فصل القرآن عن السنّة, أقصر السّبل لإسكات الشّريعة وطمس معالم الأحكام

فصل القرآن عن السنّة, أقصر السّبل لإسكات الشّريعة وطمس معالم الأحكام

حدّث أبو ذرّ التونسيّ قال: ثاني الأباطيل والافتراءات التي أُلصقت بكتاب الله وأشدّها خبثا ومكرا هي الادّعاء باستقلاله عن السنّة المشرّفة والمطالبة بوجوب فصله عنها أي عزل القرآن أثناء استنباط الأحكام عن أقوال الرّسول وأفعاله وتقريراته، وهي فرية مزدوجة مركّبة مستهدفة للقرآن والسنّة معا. فأعلام الاستشراق الكولونياليّ ومريدوهم على وعي تامّ بمكانة السنّة من الإسلام والقرآن ـ فهما وتشريعا واجتهادا وتنزيلا على الوقائع الجارية ـ لذلك استماتوا في استنقاصها والنيل منها سواء في كليّتها بوصفها مصدر تشريع أو في جزئيّاتها وتفاصيلها ـ كمّا وروّاة وسندا ومتنا وحجيّة ومصداقيّة ودلالة ـ وذلك لإعطاب القرآن الكريم والحيلولة دون تفجير الطّاقة الكامنة فيه.. فعوملت السنّة باستهانة واستخفاف وطُعِن في حجّيتها لإبطال الاستدلال بها والاستناد إليها، ثمّ انتهى بهم الأمر إلى إنكارها وفصلها عن القرآن الكريم كأقصر السبل لإسكات الشّريعة وطمس معالم الأحكام… على هذا الأساس ومنذ عقدين من الزّمان خرج علينا تباعا لفيف من صنائع الاستعمار وأذنابه محاطين بهالة إعلاميّة وادّعوا أنّهم (مسلمون قرآنيّون) منكرين للسنّة فاصلين بينها وبين الكتاب مزدرين بالمذاهب الاجتهاديّة وأعلامها مطلقين العنان لمخيّلاتهم الجدباء ترتع في نصوص القرآن وتستنطقها بما يحرّم ما أحلّ الله ويحلّل الكبائر.. وحسبي في هذه الأسطر وفي هذا الشّهر المبارك أن أبيّن تهافت هذه الفرية وبطلانها ،وأن أكشف الخلفيّة السياسيّة الاستعماريّة الكامنة وراءها وأن أوضّح منزلة السنّة المشرّفة من الإسلام والقرآن إنارة للرأي العامّ وقلبا للحجّة على أصحابها ليحيق بهم مكرُهم (ولا يحيق المكرُ السيِّئ إلاّ بأهله)…

السنّة وحي كالقرآن

إنّ المراد بالسنّة ما صدر عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم من قول أو فعل أو تقرير ـ أي سكوت ـ وممّا لا شكّ فيه أنّها وحي من الله ـ تماما كالقرآن الكريم ـ عدا أنّ الوحي في القرآن يشمل اللفظ والمعنى معا بخلاف السنّة فإنّ الوحي فيها يقتصر على معانيها ومضامينها التي عبّر عنها الرسول إمّا بلفظه أو بفعله أو بتقريره ،وهذا معلوم من الدّين بالضرورة لا يختلف فيه مسلمان :قال تعالى (وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى) وقال (قل إنّما أُنذركم بالوحي)… وبما أنّها جاءت بطريق الوحي من الله فإنّ السنّة تُعتبر دليلا شرعيّا أي مصدرا من مصادر التشريع كالقرآن سواء بسواء دون أيّ فرق، وإنّ الفصل بينهما والاقتصار على الكتاب هو من هرطقات الملاحدة والمارقين من الدّين هذا إلى جانب كونه أقصر طريق إلى فرقعة الإسلام من الدّاخل: قال تعالى (وما آتاكم الرّسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وقال (ومن يُطع الرسول فقد أطاع الله) وقال (قل أطيعوا الله وأطيعوا الرّسول).لافهذه نصوص قطعيّة في دلالتها صريحة في وجوب اقتران السنّة بالكتاب والأخذ بالسنّة كالأخذ بالكتاب لا يُنكرها إلاّ كافر،وقد حذّرنا الرسول من مغبّة الوقوع في هذه الفرية قبل أن تظهر وتقع حيث قال “يوشك أحدكم يقول :هذا كتاب الله ما كان فيه من حلال أحللناه وما كان من حرام حرّمناه ،ألا من بلغه عنّي حديث فكذّب به فقد كذّب الله ورسوله والذي حدّثه”…وحتّى ندرك خطر إنكار السنّة والدّعوة إلى الفصل بينها وبين الكتاب وخبث القائمين عليها ،من المفيد أن نفهم مكانة السنّة من الشرع الإسلاميّ ومنزلتها من القرآن ودورها في فهمه وتطبيقه حتّى نقف على حقيقة مشروعهم المستهدف للعقيدة الإسلاميّة بالهدم والتخريب…

منزلة السنّة من القرآن

إنّ اقتران السنّة بالقرآن في سياق الأدلّة الشرعيّة أمر وظيفيّ حيويّ لتحقيق البلاغ والبيان والإنذار ولاكتمال الرسالة السماويّة ـ فهما واستنباطا وإحاطة وتفسيرا وتنزيلا على الأحداث وتفعيلا في واقع الحياة ـ مصداقا للحديث الشريف “تركت فيكم أمرين لن تضلّوا ما تمسّكتم بهما: لكتاب الله وسنّة نبيّه” فالسنّة ليست في منزلة القرآن فحسب بل هي قاضية عليه بالشّرح والتوضيح لأنّها مُبيِّنة له في الغالب الأعمّ، قال تعالى (وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للنّاس ما نُزِّل إليهم)… فالنّصوص الشرعيّة في الكتاب جاءت خطوطا عريضة في شكل أصول وكليّات عميقة المعاني عامّة المقاصد متّسعة لاستنباط عدّة أحكام وللانطباق على مسائل كثيرة ،أمّا السنّة فنظرا لكثرة نصوصها وتعدّد مسائلها وتنزّلها على الوقائع الجارية فهي تفصيلات جزئيّة للأصول الواردة في الكتاب: فالقرآن جاء مجملا وفصّله الرسول وعامّا وخصّصه الرسول ومطلقا وقيّده الرسول بقوله وفعله وتقريره صلّى الله عليه وسلّم, من ذلك مثلا أنّ الله أوجب علينا الصلاة في القرآن دون بيان مواقيتها وأركانها وعدد ركعاتها وسائر تفاصيلها فجاءت السنّة وبيّنت ذلك “صلّوا كما رأيتموني أصلّي”… ومن ذلك أيضا أنّ الله أوجب أن يرث الأبناء الآباء (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظّ الأنثيين) وهو حكم عامّ في كلّ أب وولد فجاءت السنّة وخصّصت الأب المورِّث بغير الأنبياء “نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة” كما خصّصت الابن الوارث بغير القاتل “لا يرث القاتل شيئا”… ومن ذلك أيضا أنّ قوله تعالى (..ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) وردت ألفاظه مطلقة فجاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم وقيّد إطلاق الصيام بثلاثة أيّام وإطلاق الصدقة بإطعام ستّة مساكين وإطلاق النسك بذبح شاة واحدة…وكذا يُقال عن سائر الأحكام التي جاءت مجملة أو مطلقة أو عامّة وفصّلتها السنّة المطهّرة أو قيّدتها أو خصّصتها ،ولو اكتفينا بالقرآن كما يزعم (القرآنيّون) لما استطعنا مباشرة الصلاة أو الوضوء…

تشريع جديد

ولم تقتصر السنّة في بيانها للقرآن الكريم ـ توضيحا وشرحا ـ على ذلك فحسب بل جاءت بتشاريع جديدة ألحقتها بأصلها في القرآن: من ذلك مثلا أنّ الله حرّم الجمع بين الأختين في الزواج (وأن تجمعوا بين الأختين إلاّ ما قد سلف) فأضاف الرسول إلى هذا الأصل تحريم الجمع بين المرأة وعمّتها أو خالتها “لا تُنكح المرأة على عمّتها ولا على خالتها، ولا المرأة على ابنة أخيها ولا على ابنة أختها”… بل قد ينفرد الرسول بتشريع جديد ابتداء أي لا أصل له في القرآن من قبيل حكم الملكيّة العامّة في مرافق الجماعة “المسلمون شركاء في ثلاث: في الكلإ والماء والنّار” أو تحريم ضريبة الجمارك “لا يدخل الجنّة صاحب مكس”، وغير هذا كثير ممّا انفردت السنّة عن القرآن بتشريعه إلحاقا أو ابتداء… وعلى هذا المنوال نجد السنّة راجعة إلى الكتاب مُكمّلة لأحكامه متمِّمة لرسالته: فهي من جهة بمنزلة التفسير والشرح لمعاني أحكامه ـ تفصيلا وتقييدا وتخصيصا وتنزيلا على الوقائع الجارية ـ وهي من جهة أخرى مُزوّدة له بأصول تشريعيّة جديدة ومُدعِّمة لأصوله بفروع لم تنصّ عليها.. وعلى هذه الشّاكلة فإنّ السنّة امتداد للقرآن متماهية معه بشكل يستحيل معه الفصل بينهما، فالأحكام الشرعيّة متداخلة بين القرآن والسنّة متشابكة فيهما آخذ بعضها برقاب بعض بحيث يشتركان غالبا في تفصيلات الحكم الواحد ويتضافران معا في نحت معالم رسالة الإسلام وهذا هو المعنى الذي يفيده الاقتران الوارد في قوله تعالى (فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرّسول) ،فالرّسول هو ـ فعلا ـ ترجمان القرآن ،والسنّة هي ـ حقيقة ـ التطبيق العمليّ لما ورد نظريّا في الكتاب بكلّ ما تحيل عليه كلمة تطبيق من بيان وتوضيح وتنزيل وإضافة وتدعيم… وبدون السنّة يصمت القرآن الكريم وتندرس أحكامه أو تبقى حبيسة دفّتي المصحف…

مناورة سياسيّة

غير أنّ هذه الفقّاعة التي نفخ الاستشراق الكولونيالي في كيرها ـ وإن كانت في ظاهرها مسألة فقهيّة أصوليّة ـ إلاّ أنّها في باطنها عبارة عن مناورة سياسيّة ويجب أن تُقرأ قراءة سياسيّة تنزّلها في خطّها العريض العامّ ضمن الحرب التي يشنّها الغرب على الإسلام والمسلمين ومحاولاته الدؤوبة لقولبة الإسلام ومسخ شريعته وتجفيف نبعها الدفّاق… فقد أسفرت زاوية النظر الأولى لمكانة السنّة من الشرع الإسلاميّ ومنزلتها من القرآن الكريم إلى مصادرة بديهيّة حتميّة مفادها أنّ أيّ محاولة لفصل السنّة عن الكتاب تستهدف بالضّرورة فرقعة الإسلام من الدّاخل عبر تحييد القرآن الكريم عن التشريع وجعله غامضا مائعا فضفاضا مبتورا معزولا عن أسباب نزوله وطريقة تفجير الطّاقة الكامنة فيه مفتوحا على شتّى الاحتمالات صفحة بيضاء ومادّة خاما يسهل تطويعها وركوبها وتوظيفها لتكريس العمالة والتبعيّة والانحطاط… ثمّ فسح المجال أمام العقول الجدباء لأعلام الاستشراق الكولونيالي وفقهاء المدرسة اليعقوبيّة وأذنابهم المحليّين تصول فيه وتجول بالتأويلات والشطحات والتخريجات والقراءات التي رأت فيه مناطق فراغ ونسبت إليه الديمقراطيّة وقاذوراتها (الحريّات ـ المساواة ـ حقوق الإنسان…) ونفت عنه منظومة الحكم وسائر أنظمة الحياة واستندت إليه لتكريس المعاملات الربويّة الرأسماليّة ووظّفته للتفصّي من التكاليف الشرعيّة والطقوس التعبّديّة ومكّنت الطّالبي من تحليل البغاء والخمر وألفة يوسف من إباحة الشّذوذ الجنسيّ… وهذا هو تحديدا مراد الكافر المستعمر: ركوب الإسلام لتخريبه من الدّاخل وفرملة نبع الشّريعة والتحكّم في منسوبه ـ كمّا وكيفا ـ وتمرير التشريعات الغربيّة عبر إلباسها جبّة (الإسلام الحداثيّ) دون إثارة المسلمين أوتأليب الرأي العامّ الإسلاميّ… أي في نهاية الأمر تطويع الإسلام ومسخه واستيعاب المسلمين وترويضهم ثمّ أسلمة التشاريع الغربيّة وتحليل الفسق والفجور وسائر الموبقات لتأبيد انحطاط المسلمين والاستفراد بخيراتهم وضمان رضوخهم وتبعيّتهم السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة للغرب.. وهي مطالب عزيزة المنال عصيّة على التحقّق مجتمعة لولا بوّابة (اجتهادات شيوخ الإسلام الحداثيّ) ومشاريع (فقهاء الاستعمار) المسمومة…

بسام فرحات

CATEGORIES
TAGS
Share This