لطالما مثّلت مسألة الأقليّات أخطر معاول الهدم التي ساهمت في تقويض صرح الدّولة العثمانيّة :فهذه الأخيرة وبحكم امتدادها على ثلاث قارّات (آسيا ـ إفريقيا ـ أوروبا) ضمّت العديد من الأعراق والاثنيّات والمجموعات الدينيّة والمذهبيّة واللغويّة بما ساهم في إثراء مشهدها الاجتماعي والثقافيّ والسياسيّ..إلاّ أنّ الغرب الاستعماريّ حوّل هذا المعطى الإيجابيّ من عامل قوّة وتنوّع وثراء إلى عامل ضعف واحتراب وانحلال لضرب الدّولة الإسلاميّة وتفتيتها والقضاء عليها..فبذل مجهودات جبّارة لتركيز مفهوم مسموم للأقليّات بوصفهم مجموعات بشريّة مضطهدة وإثارته كقضيّة إنسانيّة ،كما قام بتبنّي بعض الأقليّات ثقافيّا وسياسيّا وعسكريّا وحرّضها على التمرّد والخروج على الدّولة العثمانيّة..وحتّى بعد قضائها على الخلافة وتمزيقها للعالم الإسلاميّ لم تتوقّف الدّول الاستعماريّة عن إثارة النعرات العرقيّة والدينيّة واللغويّة بل أخذت بتغذيتها وتركيزها استعدادا لمرحلة ما بعد الاستعمار (الاستقلال الصّوريّ) بحيث حرصت في رسم حدود الدويلات القوميّة والوطنيّة الوليدة على جعل عامل الأقليّات سببا مُولّدا للمتاعب والقلاقل وبابا مشرعا للاقتتال والاحتراب بما يُفضي إلى ديمومة التدخّل في شؤون هذه الدّول والسّيطرة عليها والتحكّم في مقدّراتها وسيادتها وقرارها السياسيّ..النّسخة المغاربيّة لهذا المخطّط الاستعماريّ الخبيث تمثّلت في النفخ في رماد النّعرة الأمازيغيّة البربريّة المنطفئة منذ القرن الثّامن للميلاد بما قد يفتح المنطقة على فتنة حمراء دمويّة تزوّد الكافر المستعمر المتربّص بها بمبرّرات قويّة للتأثير في شأنها الدّاخليّ والدّفع به نحو مزيد التبعيّة والتمزيق والإضعاف والاستنزاف (والفتنة أشدّ من القتل)..هذه البذرة الخبيثة التي زُرِعت منذ الفترة الاستعماريّة بدأت منذ تسعينات القرن المنصرم في طرح ثمارها المسمومة وقد انخرطت هذه الأيّام في سرعتها القصوى متسلّحة بترسانة من البحوث (التاريخيّة والأركيولوجيّة والأنثروبولوجيّة) التي تدّعي لنفسها المصداقيّة العلميّة فيما هي تنهل واقعا من مخيّلة الاستعمار الخصبة في شكل أساطير حوّلها البهرج الأكاديميّ المزيّف والماتراكاج الإعلاميّ المضلّل إلى حقائق تستند إليها النّعرة الأمازيغيّة البربريّة في تأسيس مشروعها على أرض الواقع المغاربيّ..
بوتقة الإسلام
لعلّه من فضول القول التأكيد على أنّ النّعرة الأمازيغيّة البربريّة من ألفها إلى يائها ما هي إلاّ إفراز استعماريّ وافد مسقط مفتعل لا عهد للمنطقة المغاربيّة به قبل استحواذ القوّات الفرنسيّة عليها أواسط القرن (19م) :فقبل هذا التّاريخ لم يكن البربر أنفسهم واعين بأنّهم ينتمون إلى جنس آخر غير العرب ،فهذا المعطى هو ثمرة أبحاث أكاديميّة تاريخيّة وأركيولوجيّة وأنثروبولوجيّة بعيدة عن متناول سواد النّاس أثارتها المدرسة التّاريخيّة الفرنسيّة خدمة للاستعمار وأهدافه التوسّعيّة ،ولا يمكن لأيّ باحث جادّ ونزيه أن يزعم أنّ البربر ـ منذ نهاية القرن (08م) إلى حدود النّصف الأوّل من القرن (20م) ـ قد أبدوا رغبة في التميّز عن العرب أو عبّروا عن تبرّمهم منهم أو أظهروا بوادر للثّورة عليهم أو استشعروا في أنفسهم كيانا سياسيّا وثقافيّا مختلفا عنهم..فبعد صدمة الفتح من (27هـ) إلى (50هـ) ـ وهي ردّة فعل طبيعيّة ناشئة عن غريزة البقاء بالدّفاع عن النّفس ولا تعكس وعيا قوميّا البتّة ـ تلقّف البربر الإسلام واحتضنوه لغة وعقيدة وثقافة وحضارة ،وفتحوا له صدورهم وقلوبهم وسخّروا له سيوفهم ودماءهم وأرواحهم وأموالهم..وبقدوم موسى ابن نصير (90هـ) حسن إسلامهم وأسقطت عنهم الجزية وأصبحوا جزءا عزيزا من الأمّة الإسلاميّة وانصهروا في بوتقة العقيدة الإسلاميّة العظيمة التي هضمت من قبل وثنيّة العرب وزندقة الفرس وهرطقة الرّوم والقبط وما هزلت ولا صدئت..وإنّ هزيمة البربر العسكريّة أمام الفاتحين لا تفسّر إقبالهم على اعتناق الإسلام وتلبّسهم به وذوبانهم فيه :فقد هزمهم من قبل الفراعنة والقرطاجيّون والرّومان والبيزنطيّون والقوط ولكنّهم ظلّوا مع ذلك محافظين على كيانهم وديانتهم وتميّزهم ،ولكنّها العقيدة الإسلاميّة في سموّها وقوّتها ومطابقتها للفطرة البشريّة وقدرتها الفائقة على طحن الفوارق العرقيّة والإثنيّة واللغويّة ،ناهيك وأنّ أربعة عقود من الفتح فحسب كانت كافية لتحويل مشعل نشر الإسلام من العرب إلى البربر :ففتح الأندلس (92هـ/711م) يُعدّ بامتياز إنجازا بربريّا صرفا قيادة وجيشا..وما هي إلاّ بضعة عقود حتّى استحال شمال إفريقيا على أيديهم منارة إسلاميّة تشعّ بنورها على الصّحراء الإفريقيّة وجنوب أوروبا (القيروان ـ الزّيتونة ـ القرويّين..) وقلعة متقدّمة للإسلام السنّي الخالص ومنجما عدّا لجلّة العلماء والقادة المجاهدين (أسد ابن الفرات ـ الإمام سحنون ـ يوسف ابن تاشفين ـ ابن خلدون ـ ابن منظور..) وسدّا منيعا أمام المطامع الاستعماريّة المختلفة (الصليبيّين ـ النورمان ـ الاسبان ـ البرتغاليّين..)..
بذرة فرنسيّة مسمومة
لقد كانت بلاد البربر قبل الفتح الإسلاميّ وعلى امتداد تاريخها القديم مطمع الحضارات وحمار الشّعوب القصير ومنجما للمرتزقة والجواري والعبيد ومطمورة لقرطاج وروما وبيزنطا..وما إن نُفخت روح الإسلام الزكيّة في الجسد البربريّ المتهالك كما نُفخت من قبل في الجثّة الجاهليّة حتّى كان الدّفع الحضاريّ من ذيل الأمم إلى سنامها والتحوّل الجذريّ من الضعف والموت والانحطاط والتخلّف إلى القوّة والحياة والعزّة والرّيادة والرقيّ مصداقا لقوله تعالى (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في النّاس كمن مثله في الظّلمات ليس بخارج منها).. وتواصل حال المنطقة على ما هي عليه 13 قرنا ـ جزءا عزيزا من أرض الإسلام ومكوّنا عضويّا من مكوّنات الأمّة الإسلاميّة لا تكدّر صفاءه ونقاءه هرطقة أو نعرة شوفينيّة منتنة ـ إلى حدود سنة 1830م تاريخ تدنيس الجيوش الفرنسيّة لأرض الجزائر..ولو كانت النّعرة البربريّة حيّة حينها لاستغلّتها فرنسا في احتلالها للبلاد، ولكنّ شيئا من ذلك لم يقع ،بل على العكس يذكر التّاريخ أنّ من صُنِّفوا بربرا فيما بعد هم الذين تصدّوا للاستعمار الفرنسيّ وقاوموه ورفعوا في وجهه راية العروبة والإسلام (زواوة ـ بني مزاب ـ برغواطة ـ الشّاوية ـ الطّوارق..) ..لقد حقّق الإسلام على أيدي العرب الفاتحين ما فشلت في تحقيقه جميع الحضارات التي تداولت على المنطقة المغاربيّة :وحدة شمال إفريقيا العقائديّة والثقافيّة واللغويّة..وما كان لهذه الوحدة والانسجام والتناغم والتلاحم أن يرضي غرور فرنسا وغطرستها ويلبّي مطامعها الاستعماريّة لذلك ما إن وطئت جيوشها المنطقة حتّى طفقت تراهن على عناصر التجزئة وتبحث عن معاول الهدم والتفتيت والتفرقة والفتنة الكامنة فيها.. فنبشت عن الجذور البربريّة المطمورة ونفخت في جذوة نعرتها الخبيثة وزوّدتها بأكسسوارات الهويّة الأمازيغيّة (لغة ـ كتابة ـ تقويم ـ لباس ـ موسيقى..) من بنات أفكارها العفنة ،وقد أثمرت جهودها هذا التوجّه الفرنكفونيّ الأمازيغيّ المعادي لانتماء المنطقة العربي الإسلاميّ الذي بلغ ذروته في المجموعة القبائليّة المتفرنسة ذات المنزع الصّليبي الحاقد الموظّف حاليّا لهزّ استقرار المنطقة..ناهيك وأنّ رئيس (التجمّع العالميّ الأمازيغيّ) طالب سنة 2019 خلال (المؤتمر التّاسع لأمازيغ العالم) بمنح الحكم الذّاتي لما أسماه المناطق الأمازيغيّة في شمال إفريقيا (القبائل الجزائريّة والرّيف والسّوس المغربيّين وأزواد شمال مالي.. كما دعا إلى إلغاء الحدود وتأسيس كنفدراليّة تضمّ دول المنطقة فيما يبدو أنّه مخطّط يرمي إلى توحيد المجال الجغرافي (للحضارة الأمازيغيّة) في كيان سياسيّ..وقد تلقّف الدستور الجزائريّ الأخير هذه المطالب/الإملاءات وشرعنها ودسترها بما يضع مستقبل المنطقة السياسيّ على كفّ عفريت ويجعل من انتمائها الثقافيّ والحضاريّ موضع تساؤل ومناط نسخ وتحوير وتعديل ويؤسّس بالتّالي للتفكّك والاحتراب والاقتتال..
المسألة البربريّة
أمّا كيف نجحت في تكريس النعرة الأمازيغيّة البربريّة وبعثها من أجداث المتاحف وكتب التّاريخ وجعلها حقيقة ميدانيّة وواقعا معيشا ،فإنّ فرنسا وما أن استقرّ بها المقام في شمال إفريقيا حتّى اتّبعت سياسة خاصّة تجاه البربر أسمتها (المسألة البربريّة) سعت من خلالها في مرحلة أولى إلى إحداث شرخ في التّركيبة السكّانية وزرع بذور التّفرقة والتّفتيت بين مكوّناتها وتحطيم وحدتهم وانسجامهم وبثّ روح الطائفيّة والعرقيّة بينهم وتقسيمهم إلى جنسين مختلفين متعاديين متناحرين (عرب/بربر) نزولا عند القاعدة الاستعماريّة الذهبيّة (فرّق تسد)..ثمّ في مرحلة ثانية تهميش العرب وإقصائهم ومحاربتهم في مقابل النّفخ في صورة البربر ـ حجما ودورا ـ ونحت ملامح هويّة بربريّة أمازيغيّة ـ لغة وعقيدة وثقافة ـ وتعميمها على المنطقة برمّتها في إطار حربها الصليبيّة على الإسلام والمسلمين..ولتحقيق ذلك سارت السّلطات الاستعماريّة الفرنسيّة في خطوتين متوازيتين متكاملتين ،الأولى عمليّة ميدانيّة :فقد فرنست لسان المجتمع المغاربيّ وأذكت حركة التّبشير وشنّت حربا شعواء على الثّقافة الإسلاميّة فمنعت تداولها وحظرت تلقّيها ونشرها وأغلقت مؤسّساتها وجفّفت منابعها ونكّلت بأعلامها ورجالاتها وحملتها حتّى أنّها سنّت قانونا يقضي بإعدام كلّ من يُدلي إلى السّلطات بوثيقة مكتوبة بالعربيّة (نعم)..وفي محاولة وقحة لاستنساخ أندلس جديدة استصدرت سنة 1929م مرسوم (الظّهير البربريّ) الذي يقضي بفصل المناطق البربريّة في المغرب الأقصى وعزلها عن محيطها العربيّ وإغلاق المحاكم إلى الشّرعية فيها وفرض القوانين العرفيّة عليها لطمس عروبتها وإسلامها كمحطّة نحو فرنستها وتنصيرها..
العلم في خدمة الاستعمار
أمّا الخطوة الثّانية فنظريّة :وقد رامت من ورائها توظيف العلم في خدمة أغراضها الاستعماريّة وشرعنة افتراءاتها وأعمالها الإجراميّة في حقّ شعوب المنطقة بإخراجها في ثوب (البحوث العلميّة التاريخيّة والأركيولوجيّة والأنثروبولوجيّة) الموثّقة الثّابتة المطابقة للواقع المغاربيّ المعيش..فاستعانت بطاقم من أقطاب علمائها وآثاريّيها (لويس رين ـ دولافوس ـ بالو ـ روني باسي ـ مويي ـ مارسال كوهين ـ ستيفان قزال ـ شارل أندريه جوليان ـ جورج مارسي..) وجعلت منهم نواة للمدرسة التاريخيّة الاستعماريّة الفرنسيّة..فاستحدثوا (علم البربريّات) وأسّسوا (أكاديميّة البربر) في باريس منبرا لتشويه تاريخ المنطقة وطمس حقائقه وتحريف ثوابته ،وضخّموا كلّ تحرّك للبربر وعدّوه (ثورة ذات منزع قوميّ بربريّ معاد للعرب والمسلمين) وأسقطوا تفاسيرهم وقراءاتهم الفجّة على تمرّد كسيلة والكاهنة والخوارج حتّى أنّهم جعلوا من تحريف بسيط ناشئ عن سوء فهم لتعاليم الإسلام (ديانة برغواطيّة)..لقد مثّل علم الأنثروبولوجيا والكشوف الأثريّة أداة في يد السلطات الاستعماريّة لدمج المغرب العربيّ بفرنسا عن طريق ربط شعبه وثقافته وماضيه بفرنسا ـ ما أمكن لهم ذلك ـ وبأوروبا إذا تعذّر عليهم (وذلك أضعف الإيمان) وكان الولاة والجنرالات والمقيمون العامّون الفرنسيّون يتابعون شخصيّا نتائج البحوث والحفريّات ،كما أنّ مصلحة الآثار كانت ملحقة مباشرة بالدّاخلية ومرتبطة بالأمن القوميّ الفرنسيّ..وقد كرّست المدرسة التاريخيّة الاستعماريّة الفرنسيّة قناعات ومسلّمات نافية بشكل مسبق أيّ إمكانيّة بحث في قضايا شمال إفريقيا في إطار العلاقة مع الشّرق ،حتّى أنّ تاريخ المنطقة وما يتعلّق بالبربر وأصولهم ولغتهم وكتابتهم وثقافتهم لا يُنظر إليه إلاّ في إطار العلاقة مع أوروبا، أمّا العلاقة مع الشّرق فمرفوضة ابتداء..ولم تتورّع هذه (المدرسة) في سبيل ذلك عن إخفاء المعلومات وتزويرها وإقصاء أبحاث ونظريّات والتضليل والانتقائيّة والطّمس والتّشويه بما يجيز لنا أن نتحدّث عن (أساطير مؤسّسة للنّعرة الأمازيغيّة البربريّة).. ـ يتبع ـ