“في الذكرى التاسعة لاقترافها” جريمة فصل جنوب السّودان: مرسوم إداري أم طلاق حضاري؟

“في الذكرى التاسعة لاقترافها” جريمة فصل جنوب السّودان: مرسوم إداري أم طلاق حضاري؟

حدّث أبو ذرّ التونسيّ قال : على وقع الثّورة والمخاض السياسي في الشّمال والمجاعة والحرب الأهلية في والجنوب، مرّت بنا هذه الأيّام الذكرى التّاسعة لجريمة تقسيم السودان…فبتاريخ 9 جويلية 2011 وبعد استفتاء شكلي أُجْرِيَ تحت حراب الجيش الأمريكي أُعْلِنَ رسميًّا عن انفصال جنوب السودان وقيام دولة جديدة على أنقاضه…هذا الحدث المفصلي الذي توّج أكثر من قرن ونصف من النّشاط التبشيري الاستعماري (1846م/2011م) أهمل عمدا الإجابة عن سؤال مركزي: ما هو مصير مسلمي جنوب السودان في الدّولة الوليدة التي أُريد لها أن تكون بمواصفات زنجيّة نصرانيّة وثنية..؟؟ بمعنى آخر هل أنّ هذا الانفصال أضاف مولودًا جديدًا إلى جامعة الدول العربيّة ومنظّمة المؤتمر الإسلامي أم أنّه بتر جزءًا من السّودان المسلم وأصاب جسم الأمّة الإسلاميّة بإعاقة عضويّة وعاهة مستديمة..؟؟

أكذوبة الثروات النفطيّة

لتهوين الخطب على السودانيّين وسائر المسلمين ما فتئ الاستعمار وأذنابه يغيّبون النّاحية الصليبيّة التبشيرية ويروّجون لأكذوبة الثروات النّفطية في الجنوب وينزّلون انفصاله في إطار الصراع الدّولي حول تلك الثروات…وإنّه وإن كان الاستعمار يتحرّك في الغالب بخلفيّات نفعيّة اقتصاديّة بحتة لنهب الخيرات وشفط المقدّرات والسّيطرة على المناجم والأسواق، فإنّه في حالة جنوب السودان قد حرّكته دوافع عقديّة تبشيريّة وأحقاد صليبيّة عمياء ضدّ كلّ ما هو عربي وإسلامي: فما يروّج إعلاميًّا عن ثروات الجنوب النّفطيّة لا يعدو أن يكون تحاليل متهافتة معتمدة للتضليل، فمدّخرات السّودان النفطيّة بكاملها لا تتجاوز 8 مليارات برميل 70% منها فقط في الجنوب (منطقة أبيي) وهي لا تعدو شيئًا يُذكر أمام مدّخرات العراق مثلاً المقدّرة ب 500 مليار برميل… فالثّروات النّفطيّة لا تبرّر حجم التّضحيات التي قدّمها الغرب والإصرار الذي أبداه طيلة 165 سنة لفصل جنوب السودان، ناهيك وأنّ مخطّطاته انطلقت منذ سنة 1846م أي قبل اكتشاف النّفط، كما أنّ تلك الثروات المتواضعة لا تبرّر تجشّم الغرب مشقّة النّحت في الصّخر وتغيير التركيبة العرقيّة والإثنيّة العقائدية للمنطقة وما صاحب ذلك من حروب طاحنة أودت بحياة مليوني سوداني…أما كان لهذه الثروات أن تُشفط إلاّ في إطار دولة زنجيّة نصرانية..؟؟ أليس نفط المسلمين بكامله مُسخّرا للشركات الاستعماريّة..؟؟ أليست أمريكا اليوم مسيطرة على السودان جنوبه وشماله فما الذي حملها على هذه الولادة القيصريّة..؟؟ ممّا لا شكّ فيه أن قيام دولة جنوب السّودان ليس مجرّد مرسوم إداري لوضع اليد على ثروات الجنوب النفطيّة بقدر ما هو قطيعة حضارية مع الهويّة العربيّة الإسلاميّة، وحسبنا فيما يلي أن نتتبّع الخطوات التاريخيّة لهذه الجريمة وأن نقف على الأسباب الحقيقيّة التي حملت الكافر المستعمر على اقترافها…

حقّ تاريخيّ

ممّا لا شكّ فيه أنّ كافة المؤشّرات ـ التاريخيّة منها والإثنيّة الثقافيّة وحتّى الكميّة الإحصائيّة ـ ترجّح كفّة المسلمين في جنوب السّودان :فهم أصيلو المنطقة وسليلو قبائلها العربيّة منها والنيليّة لهم الأسبقيّة الزمانيّة على النصارى الانفصاليّين ويمتلكون بالتّالي الحقّ التاريخيّ في المنطقة…فقد سيطرت مملكة (الفونج) الإسلاميّة على جنوب السودان منذ القرن 15 للميلاد واستمر نفوذها إلى سنة1821م حيث ورثتها الدولة العثمانيّة أيّام (محمد علي باشا) وابنه (الخديوي إسماعيل)، ثمّ أخذت عنهما مشعل الفتح الدولة المهديّة التي أسقطتها بريطانيا عند احتلالها للسودان سنة 1898م… فجنوب السودان إذن أرض إسلاميّة خراجيّة بالاصطلاح الفقهي رقبتها بيد بيت مال المسلمين وذلك منذ أكثر من خمسة قرون خلت ،أمّا النصرانيّة الاستعماريّة الغازية فلم تسجّل حضورها الرسميّ إلاّ سنة 1905م تاريخ تأسيس أوّل كنيسىة في الجنوب على يد المبشّرين الإنجيليّين وطلائع جيش الاستعمار البريطانيّ…والحال هذه من الطبيعيّ أن يكون الإسلام هو الدّين الأوّل في الجنوب ـ فهو الأصل وما دونه دخيل ـ وهذا وفق إحصاء الأنجليز أنفسهم وباعتراف المجامع الكنسيّة التبشيريّة: فقد جاء في الكتاب السنويّ للتبشير (1981م) عن مجلس الكنائس العالميّ أنّ 65% من أهالي الجنوب وثنيّون و18% منهم مسلمون و17% نصارى.. على أنّ هذا الإقرار بالسّيطرة الطفيفة للمسلمين يستبطن في ثناياه تزييفا للحقيقة وقلبا للمعطيات بغية النفخ في حجم المسيحيّين :ذلك أنّ الإحصائيّات المستقلّة المحايدة تؤكّد يقينا على أنّ نسبة المسلمين حاليّا تقارب الثلث وأنّ نسبة النصارى لا تتعدّى 07% غالبيّتهم من أصول إسلاميّة كما تدلّ على ذلك أسماؤهم الثلاثيّة،هذا عدا أنّ الإسلام يلقى الترحيب والقبول في أوساط الوثنيّين وأنّ اللغة العربيّة (عربيّة جوبا) أضحت لغة التواصل بين مختلف القبائل المتعدّدة اللّهجات…

تواطؤ دوليّ

هذا الرجحان التاريخيّ والكميّ لكفّة المسلمين كان يجب منطقيّا وطبيعيّا أن تترجمه وتكفله اتفاقيّة (نيفاشا) المبرمة سنة 2005م بين حكومة المؤتمر الوطنيّ ومتمرّديّ الحركة الشعبيّة :فرغم تسميتها (اتفاقيّة السلام الشّامل) فقد كانت بمثابة صكّ التفكيك والتفتيت وإعلان الحرب الشّاملة على هويّة السّودان الإسلاميّة ،إذ عوض أن تنصّ على ضمّ الفرع إلى أصله وتوحيد السّودان والمحافظة على عمقه الحضاريّ العربيّ الإسلاميّ إذا بها تؤسّس للتطهير العرقيّ والإثني ضدّ المسلمين وتكرّس الانفصال وتشرعنه وتفرض دورا دوليّا لضمان تنفيذه… بل إنّ هذه الاتفاقيّة المشؤومة تعدّ نصرا مؤزّرا و كسبا غير مسبوق لمسيحييّ الجنوب مُنحوا بموجبها فوق ما كانوا يتطلّعون إليه :فقد احتضنت النصارى دون غيرهم وعملت على رعايتهم وحمايتهم وتمكينهم من ثروات المنطقة ،إذ ركّزت على ما أسمته (حقوق غير المسلمين ممّن يعيشون في الشمال والجنوب) ولم يأت فيها ذكر لوضع مسلميّ الجنوب ومآلهم بعد الانفصال ،كما أُذيبت بمقتضاها الهويّة الإسلاميّة في مرجل العلمانيّة التي لا تقيم أدنى اعتبار لعقيدة السّودانيّين المسلمين وانتمائهم الثقافيّ والحضاريّ ،بل إنّها منحت شرذمة من الانفصاليّين المرتمين في أحضان الاستعمار والصليبيّة والصهيونيّة ثلث مساحة السّودان الغنيّ بالثروات النفطيّة والمنجميّة  والطبيعيّة في سابقة خطيرة تؤسّس لتمزيق البلد ومسخه وإضعافه ونهب مقدّراته وتكريس السيطرة الأمريكيّة عليه ـ شماله وجنوبه ـ وذلك باسم حقّ تقرير المصير وحريّة المعتقد وحقوق الإنسان.. ما ولّد شعورا عامّا بين المسلمين بالمرارة والغبن والتوجّس من المستقبل المنظور في ظلّ المولود الجديد دولة جنوب السّودان…

مخطّط تبشيري استعماري

وإحقاقا للحقّ فإنّ معرفة مصير مسلميّ الجنوب لا يتطلّب تكهّنا أو استشرافا أو تحليلا سياسيّا بقدر ما هو سيناريو استعماريّ كلاسيكيّ وثمرة حتميّة للمشروع الصليبيّ الصهيونيّ المستهدف للمنطقة وتداعيّات آليّة طبيعيّة منطقيّة للمخطّط الذي انطلق تنفيذه منذ سنة 1846م ويتواصل حاليّا على أرض الواقع :فما أن سيطرت بريطانيا على السّودان المصريّ سنة 1898م حتّى سعت جاهدة إلى فصل جنوبه عن شماله بغية إقامة حاجز زنجيّ نصرانيّ يوقف زحف الإسلام واللغة العربيّة على قلب إفريقيا ومنطقة البحيرات، فأنشأت المدارس والمستشفيات لكسب ودّ وثقة المحليّين وعملت على استيعاب القبائل الزنجيّة وإثارة الفتنة بينها وبين القبائل العربيّة وتشويه صورة العربيّ والمسلم وإظهاره في مظهر النخّاس المخادع الذي ينشر الأمراض الجنسيّة ويسترقّ الجنوبيّين ويستغلّهم… كما عملت على جَنْوَبَةِ الإدارة والجيش المحلِّيين وأقصت التجّار الشماليّين من العرب والمسلمين وعوّضتهم باليونانيّين والأقباط ونصارى الشّام ،وشنّت حربا شعواء على اللغة العربيّة فشجّعت اللّهجات المحليّة وقنّنتها ودوّنتها وفرضت الأنجليزيّة في الإدارة والتدريس وجعلت منها لغة التواصل بين القبائل… ولمزيد صدّ المؤثِّرات العربيّة الإسلاميّة أقدمت سنة 1922م على إغلاق الجنوب تماما في وجه مسلميّ الشمال فلا يدخلونه إلاّ بإذن خاصّ يُمضيه الوالي نفسه ،ومنعت ارتداء أو حتى تداول الملابس العربيّة التي تُميِّز مسلميّ الشمال وعمدت إلى طرد أعداد كبيرة من المسلمين الجنوبيّين لاسيّما الأيمّة والعلماء وحفظة القرآن الكريم…

تطهير عرقيّ و إثني

وقد تواصل هذا الاستهداف الممنهج لعروبة جنوب السّودان وإسلامه طوال الحقبة الاستعماريّة التي انتهت سنة 1956م ثمّ اِسْتُبْدِلَ بقفّازات محليّة أكثر شراسة أذكت لهيبه وكرّسته وقنّنته وجسّدته على أرض الواقع سنة 2011م… فرغم السّلام المزعوم الذي نصّت عليه اتفاقيّة (نيفاشا) فإنّ الوقائع الحاليّة على الأرض تعكس تطهيرا عرقيّا وإثنيّا شرسا ضدّ مسلميّ الجنوب ،ومن أبرز مظاهره ما يواجهونه من مضايقات في أداء عباداتهم :فقد مُنِع الأذان في عدّة مناطق واعتُقِل بعض المؤذّنين وعُنِّف آخرون لاستخدامهم مكبّرات الصوت ،واحتُلّت عدّة مساجد من طرف قوّات الحركة الشعبيّة وهُدِمت مآذنها وحُوِّل بعضها إلى كنائس ،وأُغلقت العديد من خلاوي تحفيظ القرآن الكريم واتُّخِذ بعضها خمّاراتٍ ،ومُنِع إنشاء مساجد جديدة وأُزِيلت العتيقة منها بحجّة (إعادة التخطيط العمرانيّ) لطمس تاريخ المنطقة وتزييف انتمائها الثقافيّ… كما تمّ إغلاق الجامعات الإسلاميّة واستبدال المنهج السّودانيّ العربيّ بالمناهج الكينيّة والأوغنديّة ،وأُقصيت العربيّة من التدريس لصالح الأنجليزيّة ومُنِعت الطّالبات المسلمات من ارتداء الخمار بل تمّ اغتصاب جنوبيّات قاصرات من قبل جنود قوّات (حفظ السّلام) ،هذا إلى جانب السّلب والنّهب والتقتيل والترويع وحملات التبشير الشرسة المتواصلة بلا كلل وتضغط على المسلمين بالإغراء والخبث والتضييق والمقايضة بمعونات الإغاثة أو بالتطبيب والتشغيل وما خفي كان أعظم…كلّ هذا حدث ويحدث يوميّا في ظلّ صمت وتواطؤ ومباركة من جميع الأطراف :حكومة الشمال والدول العربيّة وأمريكا والعالم الحرّ وقوّات حفظ السّلام والإرساليّات التبشيريّة والمنظّمات الخيريّة والإنسانيّة…

النموذج الأندلسيّ

وفق هذا التخطيط وإزاء هذه الوقائع الميدانيّة الملموسة ليس من العسير التنبّؤ بمآل مسلميّ جنوب السّودان في ظلّ الدولة الوليدة :إنّه فصل دراميّ من أسوإ فصول التّطهير العرقي والإثني الذي شهدته الحملات الصّليبية في القرون الوسطى، يبتدئ بالتّهميش والإقصاء ونهب الثّروات وانتهاك الأعراض والحُرمات لينتهي بالتّضييق الدّيني وانتزاع المقدّسات والتّنصير القسري والمذابح الجماعيّة ثم التّهجير بالجملة إلى الشّمال لمن لم تفلح كلّ تلك الممارسات في سلخه عن هويّته، وسيبارك العالم بأسره دولاً ومنظّمات ـ بما في ذلك الكيانات العربيّة ـ تلك المساعي بحجّة محاربة الإرهاب…

إنّ النّموذج الذي يتّخذه الغرب مثالاً يُحتذى في صراعه مع المسلمين هو سقوط الأندلس فهو يمثّل في الذّهنيّة الغربيّة انتصار النّصرانيّة في أبهى وأوضح تجلّياته، لذلك تراه كلّما انتزع جزءًا من بلاد الإسلام إلاّ ويحاول استنساخ أندلس جديدة فيه ليضمن عدم عودته مجدّدًا لحوزة الإسلام وذلك عبر اجتثاث الوجود الإسلامي واقتلاعه من جذوره بشريًّا وعقائديًّا وثقافيًّا وحضاريًّا ولغويًّا وعمرانيًّا ومدنيًّا… إنّها سياسة الأرض المحروقة أو سياسة الحلاقة كما يسمّيها كيان يهود، هذا ما حصل في اليونان والبلقان وقبرص والهند وكشمير وجنوب شرق آسيا والقوقاز وآسيا الوسطى وإفريقيا جنوب الصّحراء ،ويحصل الآن في فلسطين وبورما وتيمور وتركستان الشرقيّة… فكلّ جزء يُقتطع من العالم الإسلامي هو مشروع أندلس جديدة… من هذا المنطلق فإنّ انفصال جنوب السّودان ليس مجرّد مرسوم إداري أو تحوير جغرافي فحسب بل هو طلاق حضاري بائن بالثّلاث بين الدّولة الوليدة وبين الإسلام لغة وثقافةً وحضارةً وعقيدةً وهويّةً ومقدّسات، إنّها غزوة صليبيّة تقتطع من جسم الأمّة جزءًا عزيزًا عليها هو ضربة البداية لمشروع الشّرق الأوسط الجديد الذي سيؤدّي إلى تفجير السّودان إلى أربع دويلات وسيؤسّس لتفتيت مصر والجزائر والمغرب وليبيا والسعوديّة وسوريا والعراق… وفي الأثناء يبقى المسلمون في كافّة الثّغور مكشوفي الظّهور ليس لهم ركن يشدّ أزرهم ولا معتصم يستصرخونه ولا صلاح الدّين يحرّرهم، فلا يتكفّل بحمايتهم لا القانون الدّولي ولا المنظّمات الإنسانيّة ولا حتّى الأنظمة التي ينتمون إليها سياسيًّا…

أ. بسام فرحات

CATEGORIES
TAGS
Share This