حدّث أبو ذرّ التونسي: بتاريخ الثلاثاء 16/10/2018 احتضن نزل المشتل بالعاصمة حلقة دراسيّة بعنوان (معاضدة أموال الزّكاة لميزانيّة الدّولة) نظّمتها الجمعيّة التونسيّة لعلوم الزّكاة تحت إشراف وزير الشؤون الدّينيّة (أحمد عظّوم) ونظيره للشؤون الاجتماعيّة (محمّد الطّرابلسي)…أمّا عن فعاليّاتها، فقد تولّى خلالها ثلّة من المسؤولين والخبراء والممثلين لبعض الكتل النيابيّة والهياكل الرّسميّة والمهنيّة مناقشة مقترح ما فتئ يُطبخ على نار هادئة منذ مطلع العقد الثّاني من القرن الحالي ويتمثّل في تأسيس صندوق للزكاة والصّدقات والهبات يتولّى ـ نظريًّا ـ المساهمة في دعم تدخّلات الدّولة الاجتماعيّة المستهدفة للفئات الضعيفة…وتأتي هذه الحلقة تزامنًا مع إيداع مشروع قانون الماليّة لسنة 2019 وفي ظلّ أزمة اقتصاديّة واجتماعيّة وسياسيّة تعصف بالبلاد مع عجز مزمن في الميزانيّة واستفحال مشطّ للمديونيّة…وللتذكير فإنّ فكرة (صندوق الزكاة) نشأت منذ عهد المخلوع بن علي إلاّ أنّها لم تُعامل بجديّة ولم تلق الدّعم والرّواج والقبول، فوُئِدت في مهدها واستُبدلت بصندوق التّضامن الوطني 26/26 الذي فرض على النّاس (تبرُّعًا سنويًّا إجباريًّا) لم يُستثن منه حتّى أطفال المدارس الابتدائيّة…مباشرةً بعد الثورة أحيت حركة النّهضة فكرة الصندوق مجدّدًا وأنشأت لها حاضنتها الجمعياتيّة القانونيّة ممثّلةً في (الجمعيّة التونسيّة لعلوم الزّكاة) التي رأت النّور سنة 2011 وقدّمت نفسها بوصفها (مرجعا علميًّا وتوعويًّا في فقه الزّكاة وهيكلاً مختصًّا في احتساب الزّكاة للمؤسّسات والأفراد وتنظيم الدّورات التحسيسيّة للحثّ على أدائها)…وقد انخرطت هذه الجمعيّة في تحقيق أهدافها بنسق ما فتئ يتصاعد مع تصاعد وتيرة الأزمة في البلاد إلى أن بلغ سرعته القصوى سنة 2017 حيث تضاعفت الحصص التحسيسيّة والبرامج الإذاعيّة والتلفزيّة (قنوات الزيتونة) وورشات العمل وحلقات النّقاش والإصدارات والنّشريّات…وقد تمخّض هذا الحراك سنة 2018 عن مقترح (صندوق الصدقات والزّكاة) الذي يبدو أنّ السلطة جادّة هذه المرّة في بعثه وتدعيمه وتوظيف مداخيله لإنعاش ميزانيّة الدّولة ومعالجة الأزمة المركّبة التي تمرّ بها البلاد…
النفعيّة المتوحّشة
يبدو أنّ مبد أ النفعيّة الذي تقوم عليه المنظومة الرّأسماليّة الديمقراطيّة قد استنزف ذاته في تعامُله مع المسلمين بحيث فجّر كامل الطاقة الكامنة فيه بشكل متوحّش وجائر: فبعد أن برّر للكافر المستعمر جرائمه المقترفة في حقّ ثروات العالم الإسلامي ومقدّراته الماديّة، ها هو يغريه بثروته المعنويّة ومخزونها القيمي والأخلاقي والفقهي…فمع دخول المبدأ الرّأسمالي في حلقة مفرغة من الأزمات اتّجهت أنظار ساسته ومنظّريه إلى الإسلام والمسلمين بوصفهم رصيدًا اقتصاديًّا استثماريًّا ربحيًّا قادرًا على إيجاد حلول ومخارج للمنظومة الرّأسمالية المتهالكة بما يمكنُّها من تجاوز أزمتها…على هذا الأساس ومنذ مطلع العقد الأخير من القرن المنصرم بدأ الحديث عن الماليّة الإسلاميّة والتنظير للصيرفة الإسلاميّة والبنوك الإسلاميّة والسندات الإسلاميّة والترويج لهذا التوجّه الاقتصادي…ثم سرعان ما قامت في العالم الإسلامي على أساس هذه الرّؤية مؤسّسات بنكيّة ودور إقراض ومنظومات ماليّة تدّعي أنّها غير ربويّة فيما هي تتحايل على الرّبى وتلتفّ حوله وتلبسه جبّة الإسلام ابتزازًا للوازع الدّيني الرّوحاني واستدراجًا للرّساميل الإسلاميّة وإغراءً للحرفاء المسلمين، كما نشطت (تجارة الحلال) في الغرب وحقّقت أرقام معاملات خياليّة…ولم تشذّ تونس عن هذا التمشّي بل تظافرت فيها النّفعية مع الواقعيّة ممثّلة في ضرورة التّعامل مع الصّحوة الإسلاميّة واحتوائها وتوظيفها، فنشطت فيها الصّيرفة الإسلاميّة هي الأخرى (بنك الزّيتونة ـ التأمينات التّكافليّة ـ مصرف البركة…)، إلاّ أنّ للتجربة التونسيّة خصوصيّتها المحليّة، فهي ترمي أساسًا لإسناد النظام الحاكم وستر عورته وإنعاش ميزانيّته: فالدّولة التي مكّنت الكافر المستعمر من مقدّرات البلاد ورهنت اقتصادها لصندوق النّقد الدّولي والاستثمار الأجنبي وفوّتت في مؤسّساتها العموميّة للقطاع الخاص واستقالت كليّةً عن رعاية الشؤون التجأت إلى آخر الطبّ لتجاوز أزمتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة عن طريق استدرار عطف النّاس ومشاعرهم الدّينية تحت لواء التضامن والتكافل والاضطلاع بالواجب، وأوكلت أمر هذه المهمّة القذرة لحركة النّهضة وللجمعيّات الدّائرة في فلكها، فكانت المطالبة باستعادة الأوقاف الإسلاميّة المعطّلة، والمطالبة بإنشاء صندوق للصدقات والزّكاة…
آخر الطبّ صندوق
في هذا الإطار بالذّات خرجت الجمعية التونسيّة لعلوم الزّكاة من جبّة حركة النّهضة، ولإنجاز هذه المهمّة بالذّات وُلد من رحمها صندوق الصّدقات والزّكاة: وضع اليد على هبات المسلمين وزكواتهم وتوظيفها من أجل ستر عورة النظام والتغطية على عجزه وفشله بما يُمكّن الفساد المحلّي والنّهب الخارجي الاستعماري من الانتعاش والديمومة…فكرة إنشاء هذا الصّندوق قامت على حقّ أريد به باطل: عدم وجود إطار قانوني يتولّى جمع الزّكاة وتوزيعها على مستحقّيها رغم الإقبال الجماهيري الطّوعي على أدائها…وعوض التوسّل بالطّريقة الشرعيّة لتحقيق هذا الهدف (إقامة الدّولة الإسلاميّة ومبايعة خليفة ينوب عن الأمّة في تطبيق الإسلام وحمل رسالته إلى العالمين) انصبّ اهتمام (مشائخ الاستعمار) نحو فكرة إدماج أموال الزّكاة في الاقتصاد التونسي واعتبار الزّكاة آلية اقتصاديّة ومكوّنًا من مكوّنات ما أسموه (الاقتصاد التّضامني) رائدهم في ذلك (مصلحة الوطن والالتزام بالدّستور)…على هذا الأساس وبالاستناد إلى المذهب المالكي (مع الاستئناس بالتجارب العالميّة طبعًا) توصّلت الجامعة الزّيتونيّة ووزارة الشؤون الدّينية إلى تصوّر أوّلي لصندوق الزّكاة بوصفه إطارًا قانونيًّا منظّمًا لمصارف الزّكاة ـ استخلاصًا و توزيعًا ـ يكون في شكل حساب خاصّ مدمج في وزارة الماليّة تتولّى الدّولة ضبطه والإشراف عليه ـ تنظيمًا وتسييرًا وتمويلاً ـ وتوظّف عائداته لدعم التدخّلات الاجتماعيّة المستهدفة للفئات الضّعيفة (بما يعزّز التّكافل الاجتماعي ويذكي مشاعر المواطنة ويقلّص الفوارق بين الفئات ويحقّق العدالة الاجتماعيّة في توزيع الثّروات)…أمّا عن صبغة هذا الصّندوق فهي طوعيّة في شكل (اقتطاع تضامني) غير جبري يؤخذ باعتماد الوعاء الضّريبي ممّن يتطوّعون ويلتزمون بدفعه…
معاضدة الميزانيّة
وكما يوحي بذلك عنوان المداخلة العلميّة للحلقة الدراسيّة (معاضدة أموال الزّكاة لميزانيّة الدّولة) فإنّ هذا الصّندوق في تصوّر واضعيه قد تعامل مع واجب الزّكاة تعاملاً براقماتيًّا نفعيًّا بوصفها غنيمة ماليّة تنعش ميزانيّة الدّولة وتخفي عجزها وقصورها وتحلّ أزمتها: فقد انطلقوا من مصادرة مفادها أنّ الزكوات التي تُعطى بشكل فردي وشخصي خارج إطار الدّولة هي (مبالغ ماليّة كبرى مهدورة كان يمكن لها أن تحلّ الكثير من المشاكل الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تعصف بالبلاد)…ومن هنا دعوا إلى (وجوب تقنينها وضبط عمليّة جمعها وتوزيعها تحت إشراف الدّولة ثمّ إدماجها في الميزانيّة وضخّها في الدّورة الاقتصاديّة للبلاد)….وللتدليل على أهميّة هذه المبالغ قام خبراء الجمعيّة التونسيّة لعلوم الزّكاة بدراسة علميّة لمجموع أموال الزّكاة في تونس سنة 2017 مستندين إلى إحصائيات دقيقة من الهياكل الرّسمية حول بعض المنتوجات الفلاحيّة (تمور ـ زيتون ـ قوارص ـ عنب ـ لحوم ـ بيض ـ حبوب) وحول الأموال المدّخرة والمودعة في البنوك والمستثمرة في البورصة وأموال الشّركات وتجارة الذّهب…وأثبتوا أنّ المقدار الجملي للزكاة قد بلغ 5015 مليون دينار أي ما يعادل قيمة عجز ميزانيّة الدّولة لسنة 2018 ويمثّل حوالي 12% من ميزانيّة 2019…وهذا الرّقم الخيالي يمكن له تغطية جزء كبير من نفقات التصرّف في ميزانيّة الدّولة مثل تمويل المشاريع الاجتماعيّة المستهدفة للمعوزين والمعوقين ودعم البرامج الاجتماعيّة صُلب ميزانيّة وزارة الفلاحة ووزارة الصحّة والبيئة والتّعليم العالي، كما يمكن له أن يموّل صندوق دعم الموادّ الأساسيّة…وعلى ضوء ذلك خَلُصت الجمعيّة إلى أنّ ضخّ أموال الزّكاة صلب ميزانيّة الدّولة أضحى (حاجة ملحّة في ظلّ الصّعوبات الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي يعيشها المواطن والاقتصاد التونسي على حدّ السّواء)…
الزّكاة شرعًا
قبل محاكمة (صندوق الصدقات والزّكاة) من زاوية العقيدة الإسلاميّة من المفيد منهجيًّا أن نقف عند مفهوم الزّكاة شرعًا من حيث تعريفها وواقعها ومستحقّوها ومصارفها وعلاقتها بميزانيّة الدّولة وبرعاية الشّؤون عمومًا…فالزّكاة تُعرّف شرْعًا بأنّها (حقًّ مُقدّرٌ يجب في أموال مُعيّنة) وهي عبادة ماليّة تؤخذ من المسلمين وتُعتبر رُكنًا من أركان الإسلام وقد شُرّعت طُهرةً للمال وسببًا في نمائه وطُهرةً للنّفس من رذيلة البخل وسائر الذّنوب…أمّا حكمها فهي فرض عين على كلّ مسلم يملك النّصاب فاضلاً عن ديونه ويمضي عليه الحول يستوي في ذلك الرّجال والنّساء الكبار منهم والصّغار والعقلاء والمجانين…ولا تُعتبر جباية الزّكاة مُسايرةً لاحتياجات الدّولة حسب مصلحة الأمّة كأموال الضّرائب، بل هي حقّ للأصناف الثمّانية الذين عيّنهم الله تعالى في الآية 60 من سورة التوبة (إنّما الصّدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلّفة قلوبهم وفي الرّقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السّبيل)، وهذا الحقّ يجب أن يُدفع لبيت المال متى وجب سواء أكانت هناك حاجة أم لم تكن…والزّكاة ليست حقًّا من حقوق بيت المال ولا مستحقّة لهُ وإنّما هي حقّ مستحقّ للأصناف الثمانية الذين عيّنهم الله تعالى، وما بيت المال إلاّ مجرّد حرز أي حفظ لها لِتُصرف إلى من عيّنتهم الآية حسب رأي الإمام واجتهاده، لذلك يُفرد لمال الزّكاة مكان خاصّ في بيت المال ولا يُخلط بأيّ مال آخر لأنّ الله تعالى قد حصر مُستحقّيها فلا يجوز أن يُعطى منها غيرهم…هذا هو التّعريف الشّرعي للزّكاة وممّا يُفهم منه أنّها عبادةٌ واجبة وليست ضريبة وأنّها تُعطى للدّولة الإسلاميّة وأنّ مصارفها محدّدة شرعًا و تُصرف لهم حسب رأي الخليفة واجتهاده وأنّها لا تُعتبر من مداخيل ميزانيّة الدّولة ولا تدخل في الدّورة الاقتصاديّة للبلاد…
زكاة أم ضريبة..؟؟
على ضوء التعريف الشرعي للزكاة يمكن لنا أن نستنتج دون عناء أنّ صندوق الصدقات والزكاة أبعد ما يكون عن الإطار الشرعي للزكاة ـ تصوُّرًا ووظيفةً وواقعًا ـ فمن حيث التصوّر والتّصميم فإنّ إنشاء مثل هذا الهيكل ينمّ عن تعامل انتقائيّ نفعي مع الأحكام الشرعيّ بعقليّة غير إي إسلاميّة، كما ينمّ هن منزع استغلالي توظيفي لفريضة الزّكاة: صحيح أنّ الإسلام علاج وبلسم شافٍ ولكنّ ذلك بوصفه منظومة حياة كاملة متكاملة، فالإسلام يؤخذ بكليّته وهو علاج في كليّته لا في جزئيّته، أمّا أن ننتقي منه معالجة جزئيّة مثل الزّكاة على أساس مصلحي وننزّلها في غير مناطها الشّرعي (الدّولة الإسلاميّة) ونوكلها لغير جهتها (رأي الخليفة واجتهاده) فهذا لا يحقّق النتيجة الشرعيّة المرجوّة ولا يكون تحاكمًا إلى الإسلام ولا تعامُلا به…أمّا من حيث وظيفة صندوق الزّكاة فهي مناقضة للهدف الشّرعي من الزّكاة (التّطهير والنّماء) فلقد وُظِّف الصندوق لمصادرة أموال الزّكاة وتحويل وجهتها عن مستحقّيها الشرعيّين وعن هدفها التعبّدي السامي نحو هدف سياسي وضيع يؤدّي إلى إتلافها عبر ضخّها في الدّورة الاقتصاديّة لإنعاش ميزانيّة نظام العمالة والتبعيّة ومساعدته على تجاوز مأزقه وأزمته بما يطيل عمره ويمكّن للفساد والنّهب في الأرض التونسيّة…وأمّا من حيث واقع صندوق الزّكاة فإنّ معاملاته لا تمتّ إلى الزّكاة الشرعيّة بصلة: فمداخيله ليست حقًّا مقدّرًا وواجبًا تعبّديًّا بل مجرّدة (اقتطاع تضامني طوعي)، ومصارف أمواله لا علاقة لها بالأصناف الثمانية الذين عيّنهم الله تعالى (إعانات ومنح جماعيّة ـ تعويض أضرار فلاحيّة ـ دعم الموادّ الأساسيّة ـ تدخّلات اجتماعيّة وبرامج تنمويّة…) هذا فضلاً عن كونه مُدمجًا في ميزانيّة الدّولة مستوعبًا في الدّورة الاقتصاديّة كسائر المداخيل…فهذا الصّندوق ما هو في النّهاية إلاّ وعاء تضليليّ لضريبة جديدة تُثقل كاهل الشعب وتُساق في جبّة الإسلام تسويقا لها لإنعاش ميزانيّة الدولة وتبييض الفساد المحلّي والنهب الاستعماريّ…