فشل نظام التعليم في دولة الحداثة
قناع آخر من أقنعة النظام العلماني ودولة الحداثة المزعومة يسقط أثناء العودة المدرسية لهذه السنة وكما في كل سنة، ليكشف مدى فشل وإفلاس هذا النظام الذي أصبح عاجزا عن أن يضمن لشعبه أبسط متطلبات التعليم ناهيك عن أن يوفر نظام تعليم يحقق النهضة ويحرر البلاد والعباد من الهيمنة الإستعمارية. فالفشل يكتنف نظام التعليم الحداثي في كل جوانبه، بدءا من السياسة والأهداف ووصولا إلي البرامج والبنية التحتية.
فشل سياسة التعليم في دولة الحداثة.
من المعلوم أن المنظومة التعليمية والتربوية بمختلف مراحلها في تونس منذ ما يسمى بالاستقلال قد مرت بعدة تجارب بدأت بالمشروع الذي ارتبط باسم الأديب محمود المسعدي سنة 1958 كتطبيق لمشروع الاتحاد العام التونسي للشغل، والذي تم استلهامه من مشروع آخر أعده الخبير الفرنسي جان دوبياس، وقد قدّم المشروع على أنه نموذج موحد يهدف أساسا إلى إنتاج السمات العامة والمشتركة للشخصية التونسية بعدما تميزت الفترة الاستعمارية بالتعدد التعليمي والتربوي، والذي كان سببا في خلق صراع بين المدارس الزيتونية والتي تمثل نموذج التعليم الإسلامي من ناحية والمدارس الفرنسية-العربية والتعليم الصادقي والتي تمثل النموذج الحداثي من ناحية ثانية، وهنا تجدر الإشارة إلى أن السلطة الاستعمارية عمدت إلى تأجيج الصراع والمؤامرات بين النموذجين عبر تكريس إصلاحات مموّهة وشكليّة كان هدفها فرنسة المناهج التعليمية بما يخلق جيلا جديدا من التونسيين كفيلا بضرب كل مقومات الشخصية والهوية العربية والإسلامية.
وبرغم ما اتسم به مشروع 1958 من دعوة إلى مجانية وديمقراطية التعليم كشعار عبر السعي الى نشر المدارس في جل أنحاء البلاد، إلا أنه اتضح بعد ذلك أن هذا المشروع تم استغلاله في التسويق والدّعاية السياسية، خصوصا في تلكم العشرية التي شهدت صراعا حادا بين بورقيبة وبن يوسف حول الزعامة بعدما انحازت الفصائل الطلابية الزيتونية آنذاك للتيار اليوسفي، والدارس للشأن التربوي منذ الاستقلال لا بد أن يلحظ انقلاب بورقيبة عن وعوده بترسيخ الهوية العربية الإسلامية في السياسة التربوية باستعمال اللغة العربية كلغة تدريس لجميع المواد مع الاستفادة من اللغة الفرنسية عند الضرورة ولأجل مؤقت لنصل في الأخير وعبر سياسة المراحل إلى الفرنسة شبه الكاملة.
ولم تكن التجارب الإصلاحية التي تلت تجربة المسعدي مثل تجربة أحمد قريعة والمزالي في السبعينات ووصولا إلى الشرفي أوائل التسعينات وانتهاء بالأزهر بوعون بأفضل حال منها بل على العكس من ذلك فقد عمقت القطيعة مع الهوية العربية والإسلامية ما يؤكد فشل سياسة التعليم في دولة الحداثة فشلا ذريعا في تجذير الهوية العربية الإسلامية وترسيخ مقومات الشخصية المسلمة وتعزيز الإنتماء للحضارة الإسلامية التي ينتسب إليها المسلمون في تونس.
فشل أهداف وبرامج المنظومة التعليمية في دولة الحداثة
منذ الإستقلال المزعوم وحتى يومنا هذا لم تفلح منظومة التعليم في تونس في إنتاج شخصية قادرة على النهوض بالمجتمع و التحرر من ربقة الهيمنة الإستعمارية بل وعلى النقيض من ذلك فقد أنتجت أجيالا هجينة منبتة لا صلة لها بدينها وحضارتها وثفافتها العربية الإسلامية ولا بالحضارة الغربية . فكانت أجيال من دون هوية ولا تحمل أي قضية تعيش من أجلها, لا تحسن غير الإستهلاك في كل مظاهره المعرفية والمادية. وذلك بسبب برامج التعليم الفاشلة التي تتالت عبر التجارب المختلفة التي مر بها التعليم في تونس والتي كان همها الوحيد هو فصل التلميذ التونسي عن هويته ومقوماته الحضارية الإسلامية حتى أنك لا تكاد تضفر بأثر لها في مختلف مراحل التعليم الأساسي والثانوي والعالي لتنتج في النهاية نموذج الشخصية الإستهلاكية التي تقبل بنهم على منتوجات الحضارة الغربية الإستعمارية سواء المعرفية أو المادية.
الفشل في مستوى التجهيزات والبنية التحتية
لطالما تبجحت دولة الحداثة في تونس بمجانية التعليم وإجباريّته, إلا أن مطالعة واقع المؤسسات التعليمية في تونس تكشف أنها ليست إلا مجرد شعارات فضفاضة لا صلة لها بواقع التعليم و مؤسساته في هذا البلد. فمؤسسات التعليم تعاني من نقص فادح في التجهيزات والإطارات ما يجعلها عاجزة عن القيام بالدور المرجو منها. فمدارس التعليم الإبتدائي لا تعتبر مؤسسات حكومية لذلك فإن الدولة لا ترصد لها ميزانية، مما جعل العديد من المدارس غير مؤهلة لاستقبال التلاميذ في بداية السنة الدراسية، فمنها المهددة بالسقوط ومنها ما تفتقد حتى للماء الصالح للشراب وأغلبها تعاني من نقص فادح في المدرسين والمشرفين حتى وصلت كارثية الوضع إلى افتقار إحدى المدارس إلى مدرس وحيد ولو للمواد التعليمية جميعها… وأمام عجز الدولة عن الخروج من هذا الوضع الكارثي الذي تعاني منه المدرسة العمومية نتيجة الارتهان لسياسات صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الإستعمارية، فقد وجد الناس أنفسهم مجبرين على التوجه إلى المؤسسات التعليمية الخاصة المكلفة والتي لا يقدر عليها الفقراء من أبناء الشعب، لينكشف بذلك زيف الشعارات الفضفاضة التي ترفعها دولة الحداثة وتتبجح بها, وتبقى معاناة الذين تاجر بأصواتهم ساسة هذا البلد متواصلة وتُنقل لأبنائهم.
مختار الجملي