين المتطرّف في اكتساح العقل والوسط السياسي الأوروبييّن يرجع عمومًا إلى تركيزه على قضايا الهجرة والإرهاب وانعدام الأمن والتقلّبات الاقتصاديّة، وهي قضايا آنيّة حارقة تدغدغ مشاعر الرّأي العام الأوروبي المتأزّم المتخوّف من المستقبل وتثير فيه هواجس غريزة البقاء..ومّما لا شكّ فيه أنّ التطرّف اليميني موجود بالقوّة في عمق الكيان الأوروبي كامن فيه سرعان ما ينتقل إلى الوجود بالفعل حيال أيّ أزمة تتهدّده، وقد طفا مؤخّرًا على سطح الأحداث بسبب أزمة الهويّة التي تمرّ بها القارّة العجوز: فقد شهد المسرح الأوروبي جملة من الأحداث الجسام التي أدّت إلى تقوقع الشعوب والأنظمة على ذاتها ورفضها للآخر المغاير وشيطنته..أوّل هذه الأحداث انهيار الاتّحاد السوفياتي وتفكّك الكتلة الشرقيّة، ذلك أنّ الدّول التي ظهرت على أنقاضه بدأت تعود إلى أصولها العرقيّة ممّا أذكى النّعرات القوميّة لاسيما في البلقان..ثاني الأحداث تأسيس الاتّحاد الأوروبي سنة 1992 وتسارع الاندماج الأوروبي فيه ممّا أذكى المخاوف من فقدان الخصوصيّة والمحليّة والذّوبان في الآخر والاندثار.. ثالث هذه الأحداث ظهور الأزمة الماليّة العالميّة لسنة 2008 التي أدّت إلى انتشار البطالة والرّكود الاقتصادي.. رابع هذه الأحداث تنامي حركة الهجرة واللّجوء إلى أوروبا من طرف المسلمين مع القمع الدّموي الوحشي لاحتجاجات الرّبيع العربي وتدهور الأوضاع المعيشيّة الاقتصاديّة ما أغرق القارّة العجوز بسيل هادر من المسلمين..خامس هذه الأحداث تنامي الحوادث الإرهابيّة المفتعلة على الأراضي الأوروبيّة (تشارلي هيبدو ـ بروكسل..) فقد ساهمت في تأجيج ظاهرة التوجّس من الآخر العربي المسلم واتّخذت لها شكل (الإسلاموفوبيا) أي الخوف المرضي من الإسلام والمسلمين والرغبة في التخلّص منهم بأيّ ثمن..سادس هذه الأحداث وصول اليميني المتطرّف (ترامب) إلى السلطة في الولايات المتّحدة بخطابه العنصري الأرعن، وخروج بريطانيا من الاتّحاد الأوروبي: فقد أعطى ذلك دفعًا للتيّار اليميني في أوروبا وكشف له أنّ حلمه يمكن أن يتحقّق وأغراه بالنّسج على المنوال..هذه الأحداث مع زيادة منافسة المهاجرين على الوظائف ولقمة العيش في ظلّ نسبة البطالة المرتفعة في أوروبا وفي ظلّ الصّحوة الإسلاميّة وارتفاع نسق انتشار الإسلام في أوروبا وبروز الظاهرة الجهاديّة في بؤر التوتّر وانخراط الإسلاميّين الأوروبيّين فيها، كلّ ذلك أدّى إلى زيادة مخاوف الأوروبيّين على هويّتهم الثقافيّة وعاداتهم وتقاليدهم وعلى الجنس الأوروبي مع الخوف من اختفاء دولة الرّفاهية..وكان من الطّبيعي مع فشل الأحزاب الكلاسيكيّة في تجاوز تلك الأزمات أن تتحوّل وجهة النّاخب الأوروبي نحو اليمين المتطرّف..