علماء الزّيتونة والعمل السياسي

علماء الزّيتونة والعمل السياسي

اهتمّ المؤرخون بمؤسسة الزيتونة باعتبارها مؤسّسة علمية، ولذلك عادة ما يرتبط ذكرها بالعلم الشرعي ودورها في المحافظة على الهوّية الإسلامية الثقافية والحضارية للشعب التونسي، وهذا بلا شكّ حقيقة، ولكنّه ليس كلّ الحقيقة؛ إذ يجهل كثير من النّاس دور هذه المؤسسة السياسي، ومشاركة رجالها مشاركة فعّالة في العمل السياسي سواء أكان ذلك فترة الاستعمار الفرنسي للبلاد أو بعده؛ ولهذا أردنا في هذا المقال التّذكير ببعض مشايخ الزيتونة ممن مارسوا السياسة، وتجسّموا صعابها وكابدوا متاعبها، مع اختلاف مناهجهم ومقاصدهم، ونذكر منهم – على سبيل الذكر لا الحصر مراعاة للمقام-:

الشيخ محمد الصادق بن محمد الطاهر بن محمود ابن الشيخ أحمد النيفر رحمه الله (ت1938م) الذي ترجم له محمد محفوظ في تراجمه بقوله: “المحدّث، الفقيه، المشارك في علوم، السياسي الخطيب… كان إماما وخطيبا بجامع باب بحر (المعروف بجامع الزرارعية وهو جامع الدعي الحفصي ابن أبي عمارة) وكثيرا ما يتعرّض للسياسة والاقتصاد ويسوق المواعظ المؤثرة فيبكي الحاضرين ويبكي… وعندما تأسّس الحزب الحرّ الدستوري عام 1337/1918 انتسب إليه… وكان عضوا باللجنة التنفيذية”. ونتيجة لعمله السياسي المناهض للاستعمار، عزل عن القضاء والتدريس، فلازم بيته منعزلا عن الحياة العامّة. وقد حاول شيخ الإسلام الحنفي أحمد بيرم إرجاعه إلى وظيفة التدريس في جامع الزيتونة، فجاء “الجواب النهائي، وهو أنّ الشيخ دستوري، وله أفكار سياسية، وعليه فلا يمكن إرجاعه إلى التدريس. ومن كل هذا يتبيّن لنا أنّ المترجم كان وطنيا صادقا، وسياسيا محنكا، وذا مواهب خصبة عاملا في ميدان السياسة والعلم والقضاء” (ينظر: “تراجم المؤلفين التونسيين”، ج5 ص79-82).

والشيخ إدريس الشريف رحمه الله (ت1934م) الفقيه الشاعر، مفتي بنزرت. “كانت له مواقف سياسية وقفها في مناسبات عديدة كونت له شهرة واسعة وذكرا جميلا، ومن أشهرها وأعظمها فتواه في عام 1932 في كفر المتجنّس وإنه تبعا لذلك لا يدفن في مقابر المسلمين، وسبب هذه الفتوى أنّ متجنسا توفي ببنزرت أرادت السلطة دفنه في مقابر المسلمين، فامتنع السكان وقاموا بمظاهرة، وتراجعت السلطة الاستعمارية ودفن هذا المتجنس بمقبرة مسيحية مهجورة” (ينظر “تراجم المؤلفين التونسيين”، ج3 ص181).

والشيخ محمد بن محمد شاكر الصفاقسي رحمه الله (ت1963م) الفقيه الأديب الشاعر الصوفي. “كان له حسّ وطني صادق يكره الاستعمار وسياسته الملتوية ووعوده الكاذبة الجوفاء، فكوّن مع بعض معاصريه كالسيد أحمد المهيري صاحب جريدة “العصر الجديد”، والشيخ الطاهر طريفة جمعية سياسية سرية بعد انقضاء الحرب العالمية الأولى، وإعلان الهدنة، وكانت هذه الجمعية تعقد اجتماعاتها بدار الشيخ الطاهر طريفة قرب سيدي سعادة، ويظهر أنّ القائمين بهذه الجمعية لم يكونوا متكونين تكوينا سياسيا عميقا لأنّ بعض أسرار الجمعية تسربت إلى الخارج وانكشف أمرها لدى السلطة الاستعمارية فأقبرت بعد عمر قصير…” (ينظر “تراجم المؤلفين التونسيين”، ج3 ص138).

والشيخ محمد الصادق بسيّس رحمه الله (ت1978م) الكاتب الأديب المفكّر. “انتسب إلى الحزب الحرّ الدستوري الجديد في مطلع شبابه وعرف بنشاطه في خدمته وخطبه في اجتماعاته فألقي القبض عليه بعد حوادث 9 أفريل 1938 واودع السجن. وكان معروفا بالدفاع المتحمّس عن قضية فلسطين منذ شبابه الباكر، كاتبا وخطيبا حتى عرف بالشيخ الفلسطيني… وهو ذو نشاط دائب متواصل، فقد كتب في الصحف التونسية منذ سنة 1930 في الشؤون الاجتماعية والثقافية… وكتب في القضايا الإسلامية وخاض معارك قلمية مع المنحرفين عن المنهج الإسلامي…” (ينظر “تراجم المؤلفين التونسيين”، ج1 ص98-99).

والشيخ محمد الفاضل ابن عاشور رحمه الله (ت1970م) الذي قدّمه محمد محفوظ في تراجمه بقوله: “أحد الأئمة الأعلام في تاريخ تونس المعاصر ومن أعلام الفكر الإسلامي الحديث، الموسوعي الثقافة، والخطيب اللامع، والسياسي المحنّك”. فهذا الشيخ الزيتوني، كان يحمل رؤية سياسية تقوم على “وجوب إحياء الخلافة من جديد على مراحل” (كما قال الشيخ محمد الطاهر رويس في كتابه “ذكريات طالب زيتوني”، ص160). وقد خاض ميدان السياسة عبر العمل النقابي، وعبر الانخراط في الحزب القوي الذي كان في زمنه، وهو الحزب الحرّ الدستوري الجديد، محاولا تقويم اعوجاجه وتصحيح مساره بإعادة ربطه بالإسلام المعبّر عن ثقافة البلد وحضارته، ولكنّه خسر الصراع؛ ففصل من الحزب، واتّهم مع والده الشيخ الطاهر بالخيانة وخدمة الاستعمار؛ “الأمر الذي دفع الشيخ محمد الفاضل وجماعة من علماء الزيتونة لليأس من صلاحية الحزب الدستوري الجديد والاتحاد العام التونسي للشغل، كإطار للعمل السياسي الوطني، وإلى التفكير جدّيا والعمل سريا في عام 1948 قصد إيجاد تنظيم آخر، يستجيب لخصوصياتهم الفكرية العربية الإسلامية، ومبادئهم التي تعتبر أنّ السياسة أخلاق أو لا تكون، وأنّ شرف الغاية من شرف الوسيلة. وقد كشفت مصالح الأمن الاستعمارية أمر هذا التنظيم، وأشارت الى محمد الشاذلي بن القاضي، صديق الشيخ محمد الفاضل، باعتباره أحد مؤسّسيه، ولم يتوصل الى اليوم أحد الى كشف أسماء بقية أعضائه، لكنّ الأستاذ حسن المناعي أفاد أنّه وقف على مسودّات الوثيقة الجامعة للقانون الأساسي لذلك التنظيم بخطّ الشيخ محمد الفاضل نفسه. ونحن نلاحظ من خلال تأملنا في الوثيقة المعنية أنّها تضمّنت النّواحي القانونية للجانب التنظيمي لجمعية سريّة أطلق عليها اسم “الاتحاد الدستوري الإسلامي”، وكذلك الجانب الدستوري لمشروع دولة إسلامية كان مؤسسو الجمعية المذكورة يحلمون بتحقيقه في تونس، ليكون بديلا معاصرا قادرا على أن يعمّ البلاد الإسلامية كلّها، ابتداء بالأقطار المغاربية، وصولا إلى قيام الجامعة الإسلامية التي تعمّ العالم الاسلامي كلّه” (عن مقال: “الشيخ محمد الفاضل بن عاشور والحركة الوطنية من 1943 إلى 1953″، ج2 “الشيخ محمد الفاضل بن عاشور في ذروة نشاطه السياسي”، لعلي الزيدي. نشره موقع: www.turess.com/echaab/ وينظر: “الشيخ محمد الفاضل ابن عاشور: مسيرته العلمية والإصلاحية”، للدكتور حسن المناعي، مركز النشر الجامعي، منوبة 2010م، ففيه تفاصيل مهمّة وقيّمة). وهذا يعني أنّ الشيخ الفاضل ابن عاشور أدرك أهمية تأسيس حزب إسلامي، ولعلّه يكون أوّل من أسّس حزبا في تونس يقوم على رؤية إسلامية غايته قيام دولة إسلامية.

والشيخ محمد الصالح النيفر رحمه الله (ت1993م)، وهو “فقيه، داعية، من علماء الصحوة الإسلامية”، ويعدّ الأب الروحي للتيّار السياسي الإسلامي في تونس. ناضل ضدّ الاستعمار الفرنسي، وكافح القمع العلماني البورقيبي، وكان العضو المؤسّس لجمعيّة “الشبّان المسلمين” التي كانت موجهة لتأطير الشباب وتوجيه مساره في نضاله ضدّ الاستعمار الفرنسي بكلّ أبعاده الثقافية والحضارية والسياسية، و”كان يواكب تطورات الساحة الفكرية والسياسية ويناقش معظم القضايا المطروحة” (ينظر كتاب: “من رواد الصحوة الإسلامية في تونس والجزائر ج1: الشيخ محمد الصالح النيفر مسيرة نضال”، لأروى النيفر، ففيه مسيرته السياسية النضالية. وينظر: “تتمة الأعلام للزركلي”، لمحمد خير رمضان يوسف، ج2ص172).

– والشيخ محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن يوسف الأخوة (ت1994م)، العلّامة الفقيه المحدّث الأصولي الواعظ. سمّي خطيبا بالجامع الأحمدي بالمرسى وأقيل سنة 1960م نظرا لانتقاده نظام بورقيبة، وقد تحدّث صديقه الوفي سماحة الشيخ سيدي محمد الشاذلي النيفر عن هذه المدة التي قضاها الشيخ بالجامع الأحمدي فقال: “حين أسندت إليه خطابة الجامع الأحمدي لم يكن خطيبا زائفا بل صدع بالحقّ وانتقد ما يجب انتقاده من الحياة التي يعيشها فعوقب بأن عزل عن ممارسة هذه الخطبة”. ثم عيّن سنة 1973م إماما خطيبا بجامع الأمان بمنفلوري بتونس العاصمة سنة 1973م وعزل سنة 1993م بسبب معارضته لنظام بن علي الاستبدادي (ينظر: “مختارات من آثار فضيلة الشيخ محمد الأخوة”، إعداد وتقديم محمد العزيز الساحلي ومحمد بلغيث، ص7-13).

ياسين بن علي

CATEGORIES
TAGS
Share This