في الإسراء والمعراج : قراءة موصولة بالواقع

في الإسراء والمعراج : قراءة موصولة بالواقع

حدّث أبو ذرّ التونسيّ قال: نستظلّ هذه الأيّام براية شهر مبارك من الأشهر الحرم ،شهر رجب الفرد الأصبّ الذي قال فيه سيّد المرسلين عليه الصلاة والسلام (فضل رجب على سائر الشهور كفضل القرآن على سائر الكلام)…وهو شهر اقترنت فيه حرمة الزّمان بحرمة المكان ،إذ ارتبط بحدث عزيز على المسلمين: ففي السّابع والعشرين منه ـ وبعد فقدان الرّسول الكريم لأقرب المقرّبين إليه وأخلص المؤازرين له واشتداد أذى قريش عليه وعلى صحبه ـ أُسْرِيَ به إلى المسجد الأقصى حيث أَمَّ أولي العزم من الرسل وصلّى بهم ثمّ عُرج به من نفس المكان إلى السماوات العلى ليرى من آيات ربّه ما رأى…فكانت حادثة الإسراء والمعراج هذه بمثابة الفرج بعد الشدّة وبرد اليقين بعد مشارف الاستيئاس: فقد مثّلت امتحانا ناجحا لثقة الصحابة بنبيّهم وتمحيصا لإيمانهم ورسوخ عقيدتهم وبرهانا قاطعا لثباتهم وطاعتهم وامتثالهم وانضباطهم…كما مثّلت علوّا لشأن الإسلام ودفعا معنويّا لرسالته ولصاحبها بعد تصلّب مجتمع مكّة وجموده على الشّرك وتحجّره أمام الدّعوة صدّا وتعذيبا وفتنة وتقتيلا ومحاصرة وتشويها…

مواساة وتكريم

أمّا أهمّ رمزيّة لهذه الحادثة الجليلة فهي بلا منازع تأثيرها على شخص الرّسول صلّى الله عليه وسلّم: فقد مثّلت شدّا لأزره وتثبيتا لفؤاده وتطمينا لقلبه بعد أن أوشك على القنوط واليأس في ذلك العام الذي سُمِّي (عام الحزن) ،حيث اشتدّ عليه وعلى صحبه وقومه أذى قريش وحُوصر ونُبذ وعُزل في شعاب مكّة ومُنع عنه الغذاء وأشفى هو ومن معه على الهلاك ،كما فقد سندَه المادّي بوفاة عمّه أبي طالب وسندَه المعنويّ بوفاة زوجته السيّدة خديجة ،وقد خلّف فراقهما في حياته صَدْعا لا يمكن رأبه أغرى به قريشا وضاعف من جراءتها عليه وعلى أتباعه…فرحلة الإسراء والمعراج كانت بمثابة الهديّة والرّسالة مضمونة الوصول من المولى عزّ وجلّ لنبيّه الكريم تسلية له عمّا قاساه وتعويضا له عمّا أصابه وتكريما له ورفعا من شأنه ،فحواها أنه يا محمّد إذا كان أهل الأرض قد أعرضوا عنك فقد أقبل عليك أهل السماء ،وإن كانت قريش قد صدّتك وكذّبتك وآذتك فإنّ الله تعالى يرفعك إليه ويستقبلك عنده في الملإ الأعلى ويسخِّر لك أولي العزم من رسله وأنبيائه تؤمُّهم في الصّلاة ،وفي كلّ هذا ما فيه من تكريم وتعظيم وشحنة معنويّة تدفع سيّد المرسلين نحو مواصلة مشوار الدّعوة بثبات: فحادثة الإسراء والمعراج علامة فارقة مضيئة في تاريخ الإسلام والمسلمين ومفصل تاريخيّ عظيم الأثر على سيرورة الدّعوة الإسلاميّة ،ولا أدلّ على ذلك من أنّ الله سبحانه قد اختصّها في كتابه الحكيم بسورة قرآنيّة كاملة (الإسراء)، فلا غرابة أن عظّمها المسلمون ودأبوا على إحياء ذكراها والنهل من معينها الذي لا ينضب…

عكاظيّة جوفاء

إلاّ أنّ هذا الإحياء قد لحقه منذ عصور الانحطاط ما لحق معظم المواسم الدينيّة من تحجّر وتخشّب وتصنيم وإفراغ وعقم: فقد استحال شيئا فشيئا شبه عكاظيّة دينيّة باهتة ميتة لا روح فيها ولا حياة ،تُسرد فيها قصّة الحادثة بتفاصيلها الدّقيقة مع التركيز على الجانب الخوارقيّ الكراماتيّ الغيبيّ بأسلوب سطحيّ مملّ عقيم دونما ربط بالحاضر ولا تنزيل على الواقع ولا تدبّر وتمعّن أو عظة واعتبار أو تشخيص واستشراف لسبل التجاوز…فالأمّة الإسلاميّة اليوم ليست بحاجة إلى استعادة تلك المشاهد التي مرت بالرسول الكريم في السماوات العُلى بأسلوب قصصيّ مشوّق ينمّي ملكة الخيال أكثر ممّا يحرّك ملكة العقل ويشجّع على الخمول والاستكانة أكثر ممّا يحثّ على التدبّر والتفكّر والسّعي إلى التّغيير،بقدر ما هي بحاجة إلى توليد تلك الحادثة وتفجير مكامن الطّاقة فيها وفهم واقعها المتردّي على ضوئها بغية تجاوزه ،وذلك عبر وضعها في إطارها الصّحيح وربطها بالظرفيّة السياسيّة الرّاهنة ثمّ قراءتها قراءة واعية مستنيرة موصولة بالواقع وتنزيلها على مناطها الصّحيح وإدراجها ضمن السّياق السياسيّ للمسلمين الموسوم بالعمالة والتبعيّة والتشظّي والاستعمار والتفريط في المقدّسات لأعداء الله والأمّة لاسيّما في القدس وفلسطين: فمن المفارقات المؤلمة أنّ نفس الإطار الزمانيّ الحرام للإسراء والمعراج قد شهد نكبة أدّت إلى ضياع الإطار المكانيّ الحرام الذي وقع إليه الإسراء ومنه المعراج…ففي 28 رجب1342هـ الموافق لـ03 مارس 1924م هُدمت دولة الخلافة ورُفع حكم الله من الأرض وتمزّقت بلاد الإسلام إلى قرابة الستّين مزقة تُدار عن بعد من طرف الكافر المستعمر واقتُطِعت أولى القبلتين لليهود والصهاينة دون أن يحرّك الحكّام النواطير العملاء ساكنا بل اشتركوا في جريمة بيعها والتفريط فيها بنظام (القطرة قطرة)…

مسار التّصفية

فإنّه لا يخفى على من له أدنى حسّ سياسيّ أنّ مسرحيّة ما يسمّى بالقضيّة الفلسطينيّة قد بدأت تشهد فصولها الأخيرة منذرة بفقدان المسلمين لأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ومسرى رسول الله ومعراجه بشكل رسميّ: حيث سقطت آخر الحصون التي توهّم الشعب الفلسطينيّ أنّه تمترس خلفها في نضاله ضدّ الصهيونيّة (الوحدة الوطنيّة ـ حرمة الدمّ الفلسطينيّ ـ قداسة القضيّة ـ وحدة العدوّ)…فقد استغلّ كيان يهود التكالب على السلطة بين الإخوة الأعداء فتح وحماس وجرّهما إلى الاقتتال البينيّ وما استتبع ذلك من انفصال غزّة عن الضفّة وانقسام الفلسطينييّن إلى كنتونين متعاديين تحت المظلّة الاسرائيليّة: فتح في الضفّة عبارة عن عصا غليظة في يد يهود وحارس أمين لكيانهم باسم (الأمن الوقائي والتنسيق الأمني) ،وحماس في غزّة عبارة عن ناطور وسجّان لمحتشد كبير شبيه بمعازل السّود معرّض لنزيف دمويّ بمعدّل مذبحتين كلّ عقد…وهو وضع أدّى بهما إلى التنازلات والمتاجرة بمقدّسات المسلمين ودمائهم متجاوزيْن في ذلك كلّ الخطوط الحمراء مفرّطيْن في فلسطين التاريخيّة معترفيْن بكيان يهود الغاصب مشرّعيْن له جرائمه ضدّ أهل الرّباط…وإمعانا منهما في الانبطاح والخيانة تنازلا طوعا عن القدس وحقّ العودة وأسقطا خيار المقاومة المسلّحة وارتهنا سياسيّا ليهود ،فاستحالا بذلك مجرّد قفّازيْن وطنيّين لتمرير السياسة التصفويّة الاسرائيليّة…

حاميها حراميها

وليست حال القضيّة عربيّا بأفضل منها فلسطينيّا: فمسار مدريد الذي حُشرت فيه منذ 1989 بعد قمّة الجزائر قد كرّس (سلام الشجعان) ومسارات الانبطاح ،أوسلو وغزّة أريحا وأخواتهما (وادي عربة ـ واي ريفر ـ شرم الشّيخ ـ خارطة الطّريق ـ أنابوليس…) في استجداء مُذلّ مُهين للسّلام وتفريط طوعي في الحقوق التّاريخيّة والمقدّسات الدينيّة تُوِّج في قمّة بيروت 2002 بانبطاح عربيّ جماعيّ واعتراف رسميّ (المبادرة العربيّة) قابله كيان يهود بالتمنّع والصّلف والابتزاز والالتفاف والإفراغ والتدويخ السياسيّ والهروب إلى الأمام والإمعان في التقتيل والتهجير والاستيطان بما لا يدع مجالا للشكّ أنّ (القضيّة) متّجهة نحو التصفية على الطريقة الاسرائيليّة بخطى حثيثة…وبوصول (الدبّابة ترامب) إلى السلطة في الولايات المتحدة وفرْضِه لـ(صفقة القرن) المستهدفة لملفّي القدس واللاّجئين يبدو أنّ المشروع الصهيونيّ قد أضحى في لمساته الأخيرة…إزاء هذا الواقع الميدانيّ القاتم ،بِمَ يمكن أن تسعفنا وقفة متأنّية واعية مستنيرة عند حادثة الإسراء والمعراج وقراءة عمليّة منتجة موصولة بالواقع لحيثيّاتها وظرفيّتها ورمزيّتها بما يساعدنا على توضيح الصّورة وترشيد الموقف واستعادة البوصلة المفقودة..؟؟

الأرض المباركة

أوّلا: إنّ الله قد قرن في حادثة الإسراء والمعراج بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى ،قال تعالى (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) ـ الإسراء 01 ـ ولم يكن ذلك مصادفة بل للتأكيد على استوائهما في الحرمة والمكانة والقداسة: فهذا أُسرِيَ منه وذاك أُسرِيَ إليه وعُرِج منه إلى السماوات العُلى: فالمسجد الأقصى إذن هو أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ومسرى رسول الله ومعراجه يصدق فيه قوله تعالى في المسجد الحرام (ومن يُرِدْ فيه بإلحاد بظلم نُذِقْه من عذاب أليم) وفي كلّ هذا ما فيه من تنبيه للمسلمين إلى أهميّة القدس في تاريخهم ومكانة المسجد الأقصى من دينهم وعقيدتهم وتحذير شديد اللهجة من مغبّة التفريط فيه لأنّ ذلك مؤشّر على التفريط في صِنْوِه المسجد الحرام ،فيجب أن يُتَّخَذ حياله إجراء الحياة أو الموت وألاّ يكون محلّ مساومة أو تفاوض…ثانيا: إنّ أرض فلسطين التّاريخيّة كلّها مقدّسة من النّهر إلى البحر وليس المسجد الأقصى وقبّة الصّخرة فقط كما يُروِّج له يهود وأذنابهم حتّى يرفعوا عن أنفسهم حرج احتلالها وعن عملائهم حرج التفريط فيها وعن المسلمين حرج القبول بذلك ولو على مضض: فالقرآن الكريم وصف كلّ الأراضي التي حول المسجد الأقصى بأنّها مقدسة مباركة (الذي باركنا حوله) ،فالتفريط في أيّ شبر من فلسطين التاريخيّة هو بمثابة التفريط في المسجد الأقصى لا فرق في ذلك بين أراضي 48 أو أراضي 67…ثالثا: إنّ فلسطين بما تحوي من مقدّسات هي شرعا أرض وقف خراجيّة ملكيّتها بأيدي كافّة المسلمين إلى قيام السّاعة ولا يحقّ لأحد أن يُنصّب نفسه وصيّا عليها في غياب دولة الخلافة أو أن يتفاوض باسم المسلمين على التفريط في ذرّة من ترابها ،فهي ليست قضيّة وطنيّة ولا قضيّة فتح أو حماس حتّى تستفرد بهم إسرائيل،بل هي قضيّة الأمّة الإسلاميّة قاطبة…

حتميّة قرآنيّة

رابعا: إنّ تحرير القدس من رجس الصليبيّين على يدي صلاح الدّين الأيّوبيّ الذي وافق نفس الإطار الزمانيّ الحرام (28 رجب 583هـ) كان ثمرة لترميم البيت الدّاخليّ للمسلمين (دولة الخلافة): فلم يتحقّق ذلك الحدث الجلل إلاّ بعد القضاء على الدّولة الفاطميّة الإسماعيليّة المنحرفة وتخليص مصر من براثنها وإلحاقها مجدّدا بجسم الخلافة العبّاسيّة سنة 567هـ، فصلاح الدّين وقبله نور الدّين زنكي لم يتمكّنا من استرجاع فلسطين إلاّ بعد أن أعادا اللّحمة والتجانس للدولة الإسلاميّة…وكذلك المسلمون اليوم إذا أرادوا فعلا تحرير فلسطين فما عليهم إلاّ أن يتجاوزوا حال التبعيّة والاستعمار وأن يُقيموا خلافة على منهاج النبوّة ويبايعوا خليفة راشد يُقاتل من ورائه ويُتّقى به…خامسا: إنّ زوال إسرائيل حتميّة قرآنيّة ومسألة وقت ليس غير: فقد أخبرنا الله تعالى بذلك والله لا يُخلف الميعاد (فإذا جاء وعد الآخرة ليسُوؤوا وجوههم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أوّل مرّة وليُتبِّروا ما علوا تتبيرا) ـ الإسراء 07 ـ كما أنبأنا به الرسول الكريم في الحديث المتواتر (لا تقوم السّاعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلونهم حتى يقول الحجر والشجر يا عبد الله يا مسلم هذا يهوديّ ورائي فتعال فاقتله)…إزاء هذا الوعد اللدني القطعيّ لا محلّ لمنطق التفاوض والمقايضة والصلح والشرعيّة الدوليّة وما إليها من المبرّرات الواهية التي اطمأنّ إليها الصهاينة وانتعشوا في ظلّها واستباحوا باسمها فلسطين التاريخيّة ،فإن لم نستطع صدّهم اليوم فلا أقلّ من أن نُبقِي حالة الحرب مشتعلة معهم وأن نمتنع عن شرعنة الاحتلال حتى يأتي من أكرمه الله بتحريرها…(ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا)…

بسّام فرحات

CATEGORIES
TAGS
Share This