عيد الشّهداء: التّاريخ والرمزيّات والخلفيّة السياسيّة
حدّث أبو ذرّ التونسيّ قال :منذ النصف الثاني من القرن المنصرم سادت الساحتين الفكريّة والسياسيّة في العالم الإسلاميّ موجة من الاستعمال العشوائيّ للمصطلحات أغرقتها في وحل الضبابيّة والميوعة، فانعدمت الدقّة وغاب الضبط وساد اللبس والارتجال وانحرفت جلّ المصطلحات الشرعيّة من قبيل (واجب ـ اجتهاد ـ سنّة ـ نصّ ـ دليل ـ جهاد ـ تأويل ـ قياس…) عن معانيها الأصليّة لغايات دنيئة في نفس الاستعمار وأذنابه… هذا الاصطلاح المُوازي مع سبق الإصرار والترصّد أفرغ تلك المصطلحات الشرعيّة من محتواها وأحدث صُلبها أعمال توسعة أو تضييق أو انزياح ما أصابها بالغربة والترهّل اللغويّ ومسخها وشوّهها وحمّلها أحيانا معاني ضديدة لها وحوّلها إلى قنوات شرعيّة لتمرير المفاهيم الغربيّة وأسلمتها وإكسابها مسحة من القداسة: هذا تحديدا ما حصل لمصطلح (شهيد)، فإذا بنا ـ في مفارقة عجيبة وغريبة ـ نتحدّث عن شهيد الوطن وشهيد الحريّة والديمقراطيّة وشهيد المدّ القومي أو الشيوعيّ بل وشهيد الحركة الطلاّبيّة ،ولله في خلقه شؤون… والمسألة تتجاوز مجرّد الاستعمال المجازيّ للمصطلح، فقد خُلِع على شخصيّات سياسيّة وثقافيّة مُندرجة ـ بامتياز ـ في خانة الإلحاد والعمالة والإجرام والخيانة ومحاربة الله ورسوله على غرار(أنور السّادات ـ ياسر عرفات ـ شكري بلعيد) ومع ذلك عُدّوا من الشهداء ودُفِنوا في مقابرهم مُؤَبَّنِين من لدن مشائخ الإسلام..
في هذا السّياق دأب النظام التونسيّ منذ (استقلاله المزعوم) على إحياء ما أسماه (عيد الشهداء) متّخذا من يوم 09 أفريل تاريخا له ومن مظاهرات سنة 1938 ضدّ الاستعمار الفرنسيّ رمزيّة له ،وذلك في انتحال ماكر وقح لاصطلاح شرعيّ عبر انتزاعه من سياقه الإسلاميّ وإقحامه قسرا في إطار النعرة الوطنيّة الاستعماريّة الخبيثة التي قوّضت صرح الخلافة وأطاحت بالدّولة الإسلاميّة ومكّنت للكافر المستعمر في البلاد وجعلت له سبيلا على المؤمنين ـ أرضا وبشرا وثقافة ومقدّرات ـ ممّا يؤسّس لمشروعيّة التساؤل رفعا للالتباس وإنارة للرأي العامّ :فما هو مفهوم الشهادة في الاصطلاح الشرعيّ وما مدى انطباقه على ضحايا أفريل 1938..؟؟ ثمّ ما هي الخلفيّة الثقافيّة والرمزيّات السياسيّة الكامنة وراء التأريخ بتلك الأحداث للشهادة والشهَداء..؟؟
الشّهادة في الاصطلاح الشرعيّ
إنّ الشهيد في الاصطلاح الشرعي له حالتان: فإمّا أن تكون شهادته حقيقيّة بمعنى القتيل من المسلمين يقع صريعًا في أرض المعركة وهو يقاتل في سبيل الله، هذا هو الشهيد حقيقةً وهو حي يرزق عند ربّه تُغفر له ذنوبه جميعًا مع أوّل قطرة من دمائه ويشهد له الله وملائكته بالجنّة وتتعلّق به أحكام شرعيّة: فهو لا يُغَسَّل ولا يُكفّن بل يُدفن في ثيابه التي تضمخّت بدمائه الزكيّة في نفس المكان الذي وقع فيه صريعًا… الحالة الثانية أن تكون شهادته حكميّة لا حقيقيّة، وهذه تُنقل مما صحّ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل قوله (من مات دون ماله فهو شهيد ومن مات دون دمه فهو شهيد ومن مات دون عرضه فهو شهيد ومن مات دون أرضه فهو شهيد) وقوله (المبطون شهيد والغريق شهيد والحريق شهيد وصاحب الهدم شهيد) وقوله أيضًا (من قُتل بداء السّل وذات الجنب فهو شهيد والمرأة الجمعاء تموت في نفاسها فهي شهيدة)… والعلماء مجمعون على أنّ إطلاق صفة شهيد على هذه الأصناف لا يعطيها فضيلة الشّهادة الحقيقيّة ولا يترتّب عليها شيءٌ من الأحكام المتعلّقة بالشّهيد الحقيقي، وإنّما هو من باب التّقريب في الفضل، فهم فقط متميّزون عن سائر النّاس الذين يموتون في الحالات الطّبيعية… وبصرف النّظر عن هذا التّصنيف النّظري الإجرائي يبقى الشهيد الحقيقي بمواصفاته الشرعية في علم الله، فنحن نحكم بالظّاهر ونحتسبه عند الله شهيدًا، والله يتولّى السّرائر ويميز الشهيد من القتيل وهو القائل في محكم تنزيله (ويتّخذ منكم شّهداء)…هذه هي الشهادة في الاصطلاح، فهل تنطبق مناطًا ومواصفات على ضحايا أحداث أفريل 1938 حتى نعدّهم من الشهداء ونؤرّخ بتلك الواقعة لعيد الشّهداء..؟؟ بمعنى هل أنّ ضحايا تلك الواقعة كانوا يقاتلون لجعل كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا هي السفلى أم وُظِّفوا وقودًا لمشاريع الكافر المستعمر وأذنابه المستهدفة لهويّة البلاد والعباد ومقدّراتهم..؟؟
الشّهادة في العُرف البورقيبيّ
إنّ الشهادة في سموٍّها ورُقيِّها وفضائلها الدّنيويّة والأخرويّة هي كما أسلفنا مناطٌ شرعي، وإنّ إثباتها أو نفيها عن ضحايا أفريل 1938 يفترض منّا تحقيق مناط تلك الأحداث وتوصيفها شرعيًّا: فبعد انقلاب العصابة البورقيبيّة على المجاهد عبد العزيز الثعالبي وسيطرتها على مقاليد حزب الدّستور بأعيُن السّلطات الاستعماريّة الفرنسيّة ووحيها وتسهيلها، فَقَدَ هذا الحزب نَفَسَهُ الإسلاميّ وبُعدَهُ الأُمَميّ – على علاّته – وانخرط بشكله الجديد في النّضالات الوطنيّة الرّخيصة ضمن الهامش الذي رسمه له الكافر المستعمر وسمح له به وأوعز إليه أن يتحرّك فيه ألا وهو بتر البلاد عن جسم الأمّة الإسلاميّة وسلخها عن الإسلام وتركيز الحضارة الغربيّة فيها وتهيئتها للمسخ والنّهب والتّبعية ثمّ استلامها بالوكالة نيابةً عن الاستعمار..
في هذا الإطار سعى المستعمر إلى تمرير مشاريعه ومخطّطاته عبر أفواه أصحاب الشّأن أهل البلاد أنفسهم وإخراجها مخرج (النّضالات الدّمويّة والأمجاد التاريخيّة): من هذا المنطلق ووفق هذه الرّؤية السياسيّة زجّت العصابة البورقيبيّة بالشعب التونسي في أتّون صراعات لا ناقة له فيها ولا جمل واتّخذت منه معاول محليّة لهدم كيانه الإسلامي ومتاريس ودروعًا لتسديد الفاتورة البشريّة الكفيلة بتكريس شعبيّة بورقيبة وريادته للنّضال الوطني وإخراج مطالب الاستعمار مخرج الحقوق المنتزعة بالدّماء والحديد والنّار…وكانت باكورة هذه الصّراعات أحداث أفريل 1938: ففي التاسع من ذلك الشّهر وعلى إثر زيارة رئيس الحكومة الفرنسيّة (إدوارد دالادييه) لتونس خرجت مسيرتان سلميّتان في شوارع العاصمة رُفعت فيهما (مطالب الشّعب التونسي) للمسؤول الفرنسي والتقتا أمام مقرّ المقيم العامّ وقد جوبهتا من طرف قوّات الاحتلال بالرّصاص الحيّ ممّا أدّى إلى سقوط 22 قتيلاً و 150 جريحًا إلى جانب إلقاء القبض على عدد من (زعماء الحركة الوطنيّة) ونفيهم خارج البلاد (بورقيبة ـ المنجي سليم ـ علي البلهوان…) والسّؤال المركزي هنا هو: ما هي هذه المطالب التي قامت عليها هذه التحرّكات وهل ترتقي بمن سقط من أجلها إلى مصافّ الشهداء الذين قُتلوا في سبيل الله..؟؟
السمّ في الدّسم
إنّها تتلخّص في مطلب أساسيّ جوهريّ رُفِع في شكل شعار من طرف الشعب المنتفض ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب (برلمان تونسيّ)، وهو شعار ـ على قِصَرِه كمّا ـ مشحون بالرمزيّات السياسيّة المعادية للإسلام ولهويّة البلاد والعباد وانتمائهم الحضاريّ والسياسيّ بما يُبَوِّئُه مرتبة الحِرابة لله ورسوله وأحكامه وتشاريعه، فهو يُكرّس المسخ والاندثار والتبعيّة والذوبان في الغرب والانفصال عن الأمّة واستبدال الشّرع الحنيف بأنظمة الكفر، وكفى بذلك إثما مبينا.. فالمطالبة ببرلمان تونسيّ تختزل في ذاتها جريمتين نكراوين: أولاهما بتر البلاد عن جسم الدولة الإسلاميّة والاعتراف باستقلالها عن الخلافة العثمانيّة في شكل كيان وطنيّ كسيح تابع لقمة سائغة للاستعمار فلا قوّة تحميه ولا ظهر يستند إليه، أمّا ثانيتهما فتتمثّل في الإقرار بالتخلّي عن نظام الحكم في الإسلام (الخلافة) وتبنّي النظام الجمهوريّ البرلمانيّ الذي يُقصي الإسلام من واقع الحياة ويُسنِد التشريع إلى البشر ويترتّب عنه آليّا اندراس أحكام الإسلام واستحالة تطبيق الشرع لاستبدال طريقة تطبيقه بنظيرتها في المبدأ الرأسماليّ… فالكافر المستعمر في سعيه المحموم للقضاء على الإسلام وتفتيت وحدة المسلمين الصمّاء وتمزيقهم إلى كيانات هزيلة مخسيّة، ركّز مجهوداته باتجاه إسقاط الدّولة الإسلاميّة وإلغاء نظام الخلافة لأنّه يعلم علم اليقين أن لا وجود للإسلام بمعزل عن جهازه التنفيذيّ، ولا قوّة للمسلمين خارج إطار كيانهم السياسيّ، وقد كان له ما أراد بسقوط الدولة العثمانيّة سنة 1924… أمّا ترجمة ذلك على الجبهة التونسيّة ،فإنّ فرنسا الاستعماريّة ـ وقبل تسليم تونس شهادة ميلادها كدُويلة وطنيّة تابعة عميلة ـ سعت جاهدة إلى تزييف انتمائها وفكّ ارتباطها التاريخيّ بالدّولة الإسلاميّة والحيلولة دونها وتطبيق الشرع الإسلاميّ ثم ربطها بها ربطا عُضويّا محكما…كما حرصت على أن تُتَلقَّف هذه الجرائم من أفواه التونسيّين أنفسهم بوصفها (مطالب شعبيّة)، وقد تولّت الزمرة البورقيبيّة تنفيذ هذا المخطّط بالوكالة نيابة عن فرنسا وما مسرحيّة 09 أفريل 1938 إلاّ جولة من جولاته ناهيك وأنّ صفقة 1956 قد كرّسته عمليّا على أرض الواقع…
نحتسبهم شهداء
هل أنّ من قُتل اعتقادا في هذه المطالب وتكريسا للمشاريع الاستعماريّة التصفويّة المستهدفة لهويّة تونس والتونسيّين الإسلاميّة يُعتبر شهيدا وتنطبق عليه مُواصفات الشهادة بنوعيها الحقيقيّة أو الحكميّة..؟؟