في الدّولار الأمريكي قصّة أخطر أداة للهيمنة على الاقتصاد العالمي (الجزء 2)

في الدّولار الأمريكي قصّة أخطر أداة للهيمنة على الاقتصاد العالمي (الجزء 2)

حدّث أبو ذرّ التونسي قال: تذكيرًا بما توصّلنا إليه في الجزء الأوّل من هذه المقالة، فإنّه إلى حدود سنة 1944 كانت المنظومة النّقدية العالميّة تُسيّر ـ إجمالاً ـ على نظام الذّهب والفضّة، فقد تزامنت فيها النّقود المعدنيّة بنوعيها (الذّهب والفضّة) والنّقود الورقيّة بأنواعها الثلاثة (النّقود الورقية النائبة المغطّاة كليًّا بالذّهب والفضّة ـ النّقود الورقيّة الوثيقة المغطّاة جزئيًّا بها ـ النّقود الورقيّة الإلزاميّة الفاقدة لأيّ غطاء ذهبي أو فضّي)… هذا النّوع الثالث من النّقود الورقيّة ظهر في خضمّ الحرب العالميّة الأولى تحت ضغط المجهود الحربي، وكان بمثابة الرّحم التي اعتمل فيها نظام نقدي جديد هو نظام الورق الإلزامي… هذا النّظام الكارثة الذي أقصى الذّهب والفضّة عن تغطية النّقد واعتبر الأوراق النّقديّة من كميّة النّقود مثّل الثّغرة التي تسلّل منها أبالسة الاقتصاد الأمريكي، فقد اتّخَذوا النّقد وسيلةً من وسائل الاستعمار ومكّنوا لدولارهم في الأرض عبر جعله شريكًا للذّهب والفضّة في تغطية النّقود ثمّ بديلاً لهما، وبذلك حَكّموه في الاقتصاد العالمي واستباحوا به مقدّرات الأمم والشّعوب.. هذا إجمالاً وإليكم التّفصيل…

شريك السّوء

لقد زادت الحرب العالميّة الثّانية طين المنظومة النّقديّة المتردّية بلّةً: فالمجهود الحربي خرّب اقتصاديّات الدّول الأوروبيّة وأنهك ماليّاتها، وارتباط النّقود الورقيّة بالذّهب بدأ يتآكل، ونظام النّقد الإلزامي أخذ يتكرّس شيئًا فشيئًا، والمنظومة النقدية العالميّة بدأت تفقد مصداقيّتها وثقة الدّول فيها… هذه الوضعيّة المتأزّمة وظّفتها الولايات المتّحدة لخدمة مصلحتها بمنطق (مصائب قوم عند قوم فوائد): فقد استغلّت وضعها كمزوّد رئيسي للحلفاء بالقروض والمؤن والعتاد الحربيّ لإجراء تحويرات على المنظومة النّقدية العالميّة وقدّمت دولارها كشريك للذهب والفضّة في تغطية النّقود… فعقدت سنة 1944 اتّفاقيّة (بريتون وودز ـ Bretton Woods) وتعهّدت بموجبها لدول العالم بأنّها ستمتلك غطاءً من الذّهب يوازي ما تطبعُه من دولارات… وقد نصّت الاتّفاقيّة على تثبيت قيمة الدّولار في حدود 35 وحدة للأوقيّة، أي أنّ من يُسلّم أمريكا 35 دولارًا يتقاضى أوقيّة ذهبًا بينما باقي العملات يتمّ تقييمها بالدّولار وليس بالذّهب مباشرةً، وبذلك أصبح الدّولار هو المعيار النّقدي لكلّ العملات بدل الذّهب بذريعة أنّه مغطّى كليًّا بالذّهب وأصبح يسمّى (عملة صعبة) لأنه العملة الوحيدة التي يمكن استبدالها بالذّهب، وقد اكتسب ثقةً ومصداقيّةً لاطمئنان الدّول إلى وجود تغطية من الذّهب في أمريكا أغنى دول العالم وصاحبة أكبر رصيد ذهبي… لذلك حرصت الدّول على جمع أكبر قدر ممكن من الدّولارات في خزائنها على أمل تحويلها متى أرادت إلى ما يقابلها من الذّهب… وهكذا أنشب الدّولار شيئًا فشيئًا مخالبه في ماليّة العالم واقتصاديّات الدّول وأصبح عُملة العالم التي لا غنى عنها وشريكًا أساسيًّا للذّهب في تغطية العملات… ولكن سُرعان ما سيتبيّن أنّه شريك سوء بامتياز…

من الشّريك إلى البديل

استمرّت وضعيّة الشّراكة بين الذّهب والدّولار إلى مطلع سبعينات القرن المنصرم، وفي الأثناء تردّت أمريكا في مستنقع فيتنام وحصل نزيف كبير في مخزونها الذّهبي فاضطرّت بدورها إلى طبع أطنان من الدّولارات بدون تغطية ذهبيّة… كلّ ذلك مُضافًا إليه الجشع الرّأسمالي أوعز لأمريكا بالانتقال إلى الجزء الثاني من الخدعة التي استغفلت بها العالم: فبتاريخ 15/08/1971 خرج الرّئيس الأمريكي (ريتشارد نيكسون) على العالم في مشهد سريالي جدير بأفلام (الكاوبوي) ليصدمه بقرار فكّ ارتباط الدّولار بالذّهب وعدم التزام أمريكا بتبديل الدّولار بالذّهب… كما أعلن عن تعويم الدّولار بحيث أنّ سعر صرفه يُحدّده العرض والطّلب والمضاربة في السّوق، في انقلابٍ صفيق على اتفاقيّة (بريتون وودز) التي جعلت للدّولار قيمةً ثابتة تُحدَّد بالذّهب…وذُهِل العالم وهو يكتشف أن أمريكا التي وثق فيها وفي قوّة اقتصادها ورصيدها الذّهبي الضّخم كانت تطبع الدّولارات دون تغطية ذهبيّة وأنّها اشترت خيرات الشّعوب وامتلكت ثروات الأمم بحفنة من الأوراق الخضراء الفاقدة للغطاء الذّهبي تطبعها الماكينات الأمريكيّة ويضع عليها العمّ سام الرّقم الذي يحلو له ـ هكذا بمنتهى البلطجة والوقاحة ـ وقد برّر نيكسون ذلك بأنّ الدّولار قويٌّ بسمعة أمريكا وقوّة اقتصادها… ومنذ ذلك التّاريخ دخلت المنظومة النّقدية العالميّة تحت رحمة الدّولار وانتهى عهد نظام الذّهب والفضّة وصار العالم كلّه يسير على نظام النّقد الورقي الإلزامي وحده… وقد سُمِّي هذا المفصل التّاريخي في الاقتصاد العالمي (صدمة نيكسون ـ Nixon Shock) وقد كُتِبت عنه ملايين الصّفحات وآلاف التّحاليل والدّراسات لكنّها ظلّت ـ بقدرة قدير ـ مُغيّبةً عن الشّعوب الإسلاميّة…

تداعيّات كارثيّة

إنّ لنظام النّقد الورقي الإلزامي آثارًا سيّئةً وخطيرة على المجتمعات، ليس أقلّها الاضطراب المستمرّ في أسعار الصّرف المحليّة لعدم ربطها بغطاء ثابت، والتّذبذب في سعر صرف الغطاء النّقدي العالمي (الدّولار) بما يُحدث خسائر ضخمة في اقتصاديّات العالم… ورغم ذلك لم تتمكّن أيّ دولة ـ بما فيها الكبرى ـ من الاعتراض ورفض هذا النّظام النّقدي الجديد الذي فرضته أمريكا، لأنّ هذا معناه أنّ كلّ ما خزّنته من مليارات الدّولارات في بنوكها سيصبح ورَقًا بلا قيمة..

إنّ جريمة طبع الدّولارات بدون رصيد وإدخالها في دائرة الاقتصاد هو سرقة موصوفة لمقدّرات الشّعوب: فالأصل في الكتلة النّقديّة أن تُغطّى بالإنتاج الحقيقي للدّول (فلاحة ـ صناعة ـ تجارة ـ مناجم…)، أمّا عندما يتمّ طبع النّقود بلا غطاء ذهبيّ وضخّها في الدّورة الاقتصاديّة فإنّ ذلك يؤدّي إلى انخفاض قيمة العملة فترتفع الأسعار وتنخفض الأجور…أمّا أخطر التّداعيات وأكثرها كارثيّةً فهي جعل الدّولار متحكّمًا في الاقتصاد العالمي: فمع تعويم الدّولار أصبحت أمريكا قادرةً على التّلاعب بقيمته وبقيمة العملات الأخرى المرتبطة به عن طريق تحكُّمها في كميّة الدّولارات التي تطبعُها وتطرحها للتّداول في السّوق النّقدي… وهذا يؤدّي إلى عولمة الأزمات الاقتصاديّة: فأيّة هزّة اقتصاديّة في أمريكا تشكّل بمفعول (الدّومينو) ضربةً قاسيةً لاقتصاد الدّول الأخرى لأنّ مخزونها النّقدي معظمه أوكلّه مغطّى بالدّولار الورقي… لذلك فإنّ هذه الدّول تجد نفسها ـ في مفارقة عجيبة ـ مضطرّةً لدعم هذا الدّولار الطّفيلي ولو عبر شراء الفائض منه إذا انخفض وتقديم الدّعم الاقتصادي له حتّى يستعيد عافيته لأنّ انخفاضه يعني الكساد الاقتصادي لها، وهذا ما عناه (نيكسون) بقوله (يجب أن نلعب اللّعبة كما صنعناها ويجب أن يلعبوها معنا كما وضعناها)…

البترو ـ دولار

ولم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ، فلكي تضمن أمريكا استمرار الحاجة العالميّة للدّولار وبقاء العالم في كمّاشتها الاقتصاديّة، عقدت صفقة مع (آل سعود) لكي يتمّ تسعير النّفط بالدّولار، الشيء الذي يجعل جميع دول العالم بحاجة ماسّة وحيويّة لدولارها ويمكنّها من التحكّم في سوق النّفط ـ تداوُلاً واستخراجًا وتنقيبًا وتسعيرًا ـ فهي تحصل على النّفط ببضعة أوراق لم تتكلّف فيها إلاّ ثمن الطّباعة، ثمّ سرعان ما تستعيدها من السّعودية كودائع في بنوكها، وكلّ ما تتكلّفُه هو أرباح قليلة على الودائع تعطيها البنوك الأمريكيّة لأمراء آل سعود ليتمكّنوا من الرّفاه الفاحش الذي يعيشونه… أمّا الودائع الضّخمة الموجودة في البنوك الأمريكية فإنّه ليس بمقدور السعوديّة سحبها إلاّ بموافقة أمريكا، ودونكم قصّة الملك فهد مع (رونالد ريغان): فقد طلب منه السّماح بسحب بعض الأموال من الودائع السعوديّة لتمويل مشاريع داخليّة، فرفض (ريغان) قائلاً (إنّ الاقتصاد الأمريكي لا يحتمل ذلك)…ولمزيد إحكام سيطرتها على النّفط أنشأت أمريكا منظّمة الدّول المصدّرة للبترول (الأوبك) وجعلتها تسير في نفس الخطّة الأمريكية السعوديّة: فهم يسعّرون البترول بالدّولار، والسّعودية أكبر مصدّر للنّفط في العالم وقادرة على التّلاعب بأسعاره بكميّة إنتاجها وليس بإمكان سائر أعضاء (الأوبك) الخروج من فلكها وفلك أسيادها… وهكذا صار ربط الدّولار بالنّفط أداةً جديدةً من أدوات سيطرة أمريكا على اقتصاد العالم…

اليهود والدّولار

هذا إلى جانب احتياج العالم للدّولار لأنّه العملة التي يتمّ بها تحصيل الرّسوم في قناة السويس حيث تمرّ جلّ مبادلات العالم، فالدّولار هو ـ بلا منازع ـ العملة التي تتربّع على عرش التّجارة الدّولية ومعظم التبادلات العالمية تتمّ بالدّولار… وتتعمّق المفارقة إذا علمنا أنّ المسيطر الأوّل على حركة الدّولار منذ طبعه إلى سعر صرفه وتداوُله هم اليهود: وهذا ليس من قبيل الكلام المستهلك الذي يصبّ في نظريّة المؤامرة، بل هو حقيقة سافرة مستهلكة عالميًّا لا تخفى إلاّ على الشّعوب المُستَغَلَّة… فعائلة (روتشيلد) اليهوديّة التي توصف بأنّها تمتلك نصف ثروات العالم هي عائلة سيطرت بصورة شبه كاملة على سوق الصّرف منذ القرن (19م) وانتشر نشاطها المالي في عدّة بلدان انطلاقًا من بريطانيا حتى انتهت إلى امتلاك حصص كبيرة في بنوك مركزيّة لدول أوروبيّة عديدة…وقد أصبحت هذه العائلة المتحكّمة في سوق الصّرف والبورصات العالميّة قادرة على التّلاعب باقتصاد العالم بمجرّد سحب بعض أوراقها النّقديّة من الدّولار أو ضخّها في السّوق…وقد تحدّث كتاب (حرب العُملات) للخبير الاقتصادي الأمريكي من أصل صيني (سونغ هونغ بين) عن تحكّم (آل روتشيلد) في عمليّة طبع الدّولار لكونهم مساهمين أصلاً مع الحكومة الأمريكيّة في البنك الفيدرالي الأمريكي الذي يقوم بطبع الدّولارات…كما تحدّث عن مسألة الدّيون الأمريكيّة الضخمة (20 تريليون دولار) وتوصّل إلى أنّ أمريكا مدينة بجزء كبير من ذلك المبلغ لليهود عمومًا ولعائلة (روتشيلد) خصوصًا.. وهكذا تتضاعف المأساة: فليس مطلق الدّولار هو المسيطر على اقتصاديّات العالم الإسلاميّ والنّاهب لثروات المسلمين، بل هو الدّولار اليهوديّ وأموال اليهود القذرة…

أ.بسّام فرحات

CATEGORIES
TAGS
Share This