الدّيمقراطيّة صنم هذا العصر يُجرّ النّاس إلى معبدها (أو قل جحرها) بتعويذة “سحريّة” هي “الشعب يريد”.. وهي الأداة التي يستعملها المستعمر في الهيمنة على العالم ومنه العالم الإسلامي، حيث سيقت الشعوب بالمكر والخداع إلى جحر الديمقراطية فدخلوه، فكانت الدّيمقراطيّة هي الغطاء عن العملاء وبائعي الشعوب، فبها يصل كلّ من يريد السيّد الأوروبي إيصاله، بها وصل نبيل القروي، وراشد الغنّوشي وقيس سعيّد، وبها عادت وجوه بن علي رغم جرائمهم. وجوه متباعدة في الظّاهر لكنّها في الحقيقة دمى تحرّكها الأيادي الخفيّة- الظّاهرة في لعبة خطرة بل قذرة قناعها “الشّعب يريد”.
في تونس ثار الناس على أوضاعهم المتردية وهبوا ذات شتاء هبة الرجل الواحد وقرروا كسر القيود وأصفاد الظلم، وخرجت الحشود مرددة “الشعب يريد إسقاط النظام”فارتعدت فرائص شياطين الغرب خوفا من انفلات الأمر من أيديهم.المطالبة بإسقاط النظام أربكتهم فتقاطروا على تونس واستنفروا كلّ عملائهم والمنبهرين بثقافتهم لاحتواء شعار “الشعب يريد إسقاط النّظام” ورُفعت الدّيمقراطيّة لركوب الموجة وتوجيه الشّعار نحو الدّيمقراطيّة زاعمين أنّ الدّيمقراطيّة هي التجسيد الفعلي لإرادة الشّعب ولم تهدأ حركة السفراء ومبعوثي القوى الاستعماريّة حتّى وقع توجه جهود الثّوّار نحو انتخابات المجلس التأسيسيّ، فوضع دستور علماني (إشراف مباشر من الغربيين)ّ، ثمّ انتخابات 2014وسيق الشعب إلى سوقا تحت شعار “إرادة الشعب”التي اختزلوها في الانتخابات (التي تتمّ وفق قانون خبيث لا يوصل إلا من يرضى عليه السيّد الأوروبي) فلم تتخط “إرادة الشعب” حاجز تغيير بعض القائمين على النظام، وتنفس الكهنة كهنة معابد الديمقراطية الصّعداء، فعجلهم الصّنم لم يُمسّ بسوء، بل علا خواره أكثر فأكثر وهرع للسجود بين يديه عدد أكثر من المغفلين والدراويش وضعاف العقول والنفوس.
رحل “بن علي” وبدأ الشعب يعبر عما يريده، وبعبارة أوضح وأدق، صار كلّ فرد من أفراد الشّعب يقول ما يشاء، لكنّ التوجّه العامّوقع تحديده بضغوط القوى الدّوليّة الأجنبيّة وبخضوع فئة من محترفي السياسة في بلادنا، فالمطالبة بمجلس تأسيسي كانت الخطوة الأولى للسيطرة على الجموع الحاشدة، ثمّكانت صياغة دستور جديد- قديم صاغه الأجنبيّ وصادق عليه نواب التأسيسيّ كرسوا من خلاله ما يريدون هم لا ما يريده الشعب نظاما ديمقراطيّاأبعد أحكام الإسلام الذي يريده الشعب ويحبّه، ثمّ كانت انتخابات 2014 التي شهدت عزوفا جماعيّا، ليتمادوا في معصية الخالق ومنازعته عزّ وجلّ في التشريع. وتزداد معاناة الشعب. وتحت نفس الشعار الكاذب الشعب يريد وأنّ ما حصل كان من إرادة الشعب،
ومرت السنوات واشتد القحط وتعمّق الجراح وبات الشعب أهون عليهم من الجعلان، فسيق الشّعب مرّة أخرى إلى الانتخابات في حال من انعدام الثقة في كلّ الطبقة السياسيّة. وعادت خشية كهنة الديمقراطية على صنمهم من السقوط خاصة لأن خدعة التغيير عبر الانتخابات بدأت تنكشف وهذا ما ترجمته نسبة الإقبال على التصويت في الانتخابات التشريعية الأخيرة. صيحات فزع، ارتباك وهلع إلى درجة أن بعض الكهنة أقروا بأن الانتخابات الديمقراطية لا تغير أحوال الناس وإنما الغاية الحقيقية منها هو أن يظل الوثن ثابتا في مكانه والناس من حوله رُكّعا سجدا لا يبغون عنه حولا وأن لا يولوا وجوههم شطر شرع الله لأن وجوده في حياة الناس يخلصهم من ظلم وجور العباد ويقطع دابر الاستعمار.
نعم ارتفع الوعي لدى الناس وأصبحت إمكانية معرفة أصل الداء ممكنة، فكان لا بدّ من قطع طريق هذا الوعي. فتمّ إقحام قيس سعيّد أستاذ القانون الدّستوري وجها جديدا وبمواصفات جديدة (أهمّها أن لا يكون قد انتمى إلى الطّبقة السياسيّة) غمار الانتخابات على صهوة شعار “الشعب يريد” سلاحه اختلافه عن كل مكونات الطبقة السياسية في تونس، وحملة انتخابيّة مختلفة عنالمعتاد،لا بهرج فيها ولا صخب، وكلمات يُحبّها النّاس (عدل الفاروق عمر ابن الخطّاب، التطبيع مع إسرائيل خيانة عظمى) فارتفعت أسهمه والتفت إليه الناس وصار أملا جديدا في التغيير، لكنّ المبهورين به لم ينتبهوا إلى حرصه الشديد على الالتزام بالدستور وتشبثه بالقوانين وأنه جاء ليكرس علوية القانون.
ولكن أي دستور وأي قوانين؟
هونفس الدستور الذي وُضع بإشراف مباشر من الاتّحاد الأوروبي، ونفس القوانين التي سنتها التدخّلات الأجنبيّة الاستعماريّة، فقط كل ما أضافه “قيس سعيد” الإتحاف بشعار “الشعب يريد”.
بدأت اختبارات الرئيس الجديد تتالى وتتعاظم معها عثراته بل سقطاته إلى أن جاء الاختبار الأخير زيارته لفرنسا.
سُئل الرئيس عن موقفه من مطالبة إحدى الكتل البرلمانية في تونس فرنسا بالاعتذار عن احتلالها لبلادنا.احتلال لم يقبل به الشعب زمن وقوعه بل يعتبره متواصلا إلى يومنا هذا،ويرفضه رفضا. لكن قيس سعيّد الذي لا ينفكّ عن استعمال “الشعب يريد” في حركاته وسكناته، فاجأ محبيه وداعميه وتكلّ م بكلام المدافعين عن فرنسا واستعمارها وجرائمها، فأعلن على الملأ دون حياء أو تردّدرفضه تقديم فرنسا الاعتذار لأنها لم تكن تحتلنا بل كانت تحمينا (هكذا).
نعم الرئيس الحالي لا يرى في جرائم فرنسا التي تنأى عنها وحوش الغاب احتلالا بل هو حماية ورعاية بما يعني أنّ هذا الرئيس يراها الحامي والرّاعي, والدليل في نظره السقيم أنها تقدم لنا القروض وتمد لنا يد العون وتحول الأحلام إلى واقع، كحلم “قيس سعيد” بقطار سريع أول محطاته بنزرت وأخرها في بنقردان.
وبهذا المنطق السقيم يرى هذا الرئيس أنّه من الجحود والنكران للجميل (جميل الحماية) أن نطلب من فرنسا أن تعتذر حتى لو اعترف رئيسها الأسبق “جاك شيراك” بهمجية دولته إبان احتلالها للجزائر وتونس والمغرب وباقي البلدان الأخرى.
قلنا موقف “سعيد” من الاحتلال الفرنسي فاجأ أنصاره ومحبيه ولكنه لا يفاجئنا، ولو حصل العكس لكان مفاجأة (ما فاجأنا جرأته في التّصريح أو قل بعبارة أدقّ تهالكه في التودّد لفرنسا أمام العالم، في دبلوماسيّة فجّة ساذجة) لأن “قيس سعيد” كغيره ممن حكموا تونس، حضارة الغرب هي قِبلتُه ومصدر مفاهيمه وقوانينه،ممّا ينهض دليلا أن محاولته الظهور بمظهر المعتز بالإسلام وبعض رموزه كعمر الفاروق، وباللغة العربيّة الفصحى، لم يكن إلّا وسيلة من وسائل التملّق للشّعب.
وما فات قيس سعيّد ويفوت أمثاله أنّ ” العزّة لله جميع”