في الانتخابات… 1/2

في الانتخابات… 1/2

حدّث أبو ذرّ التونسيّ قال: ونحن على مشارف الانتخابات التشريعيّة والرئاسيّة (أكتوبر/نوفمبر 2019) طفا على السطح مجدّدا ذاك التساؤل التقليديّ (هل سيشارك حزب التحرير في الانتخابات أم لا…؟؟) وقد اتّخذ هذه السنة شكل الاستفهام الإنكاريّ المحفوف بجرعة زائدة من التلبيس والضبابيّة، إذ تزامن طرحه مع دعوة أحد الأطراف التي كانت محسوبة على الحزب (ولم تعد) إلى خوض غمار الانتخابات والمشاركة فيها… هذا التصرّف الفردي والرأي الشخصيّ الذي لا يمثّل إلاّ صاحبه عُمِّم وأُسقط على حزب التحرير بوصفه موقفا رسميّا له وعدّه هواة الصيد في المياه العكرة من إعلاميين وسياسيّين (مناورة سياسيّة في إطار تبادل الأدوار مع حركة النهضة) ممّا أثار سيلا من الاستفسارات وموجة من التشكيك في مبدئيّة الحزب، كما أجّج نقاشات ساخنة حول جواز المشاركة في الانتخابات من عدمه ناهيك وأنّ الانتخابات في المطلق كأسلوب للانتقاء والاختيار جائزة شرعًا، وقد مارسها المسلمون مباشرةً بعد وفاة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم في سقيفة بني ساعدة… إلاّ أنّ الفعل الانتخابيّ مختلف ـ واقعا وحكما ـ عن الممارسة الانتخابيّة: فواقع الانتخابات في المطلق أنّها وكالة في الرأي وقد أقرّها الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومارسها مع الأنصار في بيعة العقبة الثّانية بقوله (أخرجوا إليّ منكم إثني عشر نقيبًا يكونون على قومهم بما فيهم كُفلاء) أي انتخبوا ووكّلوا من بينكم اثني عشر شخصًا يمثّلون الأوس والخزرج بين يديّ… وهذه الوكالة تأخذ حكم الأمر الذي حصلت فيه حلاّ وحرمة:

فالوكالة في تشريع قوانين الكفر حرام أمّا الوكالة في المحاسبة على أساس الإسلام حلال وهكذا،بحيث أنّ الممارسة الانتخابيّة من وجهة نظر الإسلام محكومة بظروفها وملابساتها مقيّدة ـ مجالا وموضوعا وحجيّة ـ بأحكام الإسلام وواقع المسلمين ودولتهم بما يجيز لنا أن نتساءل: ما هو حكم الشرع في المشاركة في الانتخابات في ظلّ الوضع التونسيّ الرّاهن..؟؟ وكيف يتنزّل هذا الحكم على واقع الانتخابات البلديّة فالنيابيّة ثمّ الرئاسيّة..؟؟

الانتخابات البلديّة

إنّ الأصل في جهاز البلديّة أنّها مؤسّسة إدارية خدماتيّة مستقلّة عن السّلطة السياسية تقدّم خدماتٍ للمتساكنين في دائرتها من قبيل التنظيف والتّنظيم والمرافق والإداريّات في حدود المباح…فنشاطها يندرج ابتداءً في خانة المسائل البسيطة غير الشّرعية ولا الفنيّة التي لا تحتاج إلى تفكير ورويّة، فهي محلٌّ للآراء المجرّدة المؤدّية إلى العمل والتي يؤخذ فيها برأي الأغلبيّة…من هذا المنطلق وعلى هذا الأساس فإنّ المشاركة في الانتخابات البلديّة ـ ترشُّحًا وترشيحًا ـ والدّخول في المجالس البلديّة والنّشاط ضمنها جائز من حيث الأصل…لكن بالرّجوع إلى الواقع الحالي لجهاز البلديّة في تونس نلاحظ انزياحًا خطيرًا عن مناطه أفقده صفته وبالتّالي حكمه شرعًا: فالبلديّة الحاليّة ليست مؤسّسة إدارية خدماتية مستقلّة عن السّلطة السياسية إنّما هي جهاز تنفيذيّ يتبع عمليًّا الحكومة، أي جهازًا حكوميًّا يتعاطى سياسة الحكومة ويجمع النّاس تأييدًا لها، ومن ثمّة تُلزمها السّلطة بأيّ نشاط سياسي تُريده وتمنعُها من أيّ نشاط لا تُريده ولو كانت فيه مصلحة العامّة…كما أنّ المجلس البلدي يباشر عمليًّا إعطاء التّراخيص لأمور محرّمة شرعًا ويتصرّف في الأموال العامّة بطريقة غير مشروعة، هذا فضلاً عن كونه صوريًّا يستطيع النّظام إلغاء قراراته حتّى لو اتّخذها بالإجماع…بل إنّ جهاز البلديّة أصبح بمقتضى مجلّة الجماعات المحليّة الجديدة جزءا لا يتجزّأ من الحكم في إطار ما يسمّى (بالحكم المحلّي) كأرضيّة لتجزئة السلطة وإضعاف الدّولة وإيجاد موطئ قدم للكافر المستعمر فيها، ناهيك وأنّ البلديّات التونسية أصبحت أوكارًا لنشاطات مشبوهة واتفاقيّات مريبة وهبات مشروطة…من هذا المنطلق فإنّ المناط الشّرعي للبلديّة قد تغيّر وتبعهُ تغيُّر في الحكم من الإباحة إلى الحِرمة: فلا يجوز الاشتراك في الانتخابات البلديّة لا ترشُّحًا ولا ترشيحًا ما دام واقعها على النّحو المذكور بحيث فقدت صبغتها الإداريّة الخدماتيّة المستقلّة وأضحت معولا لتفتيت الحكم ومنفذا للاستعمار وأدواته…

الانتخابات النيابيّة

حتى نتمكّن من إعطاء الحكم الشرعيّ في الانتخابات النيابيّة ـ ترشّحا وترشيحا وعضويّة ـ يجب أن نحدّد واقع البرلمانات أو المجالس النيابيّة وصلاحيّاتها :فهيمجالس تتكوّن من أشخاص منتخبين بصفتهم وكلاء لتمثيل الأفراد والجماعات في الرّأي…هذا الواقع ـ أي الوكالة في الرّأي ـ يقرّه نظام الخلافة وهو موجود ومعمولٌ به في الدّولة الإسلاميّة حيث يتجسّد في شكلين أساسيّين: مجلس الأمّة ومجلس الولاية الذين ينوبان عن الأمّة في الشّورى والمحاسبة والمطالبة وإظهار الشّكوى والتظلُّم…والبرلمان ـ وإن كان يتّفق مع مجلس الأمّة في أصل الصّلاحية (إبداء الرّأي) ـ إلاّ أنّه يختلف عنهُ جوهريًّا في مجالات الرّأي ومواطنه وحُجّيتهِ…ويتّضح هذا الاختلاف من خلال الصّلاحيّات الموكولة إلى البرلمان والأعمال التي يقوم بها، وأبرزها خمسة…

أوّلاً: التّشريع أي وضع الدّساتير وسنّ القوانين التي تلتزم بها السّلطتان التنفيذيّة والقضائيّة…

ثانيًا: انتخاب رئيس الدّولة أي التوكيل في الحكم بصرف النّظر عن طبيعة ذلك الحكم…

ثالثًا: منح الثّقة أو حجبها عن الحكومة على أساس الدّستور المعمول به…

رابعًا: المصادقة على الاتفاقيّات التي تعقدها الحكومة مع سائر الدّول…

خامسًا: المحاسبة على أساس الدّستور القائم أي بما يُجيزهُ دستور البلاد…

وهي كلّها أعمال مناقضةللشرع مناقضة بيّنة:

  • فالتّشريع في البرلمان هو مناكفة لله تعالى في أخصّ حقوقه (إن الحُكم إلاّ لله)، ووضع بشري لأنظمة وقوانين مناقضة للإسلام، وقد عدّهُ القرآن الكريم ربوبيّةً من دون الله (اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله)…

  • وانتخاب رئيس للدّولة لا يحكم بشرع الله هو توكيلٌ في حرام وهو غير جائز لأنّه يعني الرّضا بالحكم بغير ما أنزل الله والله تعالى يقول (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)…

  • واتخاذ الدّستور الوضعيّ أساسا لمنح الثقة أو حجبها عن الحكومةهو تزكية صريحة لقوانين الكفر ورضى بالتحاكم إليها من دون شرع الله ودعم للظّالمين وإثم وعدوان والله تعالى يقول: (وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)…

  • وكذلك المحاسبة على أساس الدستور الوضعيّ القائم فهي مطالبة سافرة بتطبيق أنظمة الكفر والالتزام بها من دون الإسلام وتحاكم إلى الطّاغوت وقد نهانا الله عنه نهيًا مغلّظا (يريدون أن يتحاكموا إلى الطّاغوت وقد أُمِروا أن يكفروا به)….

  • أمّا صلاحيّة المصادقة على الاتّفاقيّات فهي تقنين وإنفاذ لاتّفاقيّات مجحفة مشبوهة مع الغرب الاستعماري قائمة على قوانين الكفر تفتح له باب التّدخل في شؤون المسلمين ونهب ثرواتهم على مصراعيه وتجعل للكفّار سبيلاً على البلاد والعباد والله تعالى يقول (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً)…

بين الحرمة والجواز: وجدوى المشاركة في الانتخابات النيابيّة

وبناءً على هذا المناط يحْرُم شرعًا المشاركة في الانتخابات البرلمانيّة ـ ترشُّحًا وترشيحًا ـ والدّخول إلى المجالس النيابيّة لسنّ قوانين الكفر أو إخضاع الإسلام لرأي الأغلبيّة أو انتخاب رئيس علماني أو تزكية وزارة تتحاكم إلى الطّاغوت أو محاسبة الحُكّام على أساس دستور وضعي أو التّفريط في مقدّرات المسلمين لأعدائهم، فهي وكالة في حرام فيها مباشرة عمل كفر وإقرار بواقع كفر…إلاّ أن هذه الحرمة المغلّظة تبقى رهينة مناطها الكُفري الذي تعلّق بها، أمّا إذا ما تغيّر المناط لصالح محاسبة الحكّام على أساس الإسلام والصّدع بكلمة الحقّ دون خوف أو مجاملة أو نفاق فإنّ دخول المسلم إلى البرلمان يصبح جائزًا وإن لم يكن واجبًا…ودليل ذلك مستمدٌّ من فعل الرّسول صلّى الله عليه وسلّم : فقد كان يغشى مجالس المشركين ونواديهم لتبليغهم رسالة الإسلام والتّفاعل معهم، كما أُثر عنه دخوله لدار النّدوة في قريش ـ وهي بمثابة البرلمان اليوم ـ لإقامة الحجّة وقول كلمة الحقّ، فليس في ذلك إقرار بواقع الكفر بقدر ما هو توظيف لمنبر واعتلاء لمنصّة من أجل الدّعوة لتغيير واقع الكفر،وهذا جائز…

وكان حزب التّحرير في الانتخابات البرلمانيّة الأردنية سنوات (1954 ـ 1956) قد رشّح مجموعة من شبابه منهم الشيخ أحمد الدّاعور الذي وصل إلى مجلس البرلمان وأبلى البلاء الحسن ممّا اضطرّ النظام الأردني إلى وضعه رهن الإقامة الجبريّة…لكن لا بدّ من توفّر جملة من الشّروط لجواز المشاركة في الانتخابات البرلمانيّة وتتلخّص في النّقاط التّالية…

أوّلاً: أن يكون المترشّح سافرًا متحدّيًا معتبرًا النّظام القائم نظام كفر وحكمًا بغير ما أنزل الله يجب قلعه من أساسه…

ثانيًا: أن يقدّم نفسه للنّاخبين بوصفه وكيلاً عنهم في المحاسبة على أساس الإسلام لا في سنّ التشاريع الوضعيّة وممارسة صلاحيّات النوّاب…

ثالثًا: أن يتّخذ من البرلمان منبرًا لإبداء الرّأي الشرعي وحمل الدّعوة الإسلاميّة…

رابعًا: أن لا يقترح أي قانون وضعي ولا يصوّتمطلقًا…

خامسًا: أن لا يشارك في انتخاب أيّ رئيس دولة يحكم بالدّستور الوضعي وما انبثق عنه من قوانين…

سادسًا: أن لا يمنح الثّقة لأيّة حكومة …

سابعًا: أن يحاسب على أساس الإسلام وأن لا يطالب بتطبيق القوانين الوضعيّة أو الالتزام بدستور الكفر…

ثامنًا: أن لا يؤدّي القسم على احترام  دستور الكفر والمحافظة عليه تحت أي ظرف من الظّروف…

غير أنّ مشاركة بعض شباب الحزب في الانتخابات البرلماننيّة كانت في زمن لا يعرف فيه النّاس الحزب فكانت أسلوبا من أساليب إظهار الدّعوة إلى استئناف الحياة الإسلاميّة، أمّا اليوم وقد صار الحزب معروفا مشهورا ظاهرة دعوته فإنّه في غنى عن برلمان للتعريف بنفسه بل صارت مشاركته أدعى أن يلتبس الأمر على المسلمين وأن يرسّخ فيهم مفهوما خاظئا، ذلك أنّ النّاس اليوم ينتظرون تغييرا حقيقيّا، وأملوا في مجلس تأسيسيّ يغيّر النّظام الفاسد ويجعل الحكم للإسلام فخاب أملهم إذ خان نوّاب التأسيسي الأمانة وأبعدوا الإسلام من الحكم تحت ضغط الدّول الاستعماريّة، ثمّ بقي لهم شيء من أمل في برلمان ينتخبونه لعلّه يخفّف عنهم وطأة الظّلم فخاب أملهم من جديد زبان للجميع أنّ البرلمان في تونس كما في غيره من البلاد إن هو إلا مجلس للأقوياء يفرضون فيه القوانين بقوّة المال والنّفوذ ليضمنوا مصالحهم، ولقد شاهد النّاس عيانا كيف تمرّ المظالم دون أن يعبأ الحكّام بمعارضة النّاس واحتجاجاتهم فضلا عن أن يعبؤوا بمعارضة نائب أو بضعة نوّاب معزولين، ولأجل ذلك فلئن كانت المشاركة في الانتخابات وفق الشروط المذكورة أعلاه شرعيّة غير أنّها تطيل عمر الفساد وتجعل النّاس ينتظرون سنوات أخرى أملا كاذبا بالتحرّر من الاستعمار وإزالة المظالم، لن يتحقّق.

ولذلك كانت الأولويّة اليوم وقد رأى النّاس أنّ البرلمان لا يغيّر شيئا بل يرسّخ الفساد والظّلم ويسبغ عليه مشروعيّة مغشوشة ظالّة مظلّة، فإنّ الأولويّة اليوم أن يتّجه النّاس جميع النّاس إلى إزالة النّظام برمّته وإزالة أركانه ووضع نظام ربّ العالمين موضع التّطبيق لأنّ المشكلة في النّظام الوضعي الذي جعل القويّ يأكل الضّعيف وقد جاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم بنظام من عند ربّ النّاس أجمعين يردّ الحقوق لأصحابها ويكون فيها الضعيف قويّا حتّى يعود إليه الحقّ ويكون القويّ فيها ضعيف حتّى يُأخذ منه الحقّ. ويكون الجميع عبادا لله متساوين أمام الأحكام الشرعيّة فلاحصانة لرئيس ولا لمرؤوس ولا نائب بل الجميع محاسب بأحكام الإسلام العادلة.

بسام فرحات

CATEGORIES
TAGS
Share This