على هامش ملتقى (النسويّة في العالم العربي: نظرة نقديّة)

على هامش ملتقى (النسويّة في العالم العربي: نظرة نقديّة)

حدّث أبو ذرّ التونسي: شهد نزل (لايكو تونس) بتاريخ السبت 22/09/2018 فعاليات ملتقى فكري سياسيّ بعنوان (النسويّة في العالم العربي: نظرة نقديّة) وذلك تحت إشراف مؤسّسة (كونراد أديناور) الألمانيّة وجمعيّة (تونس الفتاة)…وقد شهد الملتقى على امتداد يوم كامل ستّ مداخلات موزّعة على جلستين ـ صباحيّة ومسائيّة ـ تناولت على لسان ثلّة من الدّكاترة والأساتذة والباحثين المختصّين جملة من المواضيع المتعلّقة بالنّسويّة من زوايا مختلفة (علميّة ـ شرعيّة ـ لغويّة ـ تاريخيّة ـ أدبيّة ـ فلسفيّة) في محاولة نقديّة للإجابة عن سؤالين مركزيّين: إلى أيّ مدى تُعتبر الحركة النسويّة في العالم العربي متجذّرة في واقعها معبّرة عن تطلُّعاته..؟؟ وكيف تبرز خصوصيّاتها مقارنةً بالحراك النّسوي في العالم الغربي..؟؟

وكما كان منتظرًا ومتبادرًا إلى الذّهن للوهلة الأولى فإنّ هذه الذّراع الثّقافيّة الألمانيّة للاستعمار وربيبتها المحليّة التي تذكّرنا بأحد معاول هدم الخلافة العثمانيّة (تركيا الفتاة) قد حاولتا  ـ بتمحُّل ظاهر ـ تجذير التيّار النّسوي عربيًّا وتونسيًّا وتأصيله إسلاميًّا وشرعنة مطالبه باعتبارها (ثورة تشريعيّة إصلاحيّة تقدّميّة ساهمت في نهضة تونس والأمّة العربيّة وتقدُّمها وانعتاقها من نير الاستعمار) وُصُولاً بها إلى تقرير لجنة الحرّيات الفرديّة والمساواة: فهذا الملتقى يتنزّل عمليًّا في إطار تلافي أخطاء النّسخة القديمة لتقرير اللّجنة ومشروعها وضخّ دماء جديدة صُلبه وإعادة تسويقه بأشكال أخرى غير مستفزّة…فقد نصّت التّوصيات على ( إثراء تركيبة اللّجنة المحسوبة على طيف سياسي استئصالي ـ إشراك الإسلاميّين في تلك التّركيبة ومراكز قرارها ـ إيجاد الغطاء الاجتهادي المقاصدي لمقترحاتها ـ مزيد العمل مع القواعد الشعبيّة اجتنابًا للإسقاط والانبتات عن الشّارع)…وفيما يلي تعليق على أبرز ما جاء في الملتقى من مداخلات…

مغالطة تاريخيّة

المداخلة الأولى أرّخت للنسويّة في العالم العربي (ظروف النّشأة ، السيرورة التاريخيّة وأبرز التحوّلات) وقد حاولت فيها صاحبتها أستاذة الحضارة العربيّة بجامعة منّوبة الدّكتورة (زينب توجاني) تأصيل الخطاب النّسوي وتجذيره في التربة العربيّة الإسلاميّة، فقسّمت تطوّر الظّاهرة النّسوية إلى أربع مراحل كبرى معدّدةً أعلام كلّ مرحلة ومطالبها وخصوصيّاتها وتاثّرها بالواقع السياسي… كما حرصت على إيجاد روابط بين تلك المراحل في شكل سيرورة فكريّة سياسيّة انطلقت من تهيئة النّساء للقيام بوظيفة الأمومة وصولاً إلى المطالبة بالحقوق والمساواة الكاملة مع الرّجل سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، مرورًا بالصّحوة الإسلاميّة والتيّارات القوميّة والوطنيّة واليساريّة…ولتحقيق ذلك تعمّدت الدّكتورة زينب الخلط بين الحركات النّسائية ـ المنظّمة والعفويّة ـ والحركة النسويّة في مغالطة تاريخيّة صارخة : فما كلّ حركة تؤثّثها نسوة هي حركة نسويّة، كما أنّ الفكر النّسوي قد يُنظّر له ويحمله ويدعو له رجال، أمّا النسويّة فهي اصطلاح سياسي ووعاء لفكر وفلسفة تقوم على المساواة المطلقة بين الرّجل والمرأة وإزالة التمييز بينهما بجميع أشكاله دون الأخذ بعين الاعتبار الفروق البيولوجيّة…إلاّ أنّ الدكتورة وسّعت من مفهوم النّسوية ليشمل الحركات الإصلاحيّة والإخوانيّة وحركات مقاومة الاستعمار التي أثّثتها النّساء…كما حرصت الدّكتورة كذلك على حصر ريادة الحركة النسائيّة والنسوية في النساء دون الرّجال للإيهام بأنّها حركة طبيعيّة وُلدت من رحم المجتمع العربي ومعاناة المرأة فيه، وفي كلّ هذا التمشّي ما فيه من تزوير للتاريخ وقراءة مغرضة له بغية رسم صورة بائسة للمرأة العربيّة المسلمة كي تشعر بأنّها مخلوق بائس مُمتَهَن رهين المحبسين لا يخرج من سجن البيت إلاّ لسجن الزّوج أو للمقبرة، حتّى أشرق فجر عصر النّسويات السّعيد…

ابن سفاح

من الثّابت تاريخيًّا وسياسيًّا أنّ الفكر النّسوي غريب عن العالم العربي والإسلامي وُلد فيه خُداجًا من سفاح بوصفه ـ شكلاً ومضمونًا وأهدافًا وأدوات وتوظيفًا ـ ابنًا غير شرعيّ للاستعمار وذلك من وجهين: أوّلاً من حيث الظّرفية السياسيّة، فظهور الحركة النسائيّة والنّسوية العربيّتين كان متزامنًا مع المدّ الاستعماري وموازيًا لجبهات أخرى فُتِحت على الإسلام والمسلمين عسكريًّا (استكمال اخضاع العالم الإسلامي) وسياسيًّا (إسقاط الخلافة في تركيا 1924) وثقافيًّا (في الأدب الجاهلي ـ الإسلام وأصول الحكم…) وحضاريًّا (المؤتمر الإفخارستي في تونس ـ الظّهير البربري في المغرب…)، وكلّ ذلك الحراك يتنزّل في سياق تركيز الوجود الاستعماري الفعلي بعد تذليل العقبات الماديّة…الوجه الثاني يتمثّل في أنّ الحركة النّسوية العربيّة كانت مفتعلة مُسقطة وليست إفرازًا طبيعيًّا لما اعتمل في رحم المجتمعات العربيّة والإسلاميّة إذ لم تكن صعيد بحث قبل دخول الاستعمار: فليس هناك في الإسلام ما يسمّى بقضيّة المرأة ولم تمثّل هذه الأخيرة يومًا ما مشكلة بالنّسبة إلى المسلمين…فالمسألة قضيّة من ورق وُلدت في رحم الكتابات التي روّجت لها، كما أنّ روّادها من الرّجال المعلوم عنهم عمالتهم الفكريّة والسياسيّة للغرب (قاسم أمين ـ فارس الشّدياق ـ الأفغاني ـ محمّد عبده ـ الطّهطاوي..) بل منهم غير المسلمين مثل المحامي القبطي (مرقص فهمي)… ثمّ سرعان ما انتشر الفكر في أوساط نسائيّة أرستقراطيّة بعيدة عن نبض الأمّة لم تُعايش تطبيق الإسلام ولا اكتوت بنار تعدّد الزّوجات ولا بغطرسة (سي السيّد) مثل الأميرة نازلي وهدى شعراوي وعائشة تيمور وصفيّة زغلول…

فعلى خلاف الحركة النّسوية في الغرب التي نشأت طبيعيًّا كإفراز للظلم المسلّط على النّساء العاملات المطحونات، تزعّمت الحركة النّسوية في البلاد العربيّة سيّدات المجتمع الرّاقي المترفّهات كحركة فوقيّة أجنبيّة مفتعلة مُستهدفة للقيم الإسلاميّة ناهيك وأنّها كانت مصحوبة منذ سنة 1919 بالخلع العلني للحجاب ودوسه وإضرام النّار فيه (هدى شعراوي وصفيّة زغلول)…وكما كان الفكر أجنبيًّا مُسقطًا، فكذلك كان التّأسيس والتّنظيم مستوردًا من الخارج: فقد وقع تأطير هدى شعراوي في مؤتمر الاتّحاد النّسائي الدّولي الذي عُقد في روما سنة 1922 حيث احتُضِنت استعماريًّا وتلقّت التّعليمات والتّمويلات لتُؤسّس الاتّحاد النّسائي المصري سنة 1924…بعد هذا التّاريخ أخذت الجمعيّات والمؤتمرات والصّحف النّسوية تظهر تِباعًا إلى سنة 1938 حيث عُقد المؤتمر النّسائي العربي الأوّل بترحيب بريطاني أمريكي وتأييد من زوجة الرّئيس روزفلت نفسها…

في الجندريّة

المداخلة الثّانية حملت عنوان (الفكر النّسوي ومفهوم النّوع الاجتماعي : بين الرّهانات العلميّة والأجندات السياسيّة) وقد حاول فيها صاحبُها الدكتور (عادل بلكحلة) أستاذ علم الاجتماع بجامعة تونس أن يطرح مسألة الجندريّة في علاقتها بالحركة النسويّة…ومّما لا شكّ فيه أنّ المساواة والحريّة هما ركيزتان اساسيّتان في نشأة الفكر النّسوي وتطوّر الفلسفة النّسوية، وقد استطاعت الحركة النّسوية أن تضمِّن فكرة المساواة المطلقة في مبادئ الأمم المتحدة عند نشأتها سنة 1945 حيث نصّت وثيقتها على رفض التّمييز على أساس الجنس وتحقيق المساواة التّماثلية التي تُفضي إلى إلغاء الذّكورة والأنوثة وإعلان الهويّة الجندريّة (النّوع الإنساني الجديد الذي لا يعترف بالذكورة والانوثة)…وتقوم فكرة الجندر هذه على مقولة (سيمون دو بوفوار) (إنّنا لا نولد نساءً وإنّما نصبح كذلك)، فلا يكفي الجنس والمعطى البيولوجي لتمييز النساء عن الرّجال بل للمعطى الثّقافي المجتمعي دور أساسيّ أيضًا: صحيح أنّنا نولد باستعدادات وراثيّة معيّنة ذكورًا وإناثًا ولكن أُسس التّفريق البيولوجيّة بين الرّجل والمرأة غير ثابتة ولا دائميّة لأنّ الضّمير الجنسي يكتمل بالثّقافة، فالجنس البيولوجي لا يتطابق بالضّرورة مع الهويّة الجنسيّة بوصفها حالة ضبابيّة مرحليّة غير نهائيّة يمكن أن تتغيّر وفق رغبة وشهوات الشخص..

فالجُنوسة مُعطى ثقافي اجتماعي لا طبيعي وضمير الجندر يُمكن إعادة استدعائه في أيّ وقت…ولعلّه من فضول القول الإشارة إلى أنّ مسألة الجندر هذه متناقضة مع الشّرع الإسلامي مخالفة للجِبِلّة والفطرة الحيوانيّة قبل البشريّة: فهي مقولة عدميّة فاجرة مخالفة للمعلوم من الدّين بالضّرورة وللإنسان بالبداهة والمشاهد الملموس، تؤسّس للبهيميّة والفوضى الجنسيّة وانتشار الرّذيلة من زنا وسحاق ولواط…والإسلام واضح في هذه المسألة، يقول تعالى (يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى) ويقول (وليس الذّكر كالأنثى)…وقد سعى الكافر المستعمر للتسويق لنظريّة الجندر وفرضها في بلاد الإسلام بالتّواطؤ مع عملائه المحليّين الفكريّين والسياسيّين وذلك من خلال اتّفاقيّتين دوليّتين: الأولى (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948) الذي ينصّ على عدم التّمييز على أساس الجنس وتحقيق المساواة التّماثليّة بين الرّجل والمرأة…أمّا الثانية فهي اتّفاقيّة (سيداو) أو القضاء على كافّة أشكال العنف ضدّ المرأة، وقد صادقت تونس على الاتّفاقيّتين…

فقه نسوي..؟؟

المداخلة الثالثة حملت عنوان (الفقه الإسلامي مُجندرًا: قراءة نفسيّة تحليليّة) حاول فيها صاحبها الباحث في الحضارة الإسلاميّة بجامعة الزّيتونة الأستاذ محمّد السّبتي النّظر في تأثير الجنس على الفقه من خلال جملة من التّساؤلات على غرار: هل تخضع المعرفة للتّقسيم الجنسي..؟؟ هل الفقه الإسلامي فقه ذكوري..؟؟ هل يمكن التّنظير لفقه نسوي..؟؟ وقد حاول الإجابة عنها من خلال مقاربة نفسيّة تحليليّة للفيلسوف الفرويدي (كارل غوستاف يونغ)…وتقوم (اليونغيّة) على مقولة الثنائيّة الجنسيّة: فكلّ رجل يحمل في داخله امرأة، وكلّ امرأة تحمل في داخلها رجلاً…وعندما يعشق الذّكر أنثى ما فهو في الواقع يعشق الشق الأنثوي الكامن فيه، هذا الشقّ الذي يضغط عبر اللاّوعي ولكنّنا نكبت رغباته الجنسيّة المقابلة خضوعًا لنواميس المجتمع…هذه الثّنائية الجنسيّة تتطلّب الإشباع وتجد في الإبداع بمختلف أشكاله متنفّسًا لها، وبما أنّ المعرفة عمومًا والفقه خصوصًا شكل من أشكال الإبداع فما مدى مشروعيّة القول بذكوريّة الفقه الإسلامي..؟؟

إنّ (اليونغية) ترى أنّه لا وجود لفقه أنثوي محض أو ذكوري محض، فالمعرفة عمومًا مُخنّثة أو خنثى: فإذا كانت ذكوريّة في وعيها فهي أنثويّة في لا وعيها والعكس صحيح…بعد هذا المدخل النّظري حاول الأستاذ محمّد السّبتي تنزيل مقاربته على ما أسماه (فقه السيّدة عائشة): فعمد إلى جملة من الآراء الفقهيّة المنسوبة إلى أمّ المؤمنين رضي الله عنها فصنّفها إلى صنفين الأوّل اعتبره نسويًّا (يصبُّ في مصلحة المرأة) والثاني اعتبره ذكوريًّا (يصبّ في مصلحة الرّجل)…ثمّ نزّل تلك الآراء على المذاهب الأربعة من حيث الموافقة والاختلاف واستنتج أنّ فقه عائشة فيه تضارب بين النسويّ والرّجالي وعمّم استنتاجه ذاك على الفقه الإسلامي بأكمله لأنّه لا يخضع للجانب الواعي فحسب بل للجانب اللاّواعي أيضًا…وغير خافٍ ما في هذا التّحليل من تمحُّلٍ ظاهر البطلان: فالفقه لا جنس له لأنّه (العلم بالمسائل الشرعيّة العمليّة المستنبطة من الأدلّة التفصيليّة) وهو ـ تمامًا كالاجتهاد ـ يستند بالأساس إلى قوّة الدّليل من النّصوص لاستنباط الحكم وهذا لا علاقة لهُ بوعي أو لا وعي، كما ولا علاقة له بالذّكورة أو الأنوثة: ففي النّصوص القطعيّة المحكمة لا اختلاف في الحكم بين الجميع رجالاً ونساءً، أمّا في النّصوص الظنيّة المتشابهة فالمحدّد للحكم هو قوّة الدّليل وهذا لا يخضع لجنس الفقيه والمجتهد بقدر ما يخضع لسعة الاطّلاع وكثرة المعلومات السّابقة وسرعة البديهة…لذلك من الطّبيعي أن يختلف بعض العلماء مع السيّدة عائشة في مسائل ويتّفقون معها في أخرى…

بسّام فرحات

CATEGORIES
TAGS
Share This