على هامش زيارة “أردوغان” لتونس.. ماذا وراء التواطؤ العلماني الحكومي ضد تركيا؟
كشف التعاطي الإعلامي مع زيارة الرئيس التركي “رجب طيب اردغان” إلى تونس عن الخلفية الفكرية والعقائدية لقطاع كبير من الإعلاميين ممن اتخذ من بعض المواقف السياسية غطاء لعداء عقائدي علماني متكبر حاقد على تركيا ورمزيتها السياسية والتاريخية.
إلغاء اتفاقية التجارة مع تركيا
الحملة الإعلامية على تركيا وعلى التبادل التجاري بدا قبل الزيارة بكثير, فمنذ عدة أشهر دخلت العديد من وسائل الإعلام في تونس في حملة منظمة لشيطنة التعامل التجاري مع تركيا وتحميله مسؤولية عجز الميزان التجاري ومسؤولية فقدان المنتوجات التونسية قدرتها التنافسية نتيجة إغراق الأسواق بالبضائع التركية. هذه الحملة الانتقائية التي أثارت دهشة العديد من العارفين بحقيقة المبادلات الخارجية احتوت على مغالطات مقصودة تصل إلى درجة التدليس, ولم تتعرض بنفس الشراسة للعجز الكبير والقديم في المبادلات التجارية مع كل من الاتحاد الأوروبي والصين وروسيا. و في ردّة فعل توحي بوجود تنسيق بين هذه الحملة الإعلامية والحكومة, تم الإعلان لاحقا عن إيقاف العمل باتفاقية التجارة الحرة بين تونس وتركيا منذ سنة 2004.
التشويش المقصود
وقبل الزيارة بقليل تعالت أصوات العديد من الإعلاميين والسياسيين مستنكرين زيارة “اردغان” إلى تونس ومعبرين عن عدم ترحيبهم بهذه الزيارة احتجاجا على وضع حرية الصحافة بتركيا ووجود بعض الصحفيين بالسجون, واحتجاجا على التدخل التركي في الشأن السوري.
كما تميز التعاطي الإعلامي مع الزيارة بالإهمال المقصود لمحتواها وعدم نقل وقائعها على أي قناة تلفزيونية عمومية أو خاصة, وهو مشهد يوحي بوجود تنسيق مسبق وتوافق رسمي مقصود وذلك خلافا لما هو معهود من الحكومة في زيارة دولة. لكن التعاطي الإعلامي لم يغفل عن تصيّد بعض الحوادث التي تمّ التركيز عليها أو تضخيمها وتأويلها على نحو يؤدي إلى التشويش على الزيارة مثل رفع “إشارة رابعة” واعتبارها تدخلا في الشأن الداخلي لتونس ومصر, أو مناقشة بعض التفاصيل البروتوكولية مثل مكان جلوس “أردغان” أو سلوك حرسه الخاص واعتبار كل ذلك إهانة للدولة . كل ذلك في سعي واضح للتشويش على الزيارة وإفشالها إعلاميا.
العداء العلماني: عقائدي وسياسي
هذا التعاطي الإعلامي المقصود ما كان ليَتِمّ بهذا الحجم لولا الاصطفاف الإعلامي الواضح والتنسيق بين القطاعين العمومي والخاص الذي لا يبدو أن الحكومة بريئة منه. ومهما كانت المواقف السياسية التي تخفى بها الإعلاميون لتبرير سلوكهم مثل وضع الحريات في تركيا والشأن السوري والذود عن هيبة الدولة, فان حقيقة السلوك العدائي في تغطية هذه الزيارة هو:
أولا: عداء عقائدي وسياسي وحضاري, وحساسية مفرطة تجاه تجربة “حزب العدالة والتنمية” باعتباره أحد حركات “الإسلام السياسي المعتدل”. فالعداء الواضح والصريح لأي رمزية سياسية إسلامية تاريخية, حتى لو كانت رمزية “اردغان” الإسلامية هي رمزية شكلية خالية من أي مضمون حضاري حقيقي في واقع تركيا السياسي والاقتصادي.
ثانيا:صراع سياسي مدفوع من الأوروبيين وخصوصا فرنسا ومحاولة الوقوف ضد سعي تركيا نحو التحول إلى قوة ذات تأثير إقليمي اقتصادي وسياسي خصوصا بعد ان تزايد الدور التركي على الساحة السياسية الدولية سوء في ما يخص الأزمة الواقعة في سوريا, أو في العراق, أو في فلسطين, بشكل يطغى أحيانا على الدور الأوروبي, فإفشال الزيارة هو مصلحة أوروبية بدرجة أولى.
العداء العلماني عداء استعماري
إن العداء العلماني لأي مرجعية إسلامية في النظام السياسي ولو رمزية هو عداء عقائدي لا يخضع لمنطق المصالح الاقتصادية المشتركة, وما إلغاء اتفاق التجارة بين تونس تركيا المُبرم سنة 2004 زمن “بن على” إلا دليل على أن ضعف النظام السياسي بعد الثورة جعله أكثر حرصا على محاصرة أي تأثير سياسي محتمل لتجربة “حزب العدالة والتنمية” في تونس, وهو دليل أيضا على أن المعارضة “العقائدية” الأوروبية لدخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي انتقلت عدواها إلى وكلائها في تونس.
فالغرب الأوروبي المعادي لهوية الأمة الإسلامية وحضارتها لا يكتفي بسلخ تونس عن هويتها العقائدية والحضارية بل يريدها أيضا بلدا قطريا مفصولا عن محيطها الاجتماعي الطبيعي من الشعوب الإسلامية, لذلك فليس من الغريب أن ترى المبادلات التجارية البينيّة بين الدول القائمة في العالم الإسلامي هي في اضعف مستوياتها بينما تراها مع الدول الأوروبية وغير الأوروبية أضعاف ذلك, كما أن مستوى العلاقات الثقافية وتبادل الزيارات الحميمة والمجاملات بين المسئولين في مختلف المجالات والمناسبات هي اقوي بكثير بين تونس والبلدان الأوروبية مقارنة مع بقية المسئولين في الدول القائمة في البلاد الإسلامية والتي يسمونها “شقيقة”.
هذا هو النظام السياسي القائم في تونس والذي يُفترض انه يُعبر من خلال سياسته الداخلية و الخارجي عن طبيعة وكيان الأمة الإسلامية وتونس جزء منها, وأن يعبّر عن حقيقة الروابط المشتركة بين تونس وبقية الشعوب المكوّنة للأمة الإسلامية. لكن الحقيقة التي تعيشها تونس وكل البلاد الإسلامية أننا نعيش في دولة أسسها المستعمر أولا واستمر على قيادتها وكلاؤه المحليون, ونظام سياسي قائم على عقيدة التبعية الفكرية والسياسية والحضارية للمستعمر وعلى السياسة القطرية التي تفصل بين مكونات الأمة الواحدة وتقدّس الحدود المقطعة لأوصالها.
لذلك لا يمكن لهذا النظام أن يوضع موضع التطبيق إلا بفرضه على الأمة فرضا, إلى أن تستعيد الأمة ثقتها بنفسها مرة أخرى, وتنفض عنها مرة أخرى وكلاء الاستعمار وتجتثّ معهم نُخبهم ومساعديهم داخل الدولة العميقة حتى تنجح في تأسيس الدولة من جديد على أساس عقيدة الأمة وحضارتها الإسلامية.