غلاء الأسعار وسياسة الأمر الواقع

غلاء الأسعار وسياسة الأمر الواقع

تجتاح تونس موجة غلاء، تطال السلع الغذائية الأساسية كالدواجن والزيوت واللحوم الحمراء، وغيرها من السلع الأخرى، فهل هي أزمة معيشية عابرة نتيجة ظروف دوليّة وإقليميّة ضاغطة أم إن لها أسباباً أعمق؟

تدّعي السّلطة في تونس أنّ أزمة الأسعار، تعود إلى أسباب أهمّها ثلاثة:

السبب الأوّل: سياسات الحكومات السابقة (ما قبل 25 جويلية 2021)، التي اعتمدت بشكل كامل على القروض.

السّبب الثّاني فيعود إلى الاحتكار والمضاربة من جهات (لم يسمّها رئيس الدّولة) لضرب الدّولة وإضعافها،

أمّا السبب الثّالث عندهم فيعود إلى الحرب الرّوسيّة الأوكرانيّة، التي جعلت الأسعار عالميّا تلتهب فتكون بذلك

غلاء الأسعار ظاهرة عالميّة ليست تونسيّة فحسب

ومعرفة الأسباب وتعديدها، يوهم أنّ السّلطة شخّصت الواقع وعرفت داءه وأنّها ماضية في علاج الغلاء،فما هي المسارات التي سارت فيها السّلطة رئيسا ووزراء وحتّى معارضة، وهل ستُخرج تونس على الأقلّ من حالة الغلاء التي صارت مزمنة؟

مسارات السّلطة, الدّعاية والتّنصّل من المسؤوليّة 

المسار الأوّل دعائي يأخذ شكل “البروباغندا”، التي ذهبت في اتّجاهين الاتّجاه الأوّل، أنّ المصائب المتتالية من جائحة كوفيد إلى الحرب الرّوسيّة الأوكرانيّة، سبّبت أزمة لا في تونس فحسب بل في كلّ بلاد العالم، وبالتّالي فإنّ أزمة الغلاء هي عند السّلطة من قبيل القضاء والقدر الذي على المؤمنين أن يرضوا بخيره وشرّه، ويصبروا، ويسكتوا. أمّا الاتّجاه الثّاني في الدّعاية فييُحمّل المسؤوليّة للحكومات المتتالية بعد الثّورة وتحميلها المسؤوليّة في إغراق البلاد في مستنقع الدّيون الخارجيّة، وتعطيل دواليب الإنتاج حتّى صارت البلاد تتسوّل غذاءها من الخارج.

ولا يخفى أنّ غاية هذا المسار هو التّنصّل من المسؤوليّة، وتحميل السّابقين جريمة ما يقع، وهو مسار قديم يتجدّد، فالمقبور بن علي كان في بداية حكمه يُحمّل المسؤوليّة للعهد السّابق، وكذلك الأمر بالنّسبة إلى حكومات ما بعد الثّورة التي لم تنفكّ تُحمّل المسؤوليّة لبن علي وعائلته، ثمّ جاء سعيّة وجماعته ليُحمّلوا بدورهم المسؤوليّة لمن سبقهم. ومعلوم أنّ دور السّلطة (الدّولة) ورجال الدّولة لا الانشغال بمن سبقهم، ذلك أنّ الثّورة كانت من أجل الإنقاذ، وكذلك يزعم جماعة 25 جويلية أنّهم ما جاؤوا إلا لإنقاذ البلاد، فلماذا الانشغال لأشهر وسنوات بالسّابقين الذين أجرموا في حقّ البلاد؟ الأصل أن ينشغل رأس الدّولة وأجهزتها بمسار الإنقاذ بوضع سياسات تنطلق من رؤية واضحة، ومن ثمّ تقود الشّعب إلى الخروج من الأزمة، هذا هو الأصل ولكنّ ما وجدناه منذ بن علي ومرورا بحكومات ما بعد الثّورة وصولا إلى جماعة 25/07، غياب في الرؤية وغياب لسياسات واضحة نتج عنه عجز عن معالجة الأوضاع ومعالجة غلاء الأسعار ولو جزئيّا، وبدل ذلك لم نجد إلّا الخطابات الجوفاء التي احترفت السبّ والشّتم والتّهديد والوعيد للخصوم السياسيين، وللفاسدين والمحتكرين الذين يسعون إلى تفكيك الدّولة، والسّؤال هنا، ألم يكن 25/07 لتصحيح المسار وإنقاذ البلاد من الفاسدين والمحتكرين؟ فهل يكون تخليص البلاد منهم بالتهديدات المتلفزة التي لا تُنتج إلّا مزيدا من الاحتكار ومزيدا من الغلاء ومزيدا من الفساد؟؟؟

المسار الثّاني: الاستمرار في التبعيّة وترسيخها بادّعاء السّيادة:

قالوا إنّ الحكومات السابقة أغرقت تونس في مستنقع الدّيون، فهل كان المسار الجديد خروجا من هذا المستنقع؟ بالعكس تماما، فالمسار “الجديد” لجماعة 25/07 لم يكن إلّا مواصلة لسياسة الحكومات السّابقة، ولو قلنا إنّ حكومة الرئيس – بودن لم تكن لها من عمل طيلة أشهر إلّا العمل على جعل صندوق النّقد الدّولي يوافق على إقراض تونس، لما جانبنا الصّواب. ولقد صرّح ” نصر الدّين النّصيبي” النّاطق باسم حكومة الرئيس، أنّه “بالتوصل إلى اتفاقية بين المنظمة الشغيلة والحكومة، تكون تونس قد استكملت ملفها واستجابت لجميع الشروط”، وعبّر عن ابتهاجه بالقول بأنّ:”الملف التونسي أصبح مقبولا من الناحية التقنية وننتظر خلال الأسابيع المقبلة الحصول على الموافقة”.وسرّ ابتهاج المتحدّث باسم حكومة الرئيس أنّ الاتّفاق مع صندوق النّقدسيتم خلال الأيام، ويمكّن تونس من “الحصول على أولى التمويلات من الدول الصديقة التي وعدت بمساعدة تونس”. وهذا لا يعني إلّا مزيدا من القروض والدّيون.

 ولكن ما حيلة الحكومة ورئيسها وقد أغرقت البلاد سلفا بالدّيون؟ بما يعني أنّ الآلة الدّعائيّة ضدّ الحكومات السّابقة لم تكن في حقيقتها إلّا غطاء (شفّافا كاشفا فاضحا) لمواصلة نفس السياسة القديمة، وأنّ مسار 25/07 لم يكن لإنقاذ تونس حقّا إنّما جاء أو قل جيء به، لتمرير شروط صندوق النّقد الدّولي التي عجزت الحكومات السّابقة عن تنفيذها، وبذلك يكون غلاء الأسعار ضمن “خطّة” الأمر الواقع لرفع الدّعم نهائيّا، وضمن مسار دعائيّ تلفّه الخطب الرّنّانة الجوفاء عن الفساد والفاسدين ووعود الوهم عن إعادة أموال الشّعب المنهوبة…. والهدف أن يستكين الشّعب وأن يرضى بواقعه بالغلاء لأنّه قضاء محتّم وقدر لازم لا مفرّ منه.

وهذا إن تمّ يكون الرئيس سعيّد وجماعته قد نجحوا فيما فشل فيه بورقيبة (منذ ثمانينات القرن الماضي) وفشلت فيه حكومات ما بعد بن علي:

في تمرير أخطر شرط من شروط الصّندوق؛ رفع الدّعم.

في تركيع الشّعب التّونسي، وترويضه.

وخلاصة الأمر إنّ غلاء الأسعار، في هذا السّياق الذي نعيشه، هو في وجه من وجوهه معاقبة لشعب تونس على ثورته بتجويعه وتركيعه وقتل كلّ نفس ثوريّ فيه. لأنّه ثار على منظومة غربيّة رأسماليّة علمانيّة.

وعليه فإنّ المسألة ليست مسألة معيشة وغلائها إنّما الأمر حرب حضاريّة شاملة يشنّها الغرب المستعمر بواسطة خدّامه ليستديم استعباد الشّعوب المسلمة ولذلك تراه يستهدف الشّعوب الأكثر حركة وحيويّة ووعيا ومنها الشّعب التّونسي، ولذلك نقول إنّنا في أخطر مرحلة يلعب فيها الغرب آخر أوراقه معنا ؛ وهذا يستلزم مزيدا من الوعي ومزيدا من الإصرار على قلع المنظومة الغربيّة من بلادنا. ورفع هيمنتها وسيطرتها.

الأستاذ محمد الناصر شويخة

CATEGORIES
Share This