في الجدل القائم حول نظام الحكم في تونس…
الحمد لله والصّلاة والسّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
تشهد تونس منذ صياغة دستور ما بعد الثورة نقاشات وخلافات وصراعات متعلّقة بطبيعة ما يسمىّ بـ”النظام السياسي” الأمثل الواجب تبنيه؛ فبعد “النظام البرلماني” و”النظام البرلماني المعدّل” أو ما يسميّه البعض بـ”النظام شبه البرلماني” الذي تمّت المصادقة عليه في جانفي 2014م، تعالت الأصوات من جديد لتعديل “النظام الهجين أو المزدوج” الذي يفتّت السلطة ويوزعها بكيفية لا تحقّق الاستقرار السياسي للبلد بل تجعله عرضة للصراعات حول السلطة والصلاحيات وتراكم المشكلات دون حلّها. وقد اقترح بعضهم نظام السلطة المحلية، في حين اقترح بعض آخر العودة إلى النظام الرئاسي مع ضمان الحرية والابتعاد عن الاستبداد والديكتاتورية.
وفي سياق هذا الجدل المستمرّ حول ما يسمى بـ”النظام الأمثل” للبلد، وهل هو البرلماني أو الرئاسي، نودّ لفت عناية القارئ الكريم إلى نقاط ثلاث:
-
ضمن البرلمان لحركة النهضة وجودا قوّيا (نسبيا متفاوتا) بحكم خصوصيته وتميّز نظام انتخاباته والحصول على مقاعده، وأمّا الانتخابات الرئاسية فلم تنجح فيها الحركة إلى حدّ الآن. وغالبية دعاة النظام الرئاسي، هم من الذين يريدون قصقصة أجنحة النهضة وتحجيم سلطتها وصلاحياتها، وبعبارة أخرى فغالبية هؤلاء من أنصار التيارات المعادية “للتيار الإسلامي”، ودعوتهم إلى تغيير “النظام” تهدف إلى تحجيم النهضة وأتباعها من أنصار “التيار الإسلامي”، ليصبح وجودهم في البرلمان بلا تأثير على السلطة. والنجاح في تحقيق هذا الأمر ليس بيد بعض الشخصيات والتيارات السياسية، وإنما هو بيد “المعلم الكبير” الذي يقرّر دور النهضة في المسرح السياسي، هل يكون دورها البطولة المطلقة، أو البطولة الثانوية المساعدة، أو تكون مجرد كومبارس. فماذا قرّر “المعلم الكبير”؟ لم تتضّح الصورة بعد.
-
النقاشات الدائرة حول طبيعة “النظام” نقاشات سطحية لا ترقى إلى مستوى النقاشات السياسية والفكرية العميقة الجدّيّة؛ لأنّ الأمر لا يتعلّق في واقعه وحقيقته بنظام الحكم إنما يتعلّق بمظهره أي بشكل الحكم. فالبحث في نظام الحكم لا ينفصل عن البحث في مجموعة الأفكار والمفاهيم والمقاييس التي تنظّم رعاية الشؤون في مختلف مجالات الحياة، هل هي إسلامية أم غير إسلامية. ومجموعة الأفكار التي يقوم عليها نظام الحكم في تونس هي علمانية رأسمالية؛ وهذه من المسلّمات عند الساسة وليست موضوعة للنقاش والبحث، وإنما المبحوث فيه شكل الحكم. ولهذا لا يهمّ شكل الحكم إذا كان النظام واحدا؛ فلا فرق بين أمريكا وبريطانيا أو بين هولندا وفرنسا، فكلّ هذه الدول علمانية رأسمالية وإن اختلفت أشكال الحكم فيها. وبناء عليه، فإنّ الجدل حول شكل الحكم في تونس لن يغيّر من واقع البلاد والعباد شيئا، ولن يحلّ المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والمجتمعية والسياسية، فالفشل في النهوض بالبلاد ليس مأتاه شكل الحكم إنما نظام الحكم. وعلى النّاس أن تفهم، أنّ العبرة ليست بمن يحكم، ولا بكيف يحكم، إنّما بماذا يحكم من يحكم. فمادام النظام المحكوم به هو النظام العلماني الرأسمالي أسّ البلاء فلن يتغيّر الحال. وعلى النّاس أيضا أن تفهم، أنّ أوروبا لم تبحث في شكل الحكم قبل نظام الحكم، بل حدّدت النظام واتّفقت عليه، ثمّ حدّدت بعده الشكل واختلفت فيه.
-
بما أنّ الأساس في البحث المجدي والجدّي هو البحث في نظام الحكم أي في الأفكار والمفاهيم التي يقوم عليها الحكم لمعالجة شؤون الناس، وجب علينا من منطلق إسلامنا أن نتذكّر قول الله سبحانه تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)} (المائدة).قال ابن كثير (في تفسيره): “ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكزخان الذي وضع لهم اليساق وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعا متبعا، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم”. فلا يصلح لتونس، البلد الإسلامي، إلّا النّظام الذي جاءت به الشريعة الإسلامية، وهو نظام الخلافة.
قال الشيخ الطاهر ابن عاشور رحمه الله (في كتاب:نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم): “إنّ الخلافة الإسلامية التي مسمّاها ما حدّدها به الإمام الرازي في النهاية بقوله: “هي خلافة شخص للرسول في إقامة الشرع وحفظ الملة على وجه يوجب إتباعه على كافة الناس” هي عبارة عن حكومة الأمة الإسلامية وهي ولاية ضرورية لحفظ الجامعة وإقامة دولة الإسلام على أصلها. ومما يجب علمه هنا، أنّ الإسلام دين معضد بالدولة وأن دولته في ضمنه؛ لأنّ امتزاج الدّين بالدولة وكون مرجعهما واحدا هو ملاك قوام الدين ودوامه ومنتهى سعادة البشر في إتباعه حتى لا يحتاج الدين – الذي هو مصلح البشر- في تأييده على الوقوف بأبواب غير بابه. والخلافة بهذا المعنى الحقيقي ليست لقبا يعطى لكبير ولا طريقا روحانيا يوصل الروح إلى عالم الملكوت، أو يربط النفوس في الدين بأسلاك نورانية بل هي خطة حقيقية تجمع الأمة الإسلامية تحت وقايتها بتدبير مصالحها والذبّ عن حوزتها”.
ياسين بن علي
CATEGORIES محلي