في الذكرى السّابعة للثّورة …ويتواصل نزيف العقول والكفاءات
حدّث أبو ذرّ التونسيّ قال : سبع عجاف مررن على اندلاع الثّورة في تونس استحال على إثرها الرّبيع العربي إلى ما يشبه ربيع العربان الذي قادهُ على بن غذاهم سنة 1865: مجرّد انتفاضة جياع وهبّة غريزيّة يائسة سُرعان ما وُئدت في مهدها وارتدّت على أعقابها خاسئة وهي حسيرة وأودِع بطلُها (كرّاكة حلق الوادي) ليتعفّن ويلقى حتفه…ودونك (مكاسبُها) فهي خير شاهد عليها: تبعيّة وعجز وإفلاس وارتهان، فقدان للسّيادة والسُّلطان، تفريط في الثّروات والمقدّرات، فقر وخصاصة ومهانة وتهميش، قمع وظلم وتركيع وتكميم أفواه، فسق وفجور ومحاربة لله ورسوله، احتقان وعداء مستحكم بين السّلطة والشّعب…أمّا أغرب المفارقات التي أفضت إليها ثورة 14 جانفي فهي انقلابها على الشّريحة التي أشعلت فتيلها بحيث أصبحت حطبًا لها: شباب يتّقدون حماسة وحيويّة وعطاءً وطموحًا أحرقتهم ثورتهم وقابلتهم بجزاء سِنّمار وتركتهم كالمستجير من الرّمضاء بالنّار…أشعلوها لكي تكون نورًا يُضيء دربهم الحالك وينقذهم من كمّاشة الرّأسمالية التي تطحن إنسانيّتهم، إذا بها ترتدُّ نارًا تلتهم طموحاتهم وتُسفّه أحلامهم وتُكبّل حاضرهم وتحيل مستقبلهم إلى رماد تذروه رياح اليأس والعجز والقهر و(الحقرة) وانسداد الآفاق…وهو مصير يستوي أمامهُ الجميع ـ بصرف النّظر عن الجنس والمؤهّل التّعليمي والمستوى الثّقافي ـ مع بعض التّصنيف الدّاخلي: فالحرقة للفاشلين، والبطالة لأصحاب الشّهائد العليا، والهجرة للأدمغة والعقول والكفاءات…ولا ينفكّ من هذا الطّوق إلاّ من تسلّح بالرّشوة والمحسوبيّة والأكتاف وتفنّن في مسح الجوخ وأراق ماء وجهه على أعتاب المسئولين…ولئن أضحت الحرقة والبطالة من القضايا المستهلكة الفاقدة لعنصر المفاجأة، فإنّ ما يستوقفنا فعلاً ويثير استغرابنا هو تنامي هجرة العقول والكفاءات التّونسية بعد 14 جانفي 2011: إذ يُفترض من الثّورة أن تحتضن نخبها وأدمغتها وتحُدّ من نزيفهم وتُحبط نيّة الهجرة عندهم وتُفعّل الطّاقة الكامنة فيهم وتُوظّفهم في مشروعها التّنموي، لكن ما راعنا إلاّ والظّاهرة قد بلغت سرعتها القصوى بعد الثّورة في مفارقة عابرة للقارّات…
أرقام مفزعة
في الواقع إنّ نزيف الأدمغة والكفاءات والعقول ليس مقصورًا على تونس فحسب، بل هو ظاهرة عالميّة يكتوي بنارها العالم الثّالث برُمّته ويستفيد منها العالم الحرّ والدّول المتقدّمة…إلاّ أنّ للدّول العربيّة نصيب الأسد فيها، إذ تساهم لوحدها بأكثر من ثلث هجرة الكفاءات في العالم، وتستأثر كلٌّ من تونس والمغرب ومصر ولبنان والعراق وسوريا بـ 75% من هذا الثّلث بحيث تُصدّر 100 ألف مهاجر نحو الدّول الغربيّة يتوزّعون على القطاعات التّالية: 50% أطبّاء و23% مهندسون و12% أساتذة في مختلف الرّتب والاختصاصات، والبقيّة كفاءات أخرى (رجال أعمال ـ فنّيون ـ حرفيّون..)…أمّا النّموذج التّونسي فتتأكّد معه الظّاهرة: إذ تحتلّ تونس المرتبة الثّانية عربيًّا على مستوى هذا النّوع من الهجرة وذلك منذ سنة 2009، وهي لم تكتف بعد الثّورة بالمحافظة على تلك المرتبة بل دعّمتها…فوفق إحصائيّات منظّمة التّعاون والتّنمية الاقتصاديّة ارتفع نسق نزيف العقول بعد 14 جانفي 2011 ليبلغ 90 ألف كفاءة أي ما يعادل 09% من جملة التّونسيين المقيمين بالخارج موزّعين على القطاعات التّالية: الأطبّاء والقضاة والأساتذة الجامعيّين والمهندسين والطّلبة المتفوّقين ورجال الأعمال…وقد أثّر ذلك على التّركيبة السّكانية للمهاجرين التّونسيين ـ كمًّا وكيفًا ،سنًّاً ونوعًا ـ بحيث طغى عليها الشّباب من رجال الأعمال والباحثين وأصحاب الشّهائد الجامعيّة العُليا…كما تمّ تسجيل تحوّلات على مستوى دول الاستقبال من الوجهة التقليديّة (أوروبا الغربيّة) التي كانت تستأثر بـ 84% من المهاجر التّونسية إلى وجهات جديدة شملت أوروبا الشّرقية وكندا والولايات المتّحدة والخليج العربي…
(ميتة وخسارة كفن)
ممّا لا شك فيه أنّ هذه الأرقام المفزعة للعقول التونسيّة المشتّتة بين المهاجر الأوروبية والأمريكيّة تعكس شكلاً جديدًا من أشكال السّيطرة والاستغلال والنّهب للثروات: فبعد أن استنزف الأرض أو كاد، التفت الاستعمار الحديث إلى الأدمغة والعقول متجاوزًا بذلك الثّروات المادّية (طاقة ـ محروقات ـ مناجم…) إلى الثّروات المعنويّة (آثار ـ مخطوطات ـ براءات اختراع ـ يد عاملة ـ نخب وخبرات…) : فقد حوّل وجهته منذ ثمانينات القرن المنصرم إلى اصطياد الأدمغة والكفاءات والعقول الجاهزة على طبق من ذهب واختطافهم وتحويل وجهتهم بالإغراءات الماديّة في حركة بلطجيّة ترقى إلى مستوى (البراكاج) والسّرقة الموصوفة…فالكافر المستعمر لا يتكبّد عناء تكوين تلك الكفاءات ومشقّة تأهيلها وتكاليف رعايتها والسّهر عليها بل يختصر على نفسه الطّريق والمصاريف ويصادرها مُهيّأةً حاضرة جاهزة تامّة الشّروط والمواصفات، وبذلك يجني منها ثمار مجهودات الدّولة الأمّ التي استثمرت فيها الأموال الطّائلة دون أن تستفيد منها، ممّا يعود عليها بالوبال ويجعل مستقبلها على كفّ عفريت…وقس على ذلك النّموذج التّونسي: فإنّ دول الاستقبال تستفيد من كفاءاتنا وعقولنا الجاهزة التي أشرفت الدّولة على تكوينها من 15 إلى 20 سنة وتكبّدت في سبيل ذلك الغرم الثّقيل من المال العامّ…إذ يتراوح معدّل كلفة تعليم الطّالب التّونسي الواحد سنويًّا ما بين 5 و 10 آلاف دينار حسب الاختصاصات، كما أنّ طلبة الطّب وحدهم يكلّفون الدّولة سنويًّا نحو 100 مليون دينار، كلّ ذلك على أمل أن تستفيد منهم عند تخرّجهم، لكنّ حساب السّوق لا يقابل دائمًا حساب البيدر: فغالبًا ما تستسلم تلك الكفاءات إلى الإغراءات الغربيّة ويقع تحويل وجهتها إلى المهاجر، ممّا يوقع البلاد في خسارة مضاعفة، تكلفة التّكوين والقيمة المضافة للكفاءات أي (ميتة وخسارة كفن)
إذا عُرف السّبب
لفهم هذه النّتيجة المؤلمة يجب أن نأخذ بعين الاعتبار جملة من المعطيات: أوّلاً: أنّ الكافر المستعمر وأذنابه بالدّاخل يتربّصون بنخبة المسلمين وبالخلايا الحيّة في جسد الأمّة وقد أقاموا بنية تحتيّة داخليّة وخارجيّة لاختطافها…ثانيًا: أنّ المناهج التّعليمية المحليّة قائمة على أساس وجهة النّظر الغربيّة في الحياة وقد أثمرت جيلاً ممسوخًا منبتًّاً أسيرًا للنّموذج الغربي مضبوعًا بثقافته وحضارته يرى في الهجرة إلى الخارج حلمًا بعيد المنال وفرصةً لا تُعوّض…ثالثًا: أنّ النّظام في تونس ـ كما في سائر الدّول العربيّة والإسلاميّة ـ لا يرعى الشّؤون ولا يعمل على إيجاد فرص عمل لضمان العيش الكريم لرعاياه ولا يقوم بالتّوزيع العادل للثّروة على مستحقّيها…رابعًا: أنّ هناك محليًّا جرعة زائدة (أوفر دوز) من حملة الشّهائد العُليا في جميع الاختصاصات أدّت إلى نُدرة الوظائف والتّكالُب على حيازتها بجميع الوسائل، كما أدّت إلى تفشّي البطالة في صفوف الكفاءات…خامسًا: أنّ الإمكانيّات المحليّة ضعيفة جدًّا بل تكاد تكون معدومة ولا مجال لمقارنتها بالإمكانيّات الغربيّة على جميع الأصعدة والمستويات مادّيًا وبيداغوجيًّا وإداريًّا (البحث ـ التخصّص ـ الشّغل ـ المرتّبات ـ الآفاق..)…من هذا المنطلق فإنّ الكفاءة التّونسيّة هي ابتداءً مظنّةُ الهجرة وأرضيّة لها، لأنّها واقعة في منطقة وسطى بين الإيعاز والإرغام وتنتظر أوّل فرصة تُتاح لها كي تحقّق حلمها…وإذا عُرف السّبب بطُل العجب…
هجرة أم تهجير..؟؟
على هذا الأساس وبتتبّع قنوات الهجرة لكفاءاتنا نكتشف دون عناء أنّ هناك نزيفًا ما فتئ منسوبه يتضاعف عامًا بعد آخر وأنّ هناك تهجيرًا ممنهجًا ومدروسًا لعقولنا وأدمغتنا وراءه أطراف متنفّذة ومؤسّسات قائمة الذّات…ففيما يتعلّق بالطّلبة المتميّزين في الخارج فإنّ نسبة قليلة جدًّا منهم لا تتعدّى 07% تقرّر العودة إلى تونس والبقيّة يهتبلون فرصة الخروج من سجن البلد ليستقرُّوا في المهاجر مستفيدين من (الثّغرات الإداريّة) ولامبالاة الدّولة وعدم تنصيصها على وجوب عودتهم إلى بلدهم بعد التخرّج…أمّا الكفاءات (المحتجزة في الدّاخل) فهي فريسة سهلة لطائفة من منافذ الهجرة الرّسميّة وغير الرّسمية، الظّاهرة السافرة والخفيّة المغلّفة بشتّى الشّعارات: فيقع إخضاعها إمّا للتّهجير القانوني عبر ما يسمّى بالتّعاون الفنّي أو عن طريق عروض الهجرة الرّسمية (أوروبا ـ كندا ـ الولايات المتّحدة ـ أستراليا..)…أو تخضع (للتّصدير) المغلّف بالتّعليم عبر المعاهد النّموذجيّة المجعولة أصلاً لاصطياد العباقرة والنّابغين وبيعهم لمن يدفع أكثر…أو تتعرّض للقرصنة عبر بوّابة المراكز الثّقافيّة والمنظّمات الأجنبيّة المخترِقة للجامعات حيث يقع إغراء ضعاف الهمم والنّفوس بالإقامة و(الفيزا) وبالرّواتب الخياليّة (من 5 إلى 10 أضعاف الرّواتب في تونس) وبالإمكانيّات البيداغوجيّة (تخصّص ـ بحث علمي…) لتحويل وجهتهم نحو المهاجر دون أن تحرّك الدّولة ساكنًا بما يشي برضاها وتواطُئها…وبين هذا وذاك فإنّ إيقاف نزيف العقول التونسيّة لا يمكن أن يتحقّق إلاّ في ظلّ دولة حقيقيّة ذات سيادة كاملة ،خلافة راشدة على منهاج النبوّة ،دولة الرعاية والكفاية والسؤدد والرضوان الربّاني…