في الأساطير المؤسّسة للنّعرة الأمازيغيّة البربريّة

في الأساطير المؤسّسة للنّعرة الأمازيغيّة البربريّة

إنّ واقع التّعايش والتّناغم والانسجام الذي ميّز الشّعب المغاربيّ ـ عقائديّا وثقافيّا وحضاريّا ـ وحال اللّحمة والانصهار والتّماهي بين مكوّناته، بقدر ما حاولت الامبراطوريّة الفرنسيّة جاهدة مسخه وإلغاءه وتهميشه، فإنّها في المقابل عملت وسعها على استنساخه والنّسج على منواله والإيهام به وإسقاطه على (هويّة أمازيغيّة بربريّة) مصطنعة مفتعلة مختلقة من بنات أوهامها الاستعماريّة المريضة ثمّ فرضها على واقع المنطقة برمّتها (تعميما للفائدة).. فإذا بها في مفارقة وقحة وجريمة مضاعفة تنخرط محمومة في تزييف وطمس حقيقة ينطق بها صراحة الحجر والشجر قبل البشر في شمال إفريقيا بالتّوازي مع تكريس فرية وأكذوبة مركّبة ينفيها التّاريخ وتنكرها الجغرافيا مستعينة في ذلك بطاقم من العلماء والعملاء تولّوا أمر تسويقها في قالب حقائق مطلقة ومسلّمات بديهيّة لا يرقى إليها أدنى شكّ مع أنّها خرافات وأساطير بعضها فوق بعض..

أمّا الأسطورة الأمّ والرّحم التي تعتمل فيها باقي الأساطير فهي اعتماد اللغة مقياسا للتّقسيم: فقد عُدَّ النّاطقون بالعربيّة عربا والنّاطقون بالأمازيغيّة بربرا مع أنّ الواقع التّاريخي والاجتماعيّ يؤكّد أنّ العمق البشريّ الدّيموغرافي لشمال إفريقيا والعمود الفقريّ لتركيبته السكّانية هو بلا منازع بربريّ صرف، فلا يُعقل سوسيولوجيّا وجينيّا أنّ بضعة آلاف من الفاتحين ومجموعات قبليّة صغيرة كانت من فئة (الأرانب) بحيث استطاعت تحوير التّركيبة العرقيّة للمنطقة وقلبها رأسا على عقب لصالح الجنس العربيّ.. فالذي حصل تاريخيّا هو ذوبان العرب عرقيّا في البربر في مقابل ذوبان البربر ثقافيّا وحضاريّا في العرب المسلمين.. فلئن عمّ الإسلام جميع البربر فإنّ التعريب اللّسانيّ استثنى سكّان المناطق المعزولة المنيعة الذين تحصّنوا بها وحالت تضاريسهم الوعرة دون اختلاطهم بالعرب الفاتحين.. فالحاصل والثّابت أنّ سكّان شمال إفريقيا كلّهم بربر ـ إن لم يكن ذلك عرقا ودما فنسبا ومصاهرة ـ وإنّ التّصنيف الثّنائيّ النمطيّ القائم على جنسين (عرب/بربر) الذي أرادته فرنسا قالبا جاهزا للفتنة والصّراع ما هو في الواقع إلاّ ثنائيّة من داخل الجنس البربريّ نفسه (بربر ناطقون بالعربيّة/بربر ناطقون بالأمازيغيّة).. فالبوتقة العرقيّة البربريّة الطّاغية والمسيطرة صهرت جميع الأجناس التي طرأت على المشهد المغاربيّ (قرطاجيّين ـ رومان ـ عرب ـ أتراك..)..

أسطورة الأصل الأوروبيّ

إلاّ أنّ هذا الاستنتاج الوجيه المطابق لسنن الاجتماع البشريّ القاضية بذوبان الأقليّة في الأغلبيّة لا يكفي وحده للإجابة عن السّؤال المركزيّ الذي تتأسّس حوله الإشكاليّة: ما هو أصل البربر..؟؟ إذ على ضوء الإجابة عنه يمكن إمّا ترسيخ البربر في فضائهم  الحضاريّ العربيّ الإسلاميّ أو فصلهم عنه وربطهم بأوروبا وإدماجهم بفرنسا وبالتّالي شرعنة استعمارهم..لقد أجمع النسّابة العرب من مختلف الطّبقات والأجيال حول الأصل المشرقيّ العربيّ للبربر والرّبط بينهم وبين قبائل بني مازيغ وبني صنهاج التي انتقلت من جزيرة العرب إلى بلاد المغرب منذ الألف العاشرة قبل الميلاد..كما أجمع النسّابة البربر أنفسهم من صاحب الحمار إلى حسن الوزّان على انتماء البربر إلى العرق العربيّ إمّا عبر مازيغ ابن كنعان ابن حام ابن نوح (بالنّسبة لفرع البرانس) أو عبر قيس عيلان المضريّ العدنانيّ (بالنّسبة لفرع البتر) أو عبر حمير (بالنّسبة للطّوارق).. وبصرف النّظر عن مصداقيّة هذا الإجماع العلميّة ومدى حجّيته ومطابقته للحفريّات الأثريّة والأبحاث الأركيولوجيّة والأنثروبولوجيّة ـ وهي تثبته وتؤكّده ـ فإنّ المدرسة التاريخيّة الاستعماريّة الفرنسيّة أقصت هذا الاحتمال بشكل مسبق ونفته ابتداء وخاضت أبحاثها بهذه الخلفيّة المغرضة في إطار مخطّطها الهادف إلى عزل البربر عن محيطهم الشرقيّ وحشرهم قسرا في محيطها الغربيّ لاستيعابهم وتذويبهم فيها :فقد روّجت لنظريّات متعدّدة تلوي عنق الحقيقة وتحقّق لها غايتها مثل نظريّة الأصل الأوروبيّ للبربر أو نظريّة الأصل الحاميّ أو نظريّة جنس البحر الأبيض المتوسّط.. وقد طعن الباحثون النّزهاء فيها جميعها وبيّنوا تهافتها لاسيّما وأنّها قائمة أساسا على فرضيّة مستحيلة تتمثّل في إمكانيّة الملاحة البحريّة بين ضفّتي المتوسّط والتي لم تكن متاحة قبل العصر الحجريّ الحديث..كما أنّ البحوث الجينيّة واللغويّة المقارنة لم تصدّقها بل جاءت متعارضة معها ممّا اضطرّ (الدكتور فالو) رئيس البعثة الأثريّة للاعتراف في تقريره الرسميّ إلى والي الجزائر العامّ سنة 1949م (بعدم واقعيّة إدماج المغرب العربيّ بأوروبا نهائيّا).. وبسقوط هذه النظريّة الفجّة تهاوى معها الحلم الاستعماريّ بدمج المنطقة المغاربيّة في الكيان الفرنسيّ وبترها عن جسمها المشرقيّ..

أسطورة الأصل المحليّ

إلاّ أنّ المدرسة التاريخيّة الاستعماريّة لم تيأس وارتمت مرغمة مكرهة في أحضان النظريّة الانثروبولوجيّة القاضية بأنّ البربر يتحدّرون من سلالات ما قبل التّاريخ المحليّة بالمنطقة على غرار الحضارة العاتريّة والحضارة الموستيريّة والحضارة القفصيّة والوهرانيّة.. وقد روّجت لها بكثافة في محاولة منها لتدجين البربر وجعلهم أهليّين محليّين بعد أن تعذّرت أوربتهم، الأمر الذي يضمن هو الآخر عزلهم عن عمقهم العربيّ الإسلاميّ ونفي أيّ صلة لهم بالمشرق..وقد ركبت في سبيل ذلك وبكلّ وقاحة كلّ المحظورات من قبيل إقصاء أبحاث وإخفاء معلومات وتوخّي أسلوب انتقائيّ طامس للحقائق مشوّه لها: فلإخضاع المغرب العربيّ إلى منطق هذه النظريّة أقصت المدرسة التاريخيّة الاستعماريّة الفرنسيّة ليبيا من دراستها وعزلتها عن باقي المنطقة وصمتت عن نتائج أبحاث ما قبل التّاريخ فيها لا لشيء إلاّ لأنّها ممرّ وعنصر ربط ،فمواقعها التاريخيّة تثبت سيرورة الانتشار الجغرافيّ ومساره التاريخيّ من الشّرق نحو الغرب وتؤكّد بالتّالي التّواصل الحضاريّ والبشريّ بين المشرق والمغرب عبر تشابه الصّناعات الحجريّة والمنحوتات والأساليب الفنيّة وانتقال النّشاطات الزراعيّة والفلاحيّة..كما غيّبت المعلومات المتوفّرة عن الحضارات الوهرانيّة والموستيريّة والعاتريّة التي تثبت أنّ أصحابها مجموعات مهاجرة من الشّرق..وتعمّدت إخفاء نتائج الحفريّات المتعلّقة بالإنسان القفصيّ التي تربطه مباشرة بنماذج بشريّة من آسيا الغربيّة ،ممّا يؤكّد أنّ ما اعتبرته هذه المدرسة الاستعماريّة (حضارات محليّة) ما هو إلاّ أجناس طارئة على المنطقة المغاربيّة وعناصر مهاجرة ـ من الشّرق تحديدا ـ حاملة معها مكتسباتها الفلاحيّة والرعويّة ،ناهيك وأنّ شمال إفريقيا خال من أصول نباتات الحبوب والحيوانات المدجّنة في شكلها البرّي بما ينفي قطعا أصالة تلك النّشاطات ويُثبت يقينا استقدامها من خارجه..فالنظريّة الانثروبولوجيّة التي تشبّث الاستعمار بتلابيبها أوهن من بيت العنكبوت لا تصمد أمام النّقاش العلميّ الموثّق ولا يمكن أن تطمس أصالة البربر الشرقيّة وأرومتهم العربيّة القديمة..

أسطورة (الأمّة البربريّة)

حفاظا منها على المنطق الدّاخليّ للنظريّة الأنثروبولوجيّة ادّعت المدرسة التاريخيّة الاستعماريّة أنّ البربر مجموعة عرقيّة وإثنيّة متجانسة وشعب موحّد تجمع بين أفراده سمات جينيّة ومميّزات ثقافيّة وحضاريّة مشتركة تميّزه عن سائر الشّعوب وترقى به إلى مستوى الأمّة ذات الحضارة العريقة ،وطفقت تروّج لمقولات من قبيل (اللّوبيّون هم سكّان شمال إفريقيا الأصليّون ـ الشّعب البربريّ ـ الحضارة البربريّة ـ الأمّة البربريّة..) قبل أن يستقرّ بها الاصطلاح عند (الشّعب الأمازيغيّ ـ أمازيغ العالم ـ الحضارة الأمازيغيّة..) وهو كلام إنشائيّ يفتقد لأدنى مصداقيّة علميّة مسوق على عواهنه تحت ضغط هواجس الاستعمار الانقساميّة يُكذّبه الواقع ويفنّده البحث العلميّ النّزيه..فالثّابت تاريخيّا أنّ مصطلح (بربر) صفة مشحونة بمعاني الاستنقاص والاستهجان تفيد معنى الهمجيّة والتوحّش والتخلّف أطلقه الإغريق والرّومان وقصدوا به مجموعات بشريّة تقطن شمال إفريقيا من غرب النّيل إلى المحيط الأطلسيّ ومن المتوسّط إلى تخوم الصّحراء ،وهي متّسع جغرافيّ استوعب العديد من الشّعوب والقبائل المختلفة عرقيّا وإثنيّا..كما أنّ مصطلح (أمازيغ) الذي يعني (الرّجل الحرّ النّبيل) والذي أشاعه أصحاب النّزعة البربريّة في أدبيّاتهم وعمّموه على كامل سكّان شمال إفريقيا فإنّه ليس علما على كلّ البربر، بل هو اسم لقبيلة كبرى من قبائلهم اتّصفت بتلك الصّفة وتردّد اسمها في المصادر التّاريخية اللاّتينية واليونانيّة والإغريقيّة والفرعونيّة لكثرة تمرّدها ورفضها الإذعان للنّفوذ الأجنبيّ ،وقد عُمِّم هذا الاسم من باب تسمية الشّيء بأبرز ما فيه كما عمّم الإسبان اسم قبيلة (المور) على سائر البربر ثمّ على مسلميّ الأندلس (الموريسكيّون)..فالبربر شعوب وقبائل متعدّدة منحدرة من إثنيّات وثقافات مختلفة، وإنّ الادّعاء بتجانسها العرقيّ والإثنيّ مجرّد أسطورة من اختلاق المدرسة التاريخيّة الاستعماريّة الفرنسيّة ،وهذا باعتراف أحد أقطاب منظّريها (الدّكتور روني باسي) حيث قال في كتابه (البربر) ص 11 (هناك معطى غير قابل مطلقا للنّقاش :أنّ البرابرة اليوم ـ معرّبين أم غير معرّبين ـ لا يشكّلون بأيّ طريقة من الطّرق مجموعة عرقيّة إثنيّة متجانسة) والفضل ما اعترف به الأعداء..

أسطورة التجانس العرقيّ

هذا الحكم الذي يرقى إلى مستوى المسلّمة التاريخيّة البديهيّة يكتسب مصداقيّته وحجيّته من تواتره وانطباقه على واقع البربر عبر سيرورة تاريخهم من العصر الحجريّ إلى يوم النّاس هذا بالمشاهد الملموس :فقد أثبتت الحفريّات والتّنقيبات والكشوف الأثريّة أنّ منطقة شمال إفريقيا شهدت في العصر الحجريّ الحديث حضارات مختلفة متمايزة من حيث طرق العيش والعادات الغذائيّة والأدوات المستعملة والصّناعات الحجريّة والأساليب الفنيّة (الحضارة العاتريّة ـ القفصيّة ـ الموستيريّة ـ الوهرانيّة..) وأنّها كانت تعكس نماذج بشريّة متنوّعة من حيث السّمات والبنية الهيكليّة ،ممّا أجاز لنا التحدّث عن (الإنسان القفصيّ ـ إنسان بئر العاتر ـ إنسان مشتى العربيّ ـ أصحاب الرّؤوس المستديرة..)..هذا الخليط العرقي الإثني اللاّمتجانس والذي ميّز فترة ما قبل التّاريخ تواصل مع الفترات التّاريخية القديمة والوسيطة ،إذ نجد له صدى في كتب النسّابة الإغريق والرّومان والعرب وفي نقوش المعابد الفرعونيّة :فقد تحدّثت كلّها وبصراحة عن قبائل وشعوب متعدّدة ومتنوّعة مختلفة من حيث سحنتها وسماتها الخلقيّة وبنيتها الهيكليّة ومعتقداتها وعاداتها وتقاليدها تؤثّث الفضاء المغاربيّ وتشغل مناطق مختلفة فيه (الأمازيغ ـ التحنو ـ التمحو ـ اللّيبو ـ المشواش ـ القهق ـ السبد ـ الأسبت ـ القايقش ـ الشّيت ـ الهسا ـ البقن ـ الكيكش ـ المور ـ جدالة..).. وممّا يؤكّد هذه المعلومات أنّ النماذج الحاليّة المعاصرة للبربر تعكسها بأمانة وبالمشاهد الملموس ،فيمكن أن نلاحظ اليوم بكلّ يسر خمس مجموعات عرقيّة بربريّة متباينة في مظهرها :المجموعة الأولى متميّزة بطول القامة والشّعر الأشقر والعيون الملوّنة وهي منتشرة في بلاد القبائل والأوراس (زواوة ـ كتامة..)..المجموعة الثّانية متميّزة بقصر القامة والسّمرة والشعور السّوداء والعيون العسليّة وهي منتشرة في جبال الرّيف والأطلس المغربيّين (غمارة ـ هوّارة..)..المجموعة الثّالثة تتميّز بالطّول وخفّة الشّعر والوجوه العريضة والشّاحبة وهي منتشرة في أواسط الصّحراء ومناطق سوف ومزاب والجريد (فطناسة ـ هرماسة ـ قرماسة..)..المجموعة الرّابعة متكوّنة أساسا من طوارق الصّحراء وتتميّز بطول القامة والأطراف وضيق الصّدر والبطن مع غلبة السّمرة والملامح الزنجيّة (صنهاجة ـ لمتونة..)..المجموعة الخامسة تتميّز بالقصر والسّمرة وضخامة الجثّة والرّؤوس الكبيرة المستديرة ومجالها غرب النّيل إلى الحدود التونسيّة..وهو تنوّع يعكس بلا شكّ تعدّدا في الأصول والأعراق ،فعن أيّ تجانس عرقيّ وإثنيّ للبربر نتحدّث..؟؟   (يتبع)

أبو ذرّ التّونسيّ (بسّام فرحات)

CATEGORIES
TAGS
Share This