لقد عمل الاستعمار الفرنسيّ مستعينا بمدرسته التّاريخيّة على قولبة الرّصيد البشري والثقافيّ المغاربيّ في كنتونات وقيتوات متناقضة وتقسيمه إلى ثنائيّات نمطيّة متنافرة حدّ الشّطط قبل الزجّ به في أتّون صراع عرقيّ إثنيّ يكرّس التّمزيق والتّفتيت ويساعده في إحكام قبضته على المنطقة..من هذا المنطلق سعى الاستعمار إلى دعم وإسناد الثنائيّة الأمّ المكرّسة للنّعرة الأمازيغيّة (عرب/بربر) وتزويدها بأكسسواراتها ومبرّرات وجودها الثقافيّة منها والتّاريخيّة ،فادّعى بوجود لغة بربريّة في مقابل اللغة العربيّة حتّى يتسنّى له تمييز البربر واستثنائهم بوصفهم كيانا مكتملا قائما بذاته مختلفا عن كيان العرب المسلمين متباينا معه منفصلا عنه وضحيّة له..ونحن وإن كنّا لا ننكر تاريخيّا وجود لسان بربريّ ولكنّنا نفنّد ارتقاء ما بقي منه اليوم إلى مستوى الأداة اللغويّة التعبيريّة المكتملة :فهو ـ معجما وتعبيرا وقواعد وأساليب ـ مجرّد لهجة بدائيّة محتضرة غير مكتملة في طريقها إلى الاندثار والذّوبان في لغة الضّاد..وهذه اللّهجة قاصرة بمفردها عن الإحاطة بسائر مناحي الحياة الحديثة مقتصرة بالكاد على التعبير عن المستوى الصّفر للتواصل البشريّ المتمثّل في بعض النّشاطات البسيطة للمجتمع القبليّ الريفيّ ،بل حتّى هذه الوظيفة لا يمكن لها أن تضطلع بها بمعزل عن العربيّة التّي اكتسحت معجمها بنسبة مائويّة كبيرة..كما أنّ مجالها داخليّ محلّي بيني ضيّق لا يتجاوز القرية والأقارب :فهي لهجة ثانويّة موازية للعربيّة لا نعدم من بين النّاطقين بها من لا يفهم لغة الضّاد ويتكلّمها بطلاقة ،لأنّه بكلّ بساطة لا يمكن العيش والتّواصل والتّعامل والتعبّد في المنطقة المغاربيّة بدون اللّغة العربيّة أداة التّفاهم وعنوان الهويّة ولسان الإسلام..هذه الحقيقة المحبطة للمشروع التقسيميّ التصفويّ المتفرنس دفعت بالاستعمار إلى النّفخ في صورة اللّهجة البربريّة كخطوة تكتيكيّة أولى لعزل العربيّة بما يُفسح له المجال لإحلال الفرنسيّة محلّ الإثنتين..أمّا الجانب الأسطوريّ في هاته المغالطة فيكمن تحديدا في الادّعاء بوحدة اللّهجة البربريّة وأصالتها متنا ورسما/لفظا وكتابة..
أسطورة اللّغة البربريّة
بعد الارتقاء باللّهجة البربريّة إلى مصافّ اللّغات الحيّة سعت المدرسة التّاريخيّة الفرنسيّة إلى تدعيم هذا المعطى/المغالطة بفريتين أخريين من بنات أفكارها الاستعماريّة المريضة :أمّا الأولى فتتمثّل في اعتبار اللّهجة البربريّة لغة متجانسة ولسانا واحدا موحّدا لجميع البربر، وهذا ادّعاء كاذب يفنّده الواقع اللّغويّ في شمال إفريقيا بالمشاهد الملموس ،إذ يمكن لنا أن نميّز ميدانيّا بيسر وسهولة بين ثلاث مجموعات لهجيّة بربريّة متباينة معجما ونطقا ودلالة وأساليب :مجموعة الزّناتيّة (قبائل زناتة ولمتونة والطّوارق بالصّحراء الكبرى) مجموعة صنهاجة (قبائل صنهاجة وزواوة والشّاوية بالأطلس الجزائريّ والأوريس) مجموعة مصمودة (قبائل مصمودة وغمارة وهوّارة بالأطلس والرّيف المغربيّين)..وإلى جانب الاختلافات الجوهريّة القائمة بين هذه المجموعات الرئيسيّة يميّز الأخصّائيّون بين عدّة لهيجات داخليّة صغرى صلب كلّ مجموعة حصرها المؤرّخ (روني باسي) ـ وهو من أقطاب المدرسة الاستعماريّة ـ في 1200 لهيجة واعترف في كتابه (البربر) بأنّ المعنيّين بكلّ لهيجة محليّة (لا يقدرون على التواصل فيما بينهم نظرا للتّباعد الحاصل بين هذه اللّهيجات)..فعن أيّة لغة بربريّة نتحدّث في هذا الخضمّ اللاّ متجانس..؟؟ ففي المغرب الأقصى هناك ثلاث لهجات رسميّة تذاع بها نشرات الأخبار، وفي ليبيا أيضا توجد ثلاث لهجات متباينة (نفوسة ـ التبوّ ـ الطّوارق) أمّا في الجزائر فلا علاقة بين لهجة القبائل المعتمدة بشكل رسميّ ولهجة الشّاوية في الأوريس الذين يطالبون بنصيبهم من المحطّات الإذاعيّة والتلفزيّة ،وكذلك في منطقة أزواد شمال مالي إذ نجد لهجة أخرى مغايرة تماما لباقي اللّهجات واللّهيجات المذكورة آنفا..وممّا يدعّم هذا المعطى أكثر أنّ أصحاب كلّ لهجة رئيسيّة ينتمون في ملامحهم إلى مجموعة عرقيّة مختلفة عن الآخرين..
أسطورة الأصالة والمحليّة
أمّا الفرية الثّانية المدعّمة لمغالطة (اللغة البربريّة) فتتمثّل في اعتبار تلك اللهجة (لغة أصيلة المنطقة ومن وضع البربر أنفسهم) :وفي الواقع فإنّ المدرسة التاريخيّة الاستعماريّة اضطرّت لهذا الادّعاء مرغمة مكرهة حتّى تقطع مع أيّ وشائج للقربى بين البربريّة وعائلة اللغات السّاميّة المشرقيّة..فقد سعت في البداية كالمعتاد إلى ربط اللهجة البربريّة باللغات الهندو ـ أوروبيّة لإلحاق المنطقة المغاربيّة بفرنسا وشرعنة استعمارها ،إلاّ أنّه وبعد إخضاع اللهجة البربريّة لعلم اللغات المقارن تبيّن أنّها على علاقة متينة بشقيقاتها السّاميّات ، ممّا حدا بعالم البربريّات الألمانيّ الشّهير (روسليّ) إلى التأكيد على أنّ (البربريّة ساميّة في واقع أمرها ولا يمكن ولا يجوز فصلها عن السّاميّات) وقد أيّده في ذلك مواطنه (هنز شتما) واللغويّ الأنجليزيّ (وليام نيومن)..هذه النّتائج المثبّطة للعزائم المخيّبة للآمال الاستعماريّة والتي ترسّخ البربر ـ عرقا وثقافة ـ في سياقهم العربيّ الإسلاميّ ما كان لها أن تلبّي المطامع الاستعماريّة التغريبيّة ،لذلك حاولت المدرسة التّاريخيّة الفرنسيّة الالتفاف عليها فاستنبطت نظريّة الأصل المستقلّ للبربريّة التي خرج بها اليهوديّ (مارسال كوهين) لتمييز البربريّة عن السّاميّة وبالتّالي فصلها عن العربيّة :فقد ادّعى ـ في شطحة مضحكة تلوي عنق الحقائق العلميّة ـ بوجود لغة بربريّة أولى تفرّعت منذ زمن ساحق عن الأصل الذي تفرّعت عنه السّاميّة بما يبرّر التّشابه بينهما (؟؟) وهي فرية تأويليّة تلفيقيّة ظاهرة البطلان لا دليل علميّا عليها تخدم الأغراض الانفصاليّة الانقساميّة التغريبيّة..إنّ المشابهات المنعقدة بين البربريّة وعائلة اللغات السّاميّة عديدة ومتنوّعة بتنوّع اللغات المشرقيّة وهو ما يؤكّد أنّ التنوّع اللغويّ في البربريّة هو في الحقيقة جزء من ذلك التنوّع اللغويّ الشرقيّ الذي انتقل إلى بلاد المغرب مع الهجرات البشريّة عبر مراحل مختلفة من التّاريخ..
أسطورة الكتابة البربريّة
هذا المنحى التأويليّ التلفيقيّ واصلت المدرسة التاريخيّة الاستعماريّة اعتماده في تعاملها مع ما اعتبرته (كتابة بربريّة) :إذ بعثتها من أجداث التّاريخ ونفخت في صورتها وادّعت لها هي الأخرى الوحدة والتجانس والأصالة إذكاء للهويّة الأمازيغيّة وعزلا للبربرعن محيطهم الطبيعيّ العربيّ الإسلاميّ..لقد اتّجهت نيّة فرنسا ابتداء إلى القضاء على اللغة العربيّة واستبدالها مرحليّا بالبربريّة قبل إحلال الفرنسيّة محلّهما معا ،وبما أنّ البربريّة لهجة شفويّة غير مكتوبة فقد صاغتها في البداية بحروف لاتينيّة ودرّستها رسميّا بذلك الشّكل في أكاديميّة البربر بباريس منذ سنة 1913م ،ثمّ فيما بعد نبشت شواهد التّاريخ في محاولة لاستنباط أبجديّة بربريّة، والملاحظ من نتائج هذه البحوث والحفريّات:
أوّلا: أنّ ما عدّته المدرسة التّاريخيّة الفرنسيّة (كتابة بربريّة) هو في الواقع كتابتان منفصلتان متباينتان :(اللّوبيّة) في الشّمال و(التيفناق) لدى طوارق الصحراء في الجنوب وقد صاغت منهما تلك المدرسة ـ بتصرّف ـ أبجديّة نسبتها للبربر..
ثانيا: أنّ حروف هاتين الكتابتين منقوصة غير مكتملة: فخطّ التيفناق مثلا مقتصر على بضعة عشر حرفا اكتُشِفت في مغاور التّاسيلي جنوب الصّحراء الجزائريّة من طرف ضابط في الجيش الفرنسيّ وظلّت بقيّة الحروف مجهولة ممّا لا يُمكِّن هذا الخطّ من كتابة اللهجة البربريّة ولا يُبوِّئه مرتبة الأبجديّة..
ثالثا: أنّهما تصنّفان ضمن الأبجديّات الأحفوريّة التاريخيّة غير المتواصلة مع البربر الحاليّين ،فقد وقع التخلّي عنهما في وقت مبكّر منذ القرن الثّاني للميلاد ممّا يجعل من البربر اليوم ـ سوادهم ومثقّفيهم ـ يجهلونهما ولا يفهمونهما ولا يقدرون على فكّ رموزهما..رابعا= أنّهما كانتا في عصرهما هامشيّتين مفتقرتين لما يجعل منهما أداة أساسيّة للتّدوين والتّعبير الحضاريّ :إذ نجد عزوفا واضحا لدى البربر القدامى في التّعامل بهما ولا نكاد نجد نصّا طويلا واحدا مخطوطا بهما ،بل انحصر استعمالهما في الأضرحة وشواهد القبور..
أسطورة الأبجديّة البربريّة
خلاصة الأمر أنّ الأمازيغيّة التي يروّج لها أصحاب النّزعة الانفصاليّة من متفرنسيّ الحركي ليست إلاّ اللّهجة القبائليّة التي صاغتها المدرسة التاريخيّة الاستعماريّة واشتقّت لها رموزا من أبجديّة التّيفناق الطوارقيّة بعد أن أضافت إليها بضعة أحرف من بنات أفكار منظّريها (نعم) وجعلتها ـ بقدرة قدير ـ 26 حرفا على غرار الأبجديّة الفرنسيّة مع الحرص على كتابتها من اليسار إلى اليمين لتصبح صورة مشوّهة متولّدة عن اللاّتينيّة ،ثمّ عمّمتها على سائر اللّهجات البربريّة رغم أنّ معظمها لم تُكتب بها يوما..وجريا على عادتها من إضفاء الطّابع العلميّ على افتراءاتها سعت تلك المدرسة إلى ربط ما اعتبرته (كتابة بربريّة) بما عُرِف من كتابات أوروبيّة قديمة :فأجرت مقارنات بين خطّ التيفناق والخطّ اليونانيّ والإسبانيّ والرّوسيّ والإيتروسكيّ.. وكانت النّتائج مخيّبة للآمال الاستعماريّة مكذّبة لادّعاءاتها ،إذ لم يوجد أيّ شبه بينها بما ينفي مزاعم الأوربة والفرنسة والإلحاق ..وفي الواقع فإنّ التّسمية نفسها تقرّ بذلك صراحة :فلفظة (تيفناق) تعني بالبربريّة (تفينيقيّ) أي (فينيقيّة) على عادة هذه اللّهجة من تقديم تاء التّأنيث على الاسم المؤنّث..أمّا إذا ما توغّلنا في الطّابع العامّ الموحّد بين الخطوط المشرقيّة السّاميّة من حيث السّمات والمنحى والرّسم والأشكال الهندسيّة فإنّنا نجزم بأنّ الكتابة البربريّة ما هي إلاّ نموذج حيّ من نماذج الكتابات السّاميّة المشرقيّة على غرار الخطّ الفينيقيّ والآراميّ والعبريّ والثّموديّ والصّفويّ والمصريّ والسّريانيّ والحيريّ والكوشيّ والنّبطيّ والكلدانيّ واللّحيانيّ والحبشيّ..فالتشابه بينها صارخ وناطق بعمق الرّوابط الثّقافيّة والحضاريّة التي تجمع بينها بما يدلّل على أنّها تنسل جميعها من أرومة حضاريّة واحدة هي الأرومة السّاميّة المشرقيّة العربيّة رغم أنف متفرنسيّ الحركيّ وغلاة الاستعمار..