في الإسراء والمعراج.. قراءة منزّلة على فاجعة غزّة

في الإسراء والمعراج.. قراءة منزّلة على فاجعة غزّة

نستظلّ هذه الأيّام براية شهر مبارك من الأشهر الحرم، شهر رجب الفرد الأصبّ الذي قال فيه سيّد المرسلين عليه الصلاة والسلام (فضل رجب على سائر الشهور كفضل القرآن على سائر الكلام)..وهو شهر اقترنت فيه حرمة الزّمان بحرمة المكان، إذ ارتبط بحدث عزيز على المسلمين: ففي الثّامن والعشرين منه أُسْرِيَ بالرّسول الأكرم إلى المسجد الأقصى حيث أَمَّ أولي العزم من الرسل وصلّى بهم ثمّ عُرج به من نفس المكان إلى السماوات العلى ليرى من آيات ربّه ما رأى..ولئن دأب المسلمون على إحياء ذكرى الإسراء والمعراج والنّهل من معينها الذي لا ينضب بوصفها علامة فارقة مضيئة في تاريخ الإسلام والمسلمين ومفصلا تاريخيّا عظيم الأثر على سيرورة الدّعوة الإسلاميّة، إلاّ أنّ هذا الإحياء قد لحقه منذ عصور الانحطاط ما لحق معظم (المواسم الدينيّة) من تحجّر وتخشّب وتصنيم وإفراغ وعقم: فقد استحال شيئا فشيئا شبه عكاظيّة دينيّة باهتة ميتة لا روح فيها ولا حياة، تُسرد فيها قصّة الحادثة بتفاصيلها الدّقيقة مع التركيز على الجانب الخوارقيّ الكراماتيّ الغيبيّ بأسلوب سطحيّ مملّ عقيم دونما ربط بالحاضر ولا تنزيل على الواقع ولا تدبّر وتمعّن أو عظة واعتبار أو تشخيص واستشراف لسبل التجاوز..فالأمّة الإسلاميّة اليوم ليست بحاجة إلى استعادة تلك المشاهد التي مرّت بالرسول الكريم في السماوات العُلى بأسلوب قصصيّ مشوّق ينمّي ملكة الخيال أكثر ممّا يحرّك ملكة العقل ويشجّع على الخمول والاستكانة أكثر ممّا يحثّ على التدبّر والتفكّر والسّعي إلى التّغيير، بقدر ما هي بحاجة إلى توليد تلك الحادثة وتفجير مكامن الطّاقة فيها وفهم واقعنا المتردّي على ضوئها بغية تجاوزه..فلا بدّ من قراءتها قراءة واعية مستنيرة موصولة بالواقع ثمّ ربطها بالظرفيّة السياسيّة الرّاهنة للمسلمين الموسومة بالعمالة والتبعيّة والتشظّي، ناهيك وأنّ الكافر المستعمر قد استباح أرضنا ومقدّساتنا وثرواتنا وأعراضنا وأرواحنا في مذبحة مفتوحة وإبادة جماعيّة ممنهجة، وما غزّة عنّا ببعيدة..

فاجعة سقوط الخلافة

فمن المفارقات المؤلمة أنّ نفس الإطار الزمانيّ الحرام للإسراء والمعراج (28 رجب) قد شهد نكبة أدّت إلى ضياع الإطار المكانيّ الحرام الذي وقع إليه الإسراء ومنه المعراج (بيت المقدس)..ففي 28 رجب1342هـ الموافق لـ03 مارس 1924م هُدمت دولة الخلافة ورُفع حكم الله من الأرض وتمزّقت بلاد الإسلام إلى قرابة الستّين مزقة تُدار عن بعد من طرف الكافر المستعمر واقتُطِعت أولى القبلتين لليهود والصهاينة دون أن يحرّك الحكّام النواطير العملاء ساكنا بل اشتركوا في جريمة بيعها والتفريط فيها بنظام (القطرة قطرة)..أمّا على المستوى السياسيّ فإنّ مسرحيّة ما يسمّى بالقضيّة الفلسطينيّة قد بدأت تشهد فصولها الأخيرة منذرة بفقدان المسلمين لأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ومسرى رسول الله ومعراجه بشكل رسميّ: حيث سقطت آخر الحصون التي توهّم الشعب الفلسطينيّ أنّه تمترس خلفها في نضاله ضدّ الصهيونيّة (الوحدة الوطنيّة ـ حرمة الدمّ الفلسطينيّ ـ قداسة القضيّة ـ وحدة العدوّ)..فقد استغلّ كيان يهود التكالب على السلطة بين الإخوة الأعداء فتح وحماس وجرّهما إلى الاقتتال البينيّ وما استتبع ذلك من انفصال غزّة عن الضفّة وانقسام الفلسطينييّن إلى كنتونين متعاديين تحت المظلّة الإسرائيلية: فتح في الضفّة عبارة عن عصا غليظة في يد يهود وحارس أمين لكيانهم باسم (الأمن الوقائي والتنسيق الأمني)، وحماس في غزّة عبارة عن ناطور وسجّان لمحتشد كبير شبيه بمعازل السّود معرّض لنزيف دمويّ بمعدّل مذبحتين كلّ عقد..وهو وضع أدّى بهما إلى التنازلات والمتاجرة بمقدّسات المسلمين ودمائهم متجاوزيْن في ذلك كلّ الخطوط الحمراء مفرّطيْن في فلسطين التاريخيّة معترفيْن بكيان يهود الغاصب مشرّعيْن له جرائمه ضدّ أهل الرّباط..وإمعانا منهما في الانبطاح والخيانة تنازلا طوعا عن القدس وحقّ العودة وأسقطا خيار المقاومة المسلّحة وارتهنا سياسيّا ليهود، وانخرطا في استجداء مذلّ مهين لمخرجات (صفقة القرن) بما لا يدع مجالا للشكّ أنّ (القضيّة) متّجهة نحو التصفية على الطريقة الإسرائيلية بخطى حثيثة..

التّطهير العرقيّ والتّهجير

هل نالت كلّ هذه التنازلات الخيانيّة رضا يهود وهل أثمرت وهم الدّولة التي يلهث خلفها عرّابو أوسلو..؟؟ إنّ هذا التّقسيم الثّلاثيّ (عرب 48 ـ الضفّة ـ القطاع) ما هو في الواقع إلاّ الجزء الأوّل من سيناريو توراتيّ دمويّ يبدأ بالتّفكيك وينتهي بالتّهجير الجماعيّ والتّطهير العرقيّ: فقد وجدت غزّة نفسها في مفترق طرق مشاريع استعماريّة، وقودا للاحتراب بين حلّ الدّولتين الأمريكيّ وحلّ الدّولة اليهوديّة الواحدة..والمعضلة أنّ هذا الأخير يقتضي (الترانسفير) أي التّطهير الإثنيّ والعرقيّ وتنقية الكيان اليهوديّ من كلّ ما هو غير عبريّ وغير يهوديّ عبر التّهجير الجماعيّ والمذابح وطمس البنية التحتيّة..على هذا الأساس ومنذ 07/10/2023 انخرط كيان يهود في حرب شعواء لا متكافئة لتهجير سكّان غزّة، أسفرت في 04 أشهر عن 28 ألف قتيل و67 ألف جريح و07 آلاف مفقود، باستهداف ممنهج للأطفال (12 ألفا) والنّساء (08 آلاف)..ارتكب فيها الكيان 2325 مجزرة وألقى على غزّة 66 ألف طنّ متفجّرات (ما يعادل 08 قنابل ذريّة) واقترف أبشع وأفظع ما شوهد في تاريخ الحروب (نبش القبور ـ سرقة الأعضاء ـ دفن الأحياء ـ قصف المستشفيات وسيّارات الإسعاف ـ إعدامات جماعيّة للأسرى..). والأخطر من كلّ ذلك أنّه مسح شمال غزّة من الخارطة ودفع 02 مليون غزّاويّ إلى النّزوح نحو الجنوب قبل الزجّ بهم في سيناء، في مؤشّر خطير على نجاح مشروع الترانسفير..إزاء هذا الواقع الميدانيّ القاتم، بِمَ يمكن أن تسعفنا وقفة متأنّية واعية مستنيرة عند حادثة الإسراء والمعراج وقراءة عمليّة منتجة موصولة بالواقع لحيثيّاتها وظرفيّتها ورمزيّتها بما يساعدنا على توضيح الصّورة وترشيد الموقف واستعادة البوصلة المفقودة..؟؟

فهل من مدّكر..؟؟

أوّلا: حادثة الإسراء والمعراج مكرمة ومعجزة جاءت بوصفها فرجا بعد شدّة: بعد أن فقد الرّسول صلّى الله عليه وسلّم أقرب المقرّبين(خديجة) وأخلص المؤازرين (أبو طالب) واشتداد أذى قريش عليه وعلى أصحابه..فابشروا يا أهل غزّة المرابطين المجاهدين إنّ العاقبة للمتّقين..ثانيا: أنتم ترون رأي العين أنّ الشّرعيّة الدوليّة والقانون الدوليّ وحقوق الإنسان ومحكمة العدل الدوليّة وما إليها، وهم وكذبة كبرى لا أساس لها في واقع الكيل بمكيالين والشرعيّة الأمريكيّة واللوبي الصّهيوني..فإيّاكم والتعلّق بهذه الحبال البائدة، فمعركة غزّة تُدار على الميدان بقيادة الجيوش الإسلاميّة..ثالثا: أنتم تعاينون بالمشاهد الملموس خذلان الأنظمة العربيّة وخيانتها، فهي لا يرجى منها خير ولا يؤتمن شرّها، بل هي أشدّ عليكم من يهود أنفسهم ودونكم (مصر ـ الإمارات ـ الأردن ـ السعوديّة ـ المغرب..). فسندكم الحقيقيّ بعد الله سبحانه وتعالى هو أمّتكم وجيوشها..رابعا: إنّ فلسطين بما تحوي من مقدّسات هي شرعا أرض وقف خراجيّة ملكيّتها بأيدي كافّة المسلمين إلى قيام السّاعة ولا يحقّ لأحد أن يُنصّب نفسه وصيّا عليها في غياب دولة الخلافة أو أن يتفاوض باسم المسلمين على التفريط في ذرّة من ترابها ـ لا فرق في ذلك بين أراضي 48 أو67 /الضفّة أو غزّة ـ فهي ليست قضيّة وطنيّة ولا قضيّة فتح أو حماس حتّى تستفرد بهم إسرائيل، بل هي قضيّة الأمّة الإسلاميّة قاطبة..خامسا: والمسلمون اليوم إذا أرادوا فعلا نصرة غزّة وتحرير فلسطين فما عليهم إلاّ أن يتجاوزوا حال التبعيّة والاستعمار وأن يُقيموا خلافة على منهاج النبوّة ويبايعوا خليفة يجيّش الجيوش ويحمي بيضة الإسلام، ولن تغني الحركات المسلّحة شيئا وإن أثخنت في العدوّ، فالدّولة لا تقاتلها إلاّ دولة مثلها، فما بالك بسادس قوّة عالميّة مسنودة من الغرب وتمتلك السّلاح النوويّ..سادسا: إنّ زوال إسرائيل حتميّة قرآنيّة ومسألة وقت ليس غير: فقد أخبرنا الله تعالى بذلك والله لا يُخلف الميعاد (فإذا جاء وعد الآخرة ليسُوؤوا وجوههم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّة وليُتبِّروا ما علوا تتبيرا) ـ الإسراء 07 ـ كما أنبأنا به الرسول الكريم في الحديث المتواتر (لا تقوم السّاعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلونهم حتى يقول الحجر والشجر يا عبد الله يا مسلم هذا يهوديّ ورائي فتعال فاقتله)..إزاء هذا الوعد اللدنيّ القطعيّ لا محلّ لمنطق التفاوض والمقايضة والصلح وتبادل الأسرى وما إليها من المبرّرات الواهية التي اطمأنّ إليها الصهاينة وانتعشوا في ظلّها واستباحوا باسمها فلسطين التاريخيّة، فإن لم نستطع صدّهم اليوم فلا أقلّ من أن نُبقِي حالة الحرب مشتعلة معهم وأن نمتنع عن شرعنة الاحتلال حتى يأتي من أكرمه الله بتحريرها كاملة من النّهر إلى البحر..سابعا: لا يصحّ أن يكون ليهود في فلسطين سلطان ولا لحلّ الدّولتين فيها مكان: بل كما فتحها الفاروق وحفظها الخلفاء الرّاشدون وحرّرها صلاح الدّين وصانها عبد الحميد الثّاني..فهي أرض إسلاميّة وليست معروضة للبيع ولا تقبل القسمة بين أهلها وبين من احتلّها وأخرج منها أهلها..فحلّها ليس الدّولة الواحدة ولا الدّولتين، بل هو كما قال العزيز الجبّار وقوله هو الحلّ الحقّ (واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم)..

أبو ذرّ التّونسيّ (بسّام فرحات)

CATEGORIES
Share This