عقليّة الوسط السياسي في تونس والعمى المستدام
أعلن المعهد الوطني للإحصاء، يوم الخميس 15 فيفري 2024، أنّ عدد العاطلين عن العمل ارتفع في الثلاثي الرابع من سنة 2023 بنحو 667.5 ألف مقابل 638.1 ألف في الثلاثي الثالث من نفس السنة أي بارتفاع قدره 29,4 ألفًا.ووفق ما جاء في التقرير، فقد ارتفعت نسبة البطالة لدى الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة خلال الثلاثي الرابع من سنة 2023 لتبلغ 40.9% مقابل 39.1% خلال الثلاثي الثالث من سنة 2023 و38.8% خلال الثلاثي الرابع من سنة 2022.
فما هي دلالات هذه الأرقام؟
القراءة الأولىلهذه الأرقام ترينا أنّ البلد مصاب بالشّلل النّصفي، إذ ما يقرب من نصف شبابه عاطلون عن العمل، زد على ذلك بطالة أصحاب الشّهائد العليا ومنهم قرابة 5000 حاصل على الدّكتوراه (وهي أرفع درجة أكاديميّة وعلميّة يبلغها أيّ متعلّم).والسّؤال هنا لماذا يعاني أصحاب الشّهائد العليا البطالة؟ والحال أنّهم ثروة البلاد، رأسمالها الحقيقيّ وطاقتها الأساسيّة في البناء، ولكنّنا بدل أن نفرح بشبابنا وقدراتهم ونجاحاتهم، تجدنا نُحصي أعدادهم معطّلين عن العمل، أو مهاجرين فارّين من البلاد، أو ربّما منحرفين استولى عليهم عالم الجريمة. أو ناجحين متألّقين في جامعات أمريكيّة أو فرنسيّة غير أنّ ثمرة أعمالهم وزهرتها لفرنسا وأمريكا وليس لنا منها إلّا الفخر المزيّف الكاذب؟
كلّ مجتمع يعلّم أبناءه ويكوّنهم من أجل أن يبني نفسه ويتقدّم، ولذلك فالأصل في أيّ دولة تحترم نفسها أن تضع السّياسات وتحدّد الأهداف، التي سيتولّى شبابُها القيام بها وتنفيذها، والسّؤال هنا، هل أعدّت السّلطة في تونس المشاريع التي تستوعب شبابها؟ هل من سياسات واضحة الأهداف والمعالم تستثمر كلّ هذه الأعداد التي خرجت لتوّها إلى الحياة تريد أن تعمل وتنشط؟ ولكن أين السّياسات؟ لا سياسات مرسومة لاستيعابهم واستثمار قدراتهم فضلا عن تطويرها، ولا مشاريع تنتظرهم للإنجاز.
هذا ما نعنيه بالضّبط انعدام الرؤية. فالعمى هو الميزة الأساسيّة للفئة السّياسيّة في تونس مهما تبدّلت الوجوه وتغيّرت.
والسّبب الرئيس في هذا العمى المستشري
أنّ العقليّة عند الطّبقة السّياسيّة المسيّرة للبلاد هي عقليّة تبعيّة، لا ترى إلّا اتّباع أوروبا التي عملت منذ أن استعمرت بلادنا على ربط تونس بها لتكون مجرّد ملحق من ملحقات أوروبا، تستمدّ منها الموادّ الخام واليد العاملة الرّخيصة، ولم يجد السّياسيّون الحاليّون غضاضة في الأمر فقبلوا بوظيفة التّابع الخدوم ووضعت السّياسات كما تحبّ أوروبا بذريعة أنّ البلاد مفلسة وأنّ أوروبا هي المموّل الرئيس، وطبعا فأوروبا لا تضع الأموال صدقة أو إحساسا بالذّنب بل هي تعطي الأموال مشروطة، لا بمصالحها التّجاريّة فحسب بل بمصالحها الاستراتيجيّة، ورأس المصالح عندها أن تبقى تونس بلدا ضعيفا مجرّد ملحق، لا يمكنه الاستقلال بحال من الأحوال، ولأجل ذلك وضعت السّياسات لتكون الشّركات الغربيّة هي المهيمنة على الثّروات، ومنعت البلاد (وسايرها السّياسيّون) من التّوجّه نحو ثورة صناعيّة تكون رأس الحربة في اقتصاد قويّ يستوعب كلّ إمكانيّاتنا، وانصرف العملاء (أو صُرفوا، لا فرق) إلى قطاعات اقتصاديّة هامشيّة، رأسها السّياحة التي كانت ولا تزال سببا في تدمير قطاع الفلاحة إذ إضافة على استحواذها على مناطق فلاحيّة خصبة وشاسعة (الوطن القبلي، السّاحل…) فقد استقطبت اليد العاملة الفلاحيّة، ممّا أوجد خللا في توزيع الموارد البشريّة، فالآلاف من العاملين في قطاع السياحة مثلا كانوا في الأصل من اليد العاملة الفلاحيّة جذبتهم السياحة نظرا لأنّ الدّولة أهملت الفلاحة، فلم يعد مردودها مغريا أو كافيا، ونظرا للأحلام التي بناها شباب تونس من وراء اشتغالهم في السياحة وهي الطّمع في الهجرة… والحصيلة أنّ عمّال السياحة وهم موسميّون لا هم حقّقوا حلم الهجرة ولا هم رجعوا إلى العمل الفلاحي مرّة أخرى فكانت النّتيجة جيوشا من العاطلين الموسميين. وفي المقابل تعطّلت إمكانيّات الفلاحة الهائلة (وهنا نتحدّث عن البطالة المصطنعة الذي ولّدها سوء التّصرّف النّاتج عن سيطرة المستعمر الذي وجّه عملاءه إلى هذا القطاع)
وكذلك الأمر بالنّسبة إلى أصحاب الشّهائد فقد زعم المقبور بورقيبة أنّ ثروة تونس في أدمغتها (المادّة الشّخمة)، فكان التّعليم من أجل تخريج كوادر صالحة للارتباط بالشّركات الأوروبيّة، وواصل بن علي نفس المسيرة، في مطلع التّسعينات من القرن الماضي ملأ حديث الاستثمار الأجنبي المباشر الآفاق، وهرولت تونس نحو اتّفاقيّة مع الاتّحاد الأوروبي وكان من شروطهم تهيئة البنية التّحتيّة للشركات الأجنبيّة وتهيئة اليد العاملة ذات المهارة القادرة على مواكبة التطوّرات التكنولوجيّة فكان “إصلاح التّعليم” المزعوم، ووقع توجيه أغلب الناجحين في الباكالوريا إلى المعاهد العليا للدّراسات التكنولوجيّة التي انتشرت في كامل البلاد من أجل إعداد التّقنيين الذين قد تحتاجهم الشّركات الأجنبيّة، فأعدّ بن علي مخطّطات خماسيّة وعشريّة، وتخرّج عشرات الآلاف من التقنيين والتقنيين السّامين والمهندسين، ولكنّ الشّركات الأجنبيّة لم تأت للاستثمار في تونس إلا قليلا رغم الامتيازات.
فماذا كانت الحصيلة؟ جيوش من العاطلين من أصحاب الشّهادات العليا الذي بدأت تطالهم البطالة منذ 1995 وظلّت أعدادهم تتضاعف كلّ عام حتّى كاد يبلغ المليون، هكذا صنعت التبعيّة البطالة في تونس ومن ثمّ صنعت الجوع ودفعت جموع الشّباب دفعا إلى الهجرة نظاميّة وغير نظاميّة.
وبعد الثوّرة تواصلت نفس العقليّة عقليّة الارتباط بأوروبا، وانحصر تفكير السياسيين و”خبراء” الاقتصاد، في الاستثمار الأجنبي المباشر، ولكنّ المستثمر لم يأت (ولا يبدو أنّه سيأتي) وما زالت أعداد الخرّيجين تزداد بل تتضاعفُ، وبدل أن يستفيق “الخبراء”، تراهم يفسّرون سبب إحجام المستثمرين، وأنّ مناخ الأعمال في تونس غير مناسب، وأنّ الحلّ عندهم تهيئة مناخ الأعمال وجعله مناسبا. وتمرّ الأيّام وتتعقّد الأزمات، وتتغيّر الوجوه والدّستور والبرلمان و… ولا تتغيّر العقليّة عقليّة التبعيّة، ويتواصل نفس العمى، البحث عن مناخ أعمال مناسب للمستثمر، فيذهب رئيس الحكومة إلى دافوس، ووزير الخارجيّة إلى كلّ مكان مدافعين عن مسار 25 جويلية ومطمئنين للمانحين الأجانب أنّ البلاد ماضية في الإصلاحات المطلوبة.
وواضح أنّ السّلطات الجديدة لم تغيّر من سياسات (ما تصفه بالعشريّة السّوداء) بل تواصلها وتبني عليها، فتلتزم التزاما بتجميد الانتدابات، وتمضي في تنفيذ ما لم يقدر عليه أصحاب العشريّة السّوداء: رفع الدّعم (وما أدراك ما رفع الدّعم) الذي لم يقدر عليه لا بورقيبة بدهائه ومكره ولا بن علي ببطشه وقمعه ولا أصحاب العشريّة السّوداء بتلوّنهم وتملّقهم. ولكنّ أبطال 25 جويلية، جعلوه أمرا واقعا، في غمرة الحديث عن الفساد والفاسدين الذي صار تبريرا مناسبا للاعتقالات التي تتالى كلّ يوم فتأتينا الأخبار باعتقالات من وزن ثقيل أو هكذا يُراد لها، فلا يمرّ يوم إلّا ونسمع باعتقال وزير سابق أو وال سابق أو موظّف سام والتّهمة تعطيل الدّولة. ليقع الإيهام الكبير بأنّ المسؤولين بعد 25 جويلية جاؤوا فعلا لتصحيح مسار الثّورة، وتخليص البلاد من الفاسدين وممّن عطّل دواليبها. هذا مع الوعود بأنّ سنة 2024 ستكون سنة الإقلاع كما قالت وزيرة الماليّة.
وهذا لا معنى له إلّا أنّ البلاد صارت جاهزة (بعد الشّروع في الإصلاح)، ولم يبق إلّا أن يُوافق صندوق النّقد على القرض وتنفتح أسواق الإقراض العالمي أمام تونس من أجل إتمام تجهيز البلاد ومناخ الأعمال فيها. لتكون ملحقا من ملحقات أوروبا والغرب.
البحث عن رضا صندوق النّقد:
رغم ما يُشاع من اعتراض الرئيس على الصّندوق وشروطه، ولكنّ إعفاء محافظ البنك المركزي وتعيين فتحي النّوري محافظا جديدا للبنك المركزي، (الذي صرّح لإحدى الإذاعات الخاصّة أسابيع قليلة قبل تعيينه، بأنّ قرض الصّندوق لا بديل عنه وأنّ الخضوع لشروطه أمر حتميّ مع إمكانيّة تحسينها بالمفاوضات)، يؤكّد أنّ سياسات العمى والتبعيّة هي نفسها وبنفس الأساليب. وأنّ قادم الأيّام سيكون خضوعا للصّندوق في هيأة الرّافض.
والخلاصة أنّ تونس هذا الجزء العزيز من بلاد الإسلام، ما زال عليلا مريضا ابتُلي بأشباه سياسيين وأشباه حكّام أصابوه بالشّلل النّصفي بطالة مصطنعة، مركّبة، عطّلت شباب تونس طاقاته وإمكاناته، تريد أن تسخّره للشّركات الغربيّة.
ولكنّ الوقت غير الوقت، فقد استدار الزّمان واستجدّ الوعي الذي تجاوز أشباه السّياسيين، تطلّعا إلى أفق أرحب حيث التّحرّر الحقيقي من الغرب وفكره وهيمنته.
CATEGORIES كلمة العدد