علماء الزّيتونة والسياسة
الحمد لله والصّلاة والسّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
تعريف السياسة:
جاء في لسان العرب لابن منظور: “سَاس الأَمرَ سِياسةً قام به… ويقال سُوِّسَ فلانٌ أَمرَ بني فلان أَي كُلِّف سِياستهم… وفلان مُجرّب قد ساسَ وسِيسَ عليه أَي أَمَرَ وأُمِرَ عليه، وفي الحديث كان بنو إِسرائيل يَسُوسُهم أنبياؤهم أَي تتولى أُمورَهم كما يفعل الأُمَراء والوُلاة بالرَّعِيَّة، والسِّياسةُ القيامُ على الشيء بما يُصْلِحه. والسياسةُ فعل السائس يقال: هو يَسُوسُ الدوابَّ إِذا قام عليها وراضَها…”.وفي تاج العروس للزبيدي: “ومن المجَازِ: سُسْتُ الرَّعِيَّةَ سِيَاسَةً بالكَسْرِ: أَمَرْتُهَا ونَهَيْتُهَا. وساسَ الأَمْرَ سِيَاسَةً: قامَ به… والسِّيَاسَةُ: القِيامُ على الشْيءِ بما يُصْلِحُه”.وفي المفردات للراغب الأصفهاني: “ويسمى كل سائس لنفسه أو لغيره راعيا وروي: (كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)”.
فكلمة “السياسة” إذنكلمة عربية فصيحة، وهي تطلق في الأصل على رعاية الدّابة وترويضها، ثم استعملت مجازا في رعاية أمور الناس، وتدبير شؤونهم. ومن شواهد استعمال اللفظ على الحقيقة أي على رعاية الدّابة ما أخرج مسلم في صحيحه عن ابن أبي مليكة أن أسماء (بنت أبي بكر) قالت: “كُنْتُ أَخْدُمُ الزُّبَيْرَ خِدْمَةَ الْبَيْتِ، وَكَانَ لَهُ فَرَسٌ، وَكُنْتُ أَسُوسُهُ، فَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْخِدْمَةِ شَيْءٌ أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ سِيَاسَةِ الْفَرَسِ، كُنْتُ أَحْتَشُّ لَهُ وَأَقُومُ عَلَيْهِ وَأَسُوسُهُ، قَالَ: ثُمَّ إِنَّهَا أَصَابَتْ خَادِمًا، «جَاءَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَبْيٌ فَأَعْطَاهَا خَادِمًا»، قَالَتْ: كَفَتْنِي سِيَاسَةَ الْفَرَسِ، فَأَلْقَتْ عَنِّي مَؤنَتَهُ…”.
ومن شواهد استعمال اللفظ على سبيل المجاز أي بمعنى تولي أمر النّاس ورعاية شؤونهم ما أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ» قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: «فُوا بِبَيْعَةِ الأَوَّلِ فَالأَوَّلِ، أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ».وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن المستظلّ بن حصين قال: خطبنا عمر بن الخطاب فقال: “قَدْ عَلِمْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ مَتَى تَهْلِكُ الْعَرَبُ، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: مَتَى يَهْلِكُونَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: حِينَ يَسُوسُ أَمَرَهُمْ مَنْ لَمْ يُعَالِجْ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَمْ يَصْحَبِ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم”.
الدّين والسياسة:
لا يعرف الإسلام الفصل بين الدّين والسياسة، فهو عقيدة ونظام يرعى شؤون الدنيا والآخرة على حدّ سواء. ولا يعرف الإسلام القسمة الغربية الطبقية التي تجعل للدنيا طبقة تسمّيهم رجال السياسة (أو رجال الدولة) وتجعل للآخرة طبقة تسمّيهم رجال الدّين. فهذا المفهوم من المفاهيم الغريبة عن ثقافتنا وحضارتنا.
وقد بيّن خير الدّين التونسي رحمه الله تعالى (1810 – 1890م) مدى الحاجة إلى اشتغال العلماء بالسياسة فقال: “هذا وإنّ الأمة الإسلامية لما كانت مقيّدة في أفعالها الدينية والدنيوية بالشرع السماوي، والحدود الإلهية الواردة على الميزان الأعدل، المتكفّلة بمصالح الدارين، وكانت ثمّة مصالح تمسّ الحاجة إليها، بل تتنزل منزلة الضرورة يحصل بها استقامة أمورهم وانتظام شؤونهم، لا يشهد لها من الشرع أصل خاص كما لا يشهد بردها، بل أصول الشريعة تقتضيها إجمالا وتلاحظها بعين الاعتبار، فالجري على مقتضيات مصالح الأمة والعمل بها حتى تحسن أحوالها، ويحرزوا قصب السبق في مضمار التقدّم، متوقف على الاجتماع وانتظام طائفة من الأمة ملتئمة من حملة الشريعة ورجال عارفين بالسياسات ومصالح الأمة متبصرين في الأحوال الداخلية والخارجية ومناشئ الضرر والنفع، يتعاون مجموع هؤلاء على نفع الأمة بجلب مصالحها ودرء مفاسدها… فرجال السياسة يدركون المصالح ومناشئ الضرر، والعلماء يطبقون العمل بمقتضاها على أصول الشريعة. وأنت إذا أحطت خبرا بما قررناه، علمت أنّ مخالطة العلماء لرجال السياسة بقصد التعاضد على المقصد المذكور، من أهم الواجبات شرعا؛ لعموم المصلحة… فالعالم إذا اختار العزلة والبعد عن أرباب السياسة فقد سدّ عن نفسه أبواب معرفة الأحوال المشار إليها، وفتح أبواب الجور للولاة… وحيث كانت إدارة المصالح السياسية مما لا يتيسر لغالب الولاة إجراؤها على الأصول الشرعية؛ لأسباب شتى يطول شرحها، وتقدمت الأدلة على ما يترتب على إبقاء تصرفاتهم بلا قيد من المضار الفادحة، رأينا أن العلماء الهداة جديرون بالتبصر في سياسة أوطانهم، واعتبار الخلل الواقع في أحوالها الداخلية والخارجية، وإعانة أرباب السياسة بترتيب تنظيمات منسوجة على منوال الشريعة…”.[1]
فهذا خير الدّين الذي يعدّ عند دعاة الحداثة من أعظم المصلحين يعتبر مخالطة العلماء للسياسة ضرورة يقتضيها التّعاضد على نفع الأمة ورعاية مصالحها.
وفي تاريخ تونس على وجه الخصوص، شواهد كثيرة تدحض مقولة انعزال العلماء عن السياسة؛ إذ كانوا ساسة فقهاء وفقهاء ساسة. ومثال ذلك: نجد في ترجمة الشيخ العلامة صالح بن حسين الكوّاش رحمه الله تعالى (ت1803م) ما يدلّ على اهتمام علماء الزيتونة بالسياسة ودقّة فهمهم لمعناها. “قال له الأمير علي باي مرة: يا أيها الشيخ، إنك جمعت من العلم والدّين ما تفرق في غيرك، ولكنك لا تحسن السياسة. فقال: أنا أعلم الناس بالسياسة، ولكنك تريد أن تخالف الشرع وأجاريك على ذلك، فإذا لم أجارك قلت إني لا أحسن السياسة”.[2]
ونجد أيضا في كتب التراجم مشاركة جمع من الفقهاء والعلماء من أساتذة الزيتونة في أعمال سياسية دبلوماسية كالسفارة، ومنهم الشيخ إبراهيم الرياحي (ت1850م)[3] والشيخ سالم بوحاجب (ت1924م) والشيخ صالح الشريف (ت1920م)[4] بل من العلماء من تولى منصب الوزارة وهو من أعلى الرتب الحكومية والسياسية كالشيخ محمد العزيز بوعتور (ت1907م) والشيخ يوسف جعيّط (ت1915م).
وقد عدّ محمد رشيد رضا مشاركة علماء الزيتونة في السياسة مفخرة من المفاخر التي حقّ للزيتونة أن تتباهى بها، فقال: “(وزراء تونس من العلماء): ذكرنا بهذا ما رأيناه في الجرائد التونسية الأخيرة من خبر وفاة الوزير الأكبر وجعل وزير القلم والاستشارة خلفا له، وجعل رئيس محكمتي الاستئناف من قبلخلفا لهذا. فالوزير المتوفى كان نابغا في العلوم العربية والدينية؛ إذ تلقاها في جامع الزيتونة حتى قيل: إنه يعد من طبقة أهل الترجيح في الفقه، وكذلك وزيرالقلم الجديد وهو الشيخ يوسف جعيّط فهو من أشهر المتخرجين في ذلك الجامع، وقددرس فيه ثم اشتغل بالسياسة، وتقلب في المناصب حتى صار اليوم وزير القلموالاستشارة، فهذان الوزيران قد دخلا باب السياسة، وهما شيخان زيتونيان بكلمعنى الكلمة كما يقول الغربيون، حتى ارتقيا إلى منصة الوزارة. فهل يخطر فيبال أحد من مدرسي الأزهر، أن يستعد لمثل ذلك حتى يكون أهلا للوزارة، أو لمادونها من أعمال الحكومة؟ كلّا، إنّ أحدا منهم لا يفكر في مثل هذا الاستعداد، ولو فعله أحد منهم لكان خيرا لهم، وأشدّ تثبيتا في العلم والدين…”.[5]
نعم، حدثت في تاريخنا حادثة ذكرها جمع من مؤرخي تونس تفيد امتناع بعض العلماء عن إبداء رأي في مسألة سياسية، وهي قانون عهد الأمان؛ إذ ذكر ابن أبي الضياف (ت1874م) في “الإتحاف” أنّهم تعلّلوا بأنّ المسألة سياسية وليست شرعيّة.
ففي سبتمبر 1857م أعلن الباي محمد بن حسين بن محمود (ت1859م) قانون عهد الأمان المبني على إحدى عشرة قاعدة منح من خلالها جميع سكان البلاد على اختلاف أديانهم ومذاهبهم الأمان في أبدانهم وأموالهم وأعراضهم، ووقع التنصيص فيه على حقّ التديّن دون إكراه، والمساواة في الحقوق العامّة وغير ذلك. وسبب صدور القانون قضية مقتل اليهودي المسمّى “باطو” الذي كان يخدم على كرطون [كريطة] للقائد نسيم رئيس اليهود لأنّه شتممسلما وسبّ دينه. فقتله الباي تنفيذا لحكم المجلس الشرعي الذي أفتى بقتله بلا استتابة،حسب المذهب المالكي وبخلاف المذهب الحنفي، وقتل اليهودي بالسيف رغم تدخل القنصلية الفرنسية في القضية. فقام اليهود في باريس بأعمال لتأليب الرأي العام الأوروبي على تونس، واستغلت فرنسا وانجلترا الفرصة، فتدخّلوا في سياسة البلد وهدّدوا الباي باستعمال القوّة، وضغطوا لاستصدار قوانين تجاري قوانينهم وتمنع تكرّر الحادثة.[6]وقد شكّل فيما بعد مجلس من الوزراء والعلماء لشرح قانون عهد الأمان وتفسير قواعده. وكان من ضمنهم أكبر علماء القطر التونسي وهم: شيخ الإسلام محمد بيرم الرابع، والشيخ محمد ابن الخوجة المفتي الحنفي، والشيخ أحمد بن حسين رئيس الفتوى في المذهب المالكي، والشيخ محمد البنا المفتي المالكي، فحضروا المجلس أوّلا ثم امتنعوا.[7] فلامهم ابن أبي الضياف على ذلك قائلا: “وكان الظنّ بهم تقديم هذه الطاعة المتعدية على غيرها من الطاعات القاصرة. وتعلّلوا بأنّ منصبهم الشرعي لا يناسبه مباشرة الأمور السياسية، إلى غير ذلك من المعاذير التي لو لم نرها بقلمهم ما نقلتها.وقبل هذا الباي عذرهم، وأراحهم من تعب الحضور، ولسان حال المسلمين بهذه الإيالة المسكينة يقول: (مما يجب اعتقاده أنّ الله الذي دينه النّصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم، ومن أوامره الواجبة على عباده تغيير المنكر ولو بالقلب، ومن شريعته السمحاء ارتكاب أخفّ الضررين عند العجز عن السلامة منهما، إلى غير ذلك من تيسير هذه الشريعة الصالحة لكل زمان، يسألهم عن ذلك يوم تبلى السرائر، ثم إنّ ربّك من بعدها لغفور رحيم). وكيف يروج تعلّلهم وهم الأعلام السابقون في ميادين العلوم المعقولة”.[8]
والحقيقة، أنّ امتناع العلماء لم يكن من باب فصل السياسة وفق مفهومها الإسلامي عن الدّين والشّرع، إنما من باب فصل السياسة المبنية على الهوى والعقل عن الشّرع. وهو ما وضّحه وأكّده الشيخ محمد بيرم الخامس في رواية أخرى للحادثة مفسّرا امتناع العلماء (ومنهم والده) واستقالتهم من مجلس شرح قواعد عهد الأمانبقوله: “متعلّلين بأنّ الذي بدا لهم من مغزى الجماعة هو الميل البحت للسياسة الساذجة من غير التفات إلى محاذاة الشّرع بل وربما عارض ما يصادم القواطع، وحيث كان عمل المجلس على ما يستقرّ عليه رأي الغالب لم يأمنوا أن يسند إلى المجلس ما يخالف الشّرع ويحمل ذلك على عاتقهم”.[9] فامتناعهم رحمهم الله عن المشاركة في تفسير قانون عهد الأمان وتبريره بمبرّرات شرعيّة – رغم اشتماله على بعض القواعد التي يقرّها الشّرع الإسلامي- هو في ذاته سياسة؛ لأنّهم كانوا واعين على ظروف وملابسات إصدار القانون الذي صيغ بضغط أوروبي ليوافق قوانين أوروبا ويجاريها، وليقنّن قوانين مخالفة للإسلام ومناقضة لشريعته وأحكامه.
ولايفوتنا في هذا المقام التذكيرببعض مشايخ الزيتونة ممن مارسوا السياسة، وتجسّموا صعابها وكابدوا متاعبها، مع اختلاف مناهجهم، ومنهم – على سبيل الذكر لا الحصر -:
– الشيخ محمد الصادق بن محمد الطاهر بن محمود ابن الشيخ أحمد النيفر رحمه الله (ت1938م) الذي ترجم له محمد محفوظ في تراجمه بقوله: “المحدّث، الفقيه، المشارك في علوم، السياسي الخطيب… كان إماما وخطيبا بجامع باب بحر (المعروف بجامع الزرارعية وهو جامع الدعي الحفصي ابن أبي عمارة) وكثيرا ما يتعرّض للسياسة والاقتصاد ويسوق المواعظ المؤثرة فيبكي الحاضرين ويبكي… وعندما تأسّس الحزب الحرّ الدستوري عام 1337/1918 انتسب إليه… وكان عضوا باللجنة التنفيذية”. ونتيجة لعمله السياسي المناهض للاستعمار، عزل عن القضاء والتدريس، فلازم بيته منعزلا عن الحياة العامّة. وقد حاول شيخ الإسلام الحنفي أحمد بيرم إرجاعه إلى وظيفة التدريس في جامع الزيتونة، فجاء “الجواب النهائي، وهو أنّ الشيخ دستوري، وله أفكار سياسية، وعليه فلا يمكن إرجاعه إلى التدريس. ومن كل هذا يتبيّن لنا أنّ المترجم كان وطنيا صادقا، وسياسيا محنكا، وذا مواهب خصبة عاملا في ميدان السياسة والعلم والقضاء”.[10]
– والشيخ إدريس الشريف رحمه الله (ت1934م) الفقيه الشاعر، مفتي بنزرت. “كانت له مواقف سياسية وقفها في مناسبات عديدة كونت له شهرة واسعة وذكرا جميلا، ومن أشهرها وأعظمها فتواه في عام 1932 في كفر المتجنّس وإنه تبعا لذلك لا يدفن في مقابر المسلمين… “.[11]
– والشيخ محمد بن محمد شاكر الصفاقسي رحمه الله (ت1963م) الفقيه الأديب الشاعر الصوفي. “كان له حسّ وطني صادق يكره الاستعمار وسياسته الملتوية ووعوده الكاذبة الجوفاء، فكوّن مع بعض معاصريه كالسيد أحمد المهيري صاحب جريدة “العصر الجديد”، والشيخ الطاهر طريفة جمعية سياسية سرية بعد انقضاء الحرب العالمية الأولى، وإعلان الهدنة، وكانت هذه الجمعية تعقد اجتماعاتها بدار الشيخ الطاهر طريفة قرب سيدي سعادة…”.[12]
– والشيخ محمد الصادق بسيّس رحمه الله (ت1978م) الكاتب الأديب المفكّر. “انتسب إلى الحزب الحرّ الدستوري الجديد في مطلع شبابه وعرف بنشاطه في خدمته وخطبه في اجتماعاته فألقي القبض عليه بعد حوادث 9 أفريل 1938 وأودع السجن. وكان معروفا بالدفاع المتحمّس عن قضية فلسطين منذ شبابه الباكر، كاتبا وخطيبا حتى عرف بالشيخ الفلسطيني… وهو ذو نشاط دائب متواصل، فقد كتب في الصحف التونسية منذ سنة 1930 في الشؤون الاجتماعية والثقافية… وكتب في القضايا الإسلامية وخاض معارك قلمية مع المنحرفين عن المنهج الإسلامي…”.[13]
– والشيخ محمد الصالح النيفر رحمه الله (ت1993م)، وهو “فقيه، داعية، من علماء الصحوة الإسلامية”، ويعدّ الأب الروحي للتيّار السياسي الإسلامي في تونس. ناضل ضدّ الاستعمار الفرنسي، وكافح القمع العلماني البورقيبي، وكان العضو المؤسّس لجمعيّة “الشبّان المسلمين” التي كانت موجهة لتأطير الشباب وتوجيه مساره في نضاله ضدّ الاستعمار الفرنسي بكلّ أبعاده الثقافية والحضارية والسياسية، و”كان يواكب تطورات الساحة الفكرية والسياسية ويناقش معظم القضايا المطروحة”.[14]
–والشيخمحمد الفاضل ابن عاشور رحمه الله (ت1970م) الذي قدّمه محمد محفوظ في تراجمه بقوله: “أحد الأئمة الأعلام في تاريخ تونس المعاصر ومن أعلام الفكر الإسلامي الحديث، الموسوعي الثقافة، والخطيب اللامع، والسياسي المحنّك”.[15] فهذا الشيخ الزيتوني، كان يحمل رؤية سياسية تقوم على “وجوب إحياء الخلافة من جديد على مراحل”.[16]وقد خاض ميدان السياسة عبر العمل النقابي، وعبر الانخراط في الحزب القوي الذي كان في زمنه، وهو الحزب الحرّ الدستوري الجديد، محاولا تقويم اعوجاجه وتصحيح مساره بإعادة ربطه بالإسلام المعبّر عن ثقافة البلد وحضارته، ولكنّه خسر الصراع؛ ففصل من الحزب، واتّهم مع والده الشيخ الطاهر بالخيانة وخدمة الاستعمار؛ “الأمر الذي دفع الشيخ محمد الفاضل وجماعة من علماء الزيتونة لليأس من صلاحية الحزب الدستوري الجديد والاتحاد العام التونسي للشغل، كإطار للعمل السياسي الوطني، وإلى التفكير جدّيا والعمل سريا في عام 1948 قصد إيجاد تنظيم آخر، يستجيب لخصوصياتهم الفكرية العربية الإسلامية، ومبادئهم التي تعتبر أنّ السياسة أخلاق أو لا تكون، وأنّ شرف الغاية من شرف الوسيلة. وقد كشفت مصالح الأمن الاستعمارية أمر هذا التنظيم، وأشارت الى محمد الشاذلي بن القاضي، صديق الشيخ محمد الفاضل، باعتباره أحد مؤسّسيه، ولم يتوصل الى اليوم أحد الى كشف أسماء بقية أعضائه، لكنّ الأستاذ حسن المناعي أفاد أنّه وقف على مسودّات الوثيقة الجامعة للقانون الأساسي لذلك التنظيم بخطّ الشيخ محمد الفاضل نفسه. ونحن نلاحظ من خلال تأملنا في الوثيقة المعنية أنّها تضمّنت النّواحي القانونية للجانب التنظيمي لجمعية سريّة أطلق عليها اسم “الاتحاد الدستوري الإسلامي”[17]، وكذلك الجانب الدستوري لمشروع دولة إسلامية كان مؤسسو الجمعية المذكورة يحلمون بتحقيقه في تونس، ليكون بديلا معاصرا قادرا على أن يعمّ البلاد الإسلامية كلّها، ابتداء بالأقطار المغاربية، وصولا إلى قيام الجامعة الإسلامية التي تعمّ العالم الاسلامي كلّه”.[18]
هذا تاريخنا يشهد بأنّ علماء الزيتونة كانوا ساسة يهتمون بأمر المسلمين ويرعون شؤونهم ويدافعون عن قضايا الإسلام السياسية، فكيف تغيّر الحال وأصبح اشتغال العلماء بالسياسة من بدع الزمان كما يروّج له دعاة اللائكية. فأين هم من تاريخ أمّتهم ؟
ياسين بن علي