فظاعات يهود في غزّة: تأصيل عقائدي

فظاعات يهود في غزّة: تأصيل عقائدي

أبو ذرّ التونسيّ (بسّام فرحات)

مرّةً أخرى تلقي الانتخابات الإسرائيليّة بظلالها وضلالها على الشّعب الفلسطيني الأعزل العالق بين فكّي كمّاشة غزّة الطّاحنين (نتنياهو/السّيسي) ومرّةً أخرى تصبّ الحسابات السّياسيّة البراغماتيّة الميكيافيلية لكيان يهود في خانة العدوان على غزّة بوصفه شعارًا يستهوي الوسط السياسي وينمّي المخزون الانتخابي وينعش الرّصيد الرّوحاني الدّيني ويوحّد كافّة الأطياف السياسيّة في بلد تقتات ذاكرته الدّموية على مذابح (يشوع وطالوت وداوود..) ضدّ القبائل الكنعانيّة باعتبارها (أمجادًا تاريخيّة).. فإزاء مأزق تشكيل الحكومة المستعصي، لم يجد (بيبي) نتنياهو ـ كما يحلو للمطبّعين تسميته ـ بُدّا وهو المنتخب بفارق طفيف وغير مريح من الاغتسال في حمّام دم الغزّاويّين عسى ذلك يرفع من شعبيّته ويمُدّه بجرعة أوكسيجين سياسي تعيد أجنحة اليمين المتطرّف الشّاردة إلى القطيع اللّيكودي وتُحبط مساعي المعارضة العمّالية المتنامية حجمًا وقوّةً وترغم حماس وحلفاءها (إيران ـ قطر ـ تركيا..) على القبول بصفقة القرن الضّيزى ولو على مضضٍ.. وبصرف النّظر عن هذه التّفاصيل الجزئيّة فإنّ نفس السّيناريو العسكري الدّموي يتكرّر في كلّ محطّة انتخابيّة (2009 ـ 2013 ـ 2015 ـ 2019) قد تختلف التّسميات (عناقيد الغضب ـ حرب الفرقان ـ الرّصاص المسكوب..) إلاّ أنّ المسمّى يبقى واحدًا: حربًا وحشيّةً شرسة لا متكافئة من طرف واحدٍ تشنّها القوّة العسكرية السّادسة عالميًّا والعضو في النّادي النّووي على بقايا شعبٍ مشرّد أعزل، تستعمل فيها (الدّيمقراطيّة الوحيدة في الشّرق الأوسط) أعتى أنواع الأسلحة المحرّمة دوليًّا، من اليورانيوم المنضّب إلى الفوسفور الأبيض والقنابل الحارقة والعنقوديّة والانشطاريّة مرورًا بالصواريخ الموجّهة باللّيزر…

فظاعات مقزّزة

ورغم أن الهجمة الأخيرة على غزّة تندرج في خانة المناورات السّياسية بوصفها مجرّد (حملة انتخابيّة عسكريّة مفتعلة) موجّهة للاستهلاك الدّاخلي، إلاّ أنّ جيش الدّفاع (تساحال) وقطعان المستوطنين أبوا إلاّ أن يكشفوا خلالها عن حجم الحقد والبغض والقسوة والتشفّي وسائر المخازي التي ضاقت بها الشّخصيّة اليهوديّة حتّى طفح كيلها.. وقد بلغ هذا الإجرام المركّز ذروته ليلة 14/11/2019 حيث قُصِف منزل عائلة (السّواركة) بستّ قنابل زنة الواحدة طنّ (نعم) ما أدّى إلى إبادتهم جميعًا وهم نيام (خمسة أطفال وامرأتان ورجل).. هذا المشهد السّادي المقرف أعاد إلى الأذهان ـ وما بالعهد من قدمِ ـ مشهدين آخرين لا يقلاّن عنه فظاعةً وبشاعة: الأوّل أثناء اجتياح مخيّم جنين سنة 2009 حيث أقدم الجيش الإسرائيلي على تصفية رضيعةٍ لم تكمل سنتها الثّانية باثنتي عشرة رصاصة (نعم)، أمّا الثاني فأثناء العدوان على غزّة سنة 2015 حيث عمد مستوطن إلى حرق الرّضيع الفلسطيني علي الدّوابسة (سنة ونصف) حتّى الموت في منظرٍ ينفطر له قلب الحجر.. وإحقاقًا للحقّ فإنّ هذا السّلوك الذي تستنكف عن مثله الوحوش في آجامها يفتقر إلى عنصر المفاجأة: فماهو إلاّ غيض من فيض إجرام بني إسرائيل الذين لم يزيدوا عن تكرار أنفسهم بحرفيّة ما فتئت تجوّد أداءها من مذبحة إلى أخرى.. فتاريخهم مع أهل الرّباط عبارة عن مجزرة مفتوحة تخبو نارها حينًا وتستعر أحيانًا إن لم تكن بالجملة فبالتّفصيل وبنظام القطرة قطرة.. وحسبنا فيما يلي أن ننبش في العقيدة اليهوديّة بما هي القاعدة الفكريّة والخلفيّة القيميّة والمعياريّة والسّلوكية التي تستند إليها الشّخصية العسكريّة الصّهيونيّة، عسى ذلك يعيننا على فهم طبيعة الصّراع واستشراف حلوله..

فهل أنّ هذا الإجرام الخامّ المركّز مجرّد حدث معزول أو طفرة مرَضيّة لمستوطن مهووس لا تمثّل القاعدة ولا تعكس الشّخصيّة اليهوديّة، أم أنّه سلوك مقصود لذاته كإفراز طبيعي لوجهة النّظر اليهوديّة في الحياة..؟؟ هل هو مجرّد تكتيك ظرفي وانزياح سياسي اقتضته المرحلة وخيار تيّار وحزب دون آخر أم أنّه استراتيجيا مبدئيّة ممنهجة مدروسة مجمع عليها يهوديًّا..؟؟

في العقيدة اليهوديّة

إنّ المدوّنة اليهوديّة (توراة ـ تلمود ـ مقرا ـ بروتوكولات حكماء صهيون..) تعكس نظرة إلى الغير ملؤها الاحتقار والازدراء تقطع ما بين اليهود وسائر البشر من المشاركة في أصل الخلقة بحيث أن العنصريّة تبدو مجرّد إفراز بسيط من إفرازاتها وقطرة من بحرها الطّامي بالمخازي: فالعقيدة اليهوديّة قائمة على التميّز والاصطفاء بشكل غاية في التّعالي وقمّة في التطرّف، فهي تقسّم النّاس قسمين متقابلين اليهود والأمميّين.. أمّا اليهود فهم شعب الله المختار وأبناؤه وأحبّاؤه الذين اصطفاهم لعبادته (بزعمهم) وهم أطهار لأنّهم جزء من الله كما أنّ الإبن جزء من ابنه، أنفسهم مخلوقة من نفس الله وعنصرهم من عنصره (كذا قال الربّ اسرائيل ابني البكر) ـ التّوراة ـ وقد احتكرت لهم هذه العقيدة الذّكاء والعبقريّة وجعلتهم قوّامين على الحقّ والصّواب (لا يعرف الحقّ أحد غيرنا نحن شعب الله المختار الذي اصطفاه ليكون قوّامًا على الحقّ) ـ بروتوكول 13 ـ كما بوّأتهم محور الكون منهم تستمدّ سائر المخلوقات وجودها، فلو لم يُخلقوا (لانعدمت البركة من الأرض ولما خُلقت الأمطار والشمس ولما أمكن لباقي المخلوقات أن تعيش) ـ التّوراة ـ ..

وأمّا غيرهم من الأمميين فبهائم وأنجاس وحيوانات مخلوقة من طينة نجسة دنسة قذرة (الأمميّون جميعًا كلاب وخنازير بيوتهم كحظائر البهائم نجاسةً) ـ التّلمود ـ وهم مجرّد أشياء وجمادات غير عاقلة (الأمميّون كالغنم غباوةً ورؤوسهم مملوءة بالفراغ) ـ ب 15 ـ لم يُمنحوا الصّورة البشرية إلاّ محاكاةً لليهود حتى يسهُل التّعامل بين السّادة الأطهار والعبيد المحتقرين.. وعلى هذا الأساس منعت العقيدة اليهوديّة تدنيس الدّم اليهودي الطّاهر بغيره من دماء الأمميّين (ولا تصاهرهم ابنتك ولا تعطها لابنه وابنته لا تأخذها لابنك) ـ التّوراة ـ وسخّرت الأرض بمن عليها وما فيها للشعب المختار هبةً إلهية (سيقوم الربّ ويقيس الأرض ويجعل عبدة الأوثان الأمميّين تحت يد إسرائيل ويسلم جميع ممتلكاتهم لليهود) ـ التوراة ـ فالأمميّون عبيد لليهود مباحة لهم دماؤهم وأعراضهم كما أن أموالهم أيضًا ملك لليهود ومن حقّهم استردادها منهم بكلّ الطرق الشرعيّة والممنوعة، ولتحقيق ذلك سنّت العقيدة اليهوديّة ازدواجيّة أخلاقيّة أعفت بموجبها اليهود من كلّ خلق رفيع مع غيرهم وأباحت لهم معهم كلّ رذيلة لأنّ الآداب الرّفيعة حكر على اليهود فيما بينهم ولا تجوز مع الأمميّين بل تحرّم ويجب إهدارها: فالغشّ والخداع والسّرقة والفجور والقتل وهتك الأعراض وما إليها من الفواحش لا تُعدّ جرائم في حقّ الأمميّين لأنّ الجريمة في العرف التّوراتي لا تتحقّق أركانها إلاّ عندما يُعتدى على يهودي، وإنّما تعتبر بمثابة القربات والحسنات يثيبهم عليها ربّهم ويأجرهم على فعلها بل ويفرضها عليهم إذا قدروا عليها فهي فرض على من استطاع إليها سبيلاً (كلّ خير يصنعه يهودي مع أممي فهو خطيئة عظمى وكلّ شرّ يفعله معه قربان إلى الله يثيبه عليه) ـ التّلمود ـ وحسبك هذه (الآية) لتخمّن مقدار ما تنطوي عليه الشخصيّة اليهودية من روح الشرّ والتدمير والأذيّة والقسوة واللّؤم…

في السّلوك العسكري اليهودي

إنّ هذا الإرهاب الخام المركّز الذي يستلهم الشيطان منه وساوسه لا يمكن أن يستهوي إلاّ المجرمين والقتلة بما انّه يُعفيهم من كلّ فضيلة ويبيح لهم كلّ رذيلة ويحتكر لهم مع ذلك نعم الدّنيا ومتع الجنّة.. فلا عجب إذن أن مثلّث كراهية الغير سمة اليهود المميّزة، والرّغبة في الانتقام والإيذاء والإيلام الهدف الأسمى لحروبهم (إنّ مطامعنا غير محدودة وجشعنا نهم وتعصّبنا شديد وحقدنا عنيف، لذلك نتوق إلى انتقام لا رحمة فيه) ـ ب.9 ـ فهم لا ينظرون إلى العالم من حولهم إلاّ نظرة  عداوة وتوجّس وغدر (يدهم على كلّ أحد ويد كلّ أحد عليهم) كما تصفهم التّوراة، كلّ أمميّ بالنّسبة لهم هو ابتداءً عدوّ بالفعل ضحيّة بالقوّة والأمميّ الوحيد الطيّب هو الأمميّ الميّت.. ولئن كانت الحرب والقتال هامشًا عرضيًّا وانزياحًا ظرفيًّا في حياة الأمم لا تلتجئ إليه إلاّ مكرهة في الحالات القصوى، فإنّها تمثّل عند اليهود الأصل والقاعدة بل أسلوب عيش ووجهة نظر في الحياة لها جذورعقائديّة روحيّة مقدّسة فرضها (يهوه ربّ الجنود) وسنّها أنبياء بني إسرائيل بحيث لا نغالي إذا قلنا إنّ القتل عند اليهود طقس تعبّدي وشعيرة من شعائر الدّين وذلك من وجهين: الوجه الأوّل: أنّ قتل الأمميّ قربى إلى الله ومرضاة للربّ، فهو من أعمال البرّ والخير التي تُطلب لذاتها هكذا دونما ذنب ولو لمجرّد التّسلية لأنّ الأمميّ عدوّ لله ولأبنائه اليهود فمقتله يُرضي الربّ ويقتضي المثوبة (إنّ مدافن غير اليهود تثلج صدر الرّب وصدور أبناء إسرائيل لأنّ اليهود وحدهم من البشر وما عداهم أنواع مختلفة من الحيوانات الضارّة) ـ التّلمود ـ ولهم في السّيرة المزعومة للنبيّ موسى كما تصوّره التّوراة المحرّفة أُسوة حسنة، فإنّه حين استنجد به يهوديّ على القبطيّ (التفت هنا وهناك فلمّا لم يجد أحَدًا قتله وطمره في الرّمل).. والعقيدة اليهوديّة لا تكتفي بتسويغ الجرائم والإثابة عليها فحسب بل تشجّع على التفنّن والإفراط فيها، فالأخلاق اليهوديّة تقترب من كمالها كلّما ازدادت من العنف والقسوة قربًا (للوصول إلى غاية عظيمة حقًّا يجب ألاّ نتوقّف لحظةً أمام الوسائل وألاّ نعتدّ بعدد الضّحايا الذين تجب التّضحية بهم من ذرّية الأمميّين) ـ ب.15 ـ ..

تطهير عرقيّ

الوجه الثاني: هو أنّ القتل يتنزّل في سياق تطهير الأرض الموعودة من دنس الأمميّين، فهو آليّة تطهير عن طريق سفك الدّماء (وإذا أدخلك الرّب إلهك الأرض التي أنت صائرٌ إليها لترثها فاستأصل أُمَمًا كثيرة وأبدهم إبادةً فلا يقف أحدٌ بين يديك حتى تفنيهم) ـ التوراة ـ وتُطبّق هذه الآليّة بكيفيّة مخصوصة مستمدّة من سيرة النّبي يشوع أثناء غزوه لكنعان وتتمثّل في الاجتثاث المنهجي المدروس عبر الاجتياح فالتّخريب والقتل ثمّ الطّمس بكيفيّة أقرب إلى الإعدام الجماعي والسّفك المجّاني للدّماء منها إلى القتال الندّي الشّريف (ثمّ اجتاز يشوع من مقيدا إلى لبنة فأسلمها الربّ هي وملكها فضربوها بحدّ السّيف وقتلو كلّ نفس فيها كما فعلوا بأريحا، ثمّ جاز يشوع لبنة إلى لاكيش وحاربها فأسلمها الربّ إلى أيدي إسرائيل فضربوها بحدّ السّيف ولم يبقوا فيها باقية كما فعلوا بلبنة) ـ التّوراة ـ .. وهم حين يستخدمون سلاح العنف لا يستخدمونه استخدام الباسل الجريء بل استخدام الذّليل الجبان فلا يعترفون بعهد ولا يدينون  بذمّة بل ديدنهم الغدر والبغي فإذا انتصروا في موقعة أبادوا الجميع لا فرق بين محارب ومسالم صغير وكبير امرأة ورجل (فسخط موسى على وكلاء الجيش وقال: هل استبقيتم الإناث كلّهن؟ أقتلوا كلّ ذكر من الرّجال والأطفال وكلّ امرأة عرفت مضاجعة رجل أقتلوها) ـ التّوراة ـ .. وهذا التّطهير يتجاوز البشر ليطال كامل محيط عيش الأمميّين من حجر وشجر وحيوان، فإذا دخلوا بلدًا لم يكتفوا باستئصال سكّانها بل قتلوا سائر الحيوانات وأحرقوا مبانيها وصيّروها رمادًا (فقتلوا مدين كما أمر الرّب موسى وقتلوا كلّ ذكر كما قتلوا الغنم والبقر والخيل وقطعوا الأشجار وسبوا النّساء وأحرقوا المساكن والدّور بالنّار) ـ التّوراة ـ
إنّ كيان يهود إسرائيل هو أوّل من أدخل الجرّافة إلى ساحة القتال كسلاح عسكري فهو يستهدف المخيّم قبل ساكنيه وشجرة الزّيتون قبل المقاتل لأنّ حربه حرب إفناء واجتثاث وإبادة مقدّسة يستوي في ذلك الجميع ـ الصقور والحمائم، العمل واللّيكود ـ فالمسألة مسألة عقيدة قبل أن تكون سلوكًا عسكريًّا، فكلّ إناء بما فيه يرشح والشّيء من مأتاه لا يُستغرب…

CATEGORIES
TAGS
Share This