بعد تفجير بركان الرّسوم الكاريكاتورية سنة 2005 وما تلاه من هزّات ارتداديّة على امتداد 15 سنة، ها أنّ الأمّة الإسلاميّة تُطعن مجدّدًا في أقدس مقدّساتها وتُلدغ ـ وهي مؤمنة ـ من نفس الجحر الصّليبي اللّئيم لكن هذه المرّة بأيدي أقذر وأخسّ وأنذل الكائنات (المثليّين): ففي حركة استفزازيّة صفيقة موجعة قام (اتّحاد المثليّين في تركيا) بنشر صور مسيئة للرّسول صلّى الله عليه وسلّم ولأمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها تضافرت فيها نتانة المصدر والمخبر: فقد تجاوزوا بها جميع الخطوط الحمراء إذ جسّدوا في إحداها نبيّنا الأكرم يركب جملا وهو جالس فوق سنامه ـ في إيحاء لا أخلاقيّ يقطر وقاحة ـ والشّرر يتطاير من عينيه وخلفه صبيّة صغيرة خائفة منكسرة تمثّل السيّدة عائشة وقد كُتِب على الصّورة (بيدوفيليا) أي الاستغلال الجنسيّ للأطفال.. وقد أثارت هذه الحركة امتعاضا شديدا في تركيا المتديّنة المحافظة ناهيك وأنّها صادرة عن قاذورات المجتمع الذين ما فتئوا يتطاولون على الإسلام ورسوله الكريم حدّ اتّهامه بأحطّ شكل من أشكال الشّذوذ الجنسيّ.. كما أثارت موجة ساخطة من ردود الأفعال على المستويين الشعبيّ والرّسمي: فقد أطلق ناشطون (هشتاغ) بعنوان (سبّ النبيّ ذنب لا يُغتفر) وصل إلى (التريند الأوّل) مطالبين فيه بوضع حدّ لهذه التّجاوزات في حقّ مقدّسات المسلمين..ورغم أنّها لم تحرّك ساكنا إزاء الإساءات السّابقة لاتّحاد المثليّين وتجاهلتها وعدّتها (ممارسة لحريّة التعبير) فإنّ السّلطات التّركيّة أقدمت هذه المرّة على اعتقال الأعضاء الذين قاموا بنشر تلك الصّور، وقد وصفهم وزير الدّاخليّة (سليمان صويلو) بـ(الحثالة التي أساءت للنبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم) كما علّق وزير العدل (عبد الحميد غل) على الخبر بقوله (لقد حان الوقت لمعاقبة من يسيء لحضرة نبيّنا بالقانون)..وحسبنا فيما يلي أن نحاول فهم هذه الحالة المتقدّمة من الإسلاموفوبيا وهذا الاستهداف الممنهج للرّسول الأكرم وأن نقرأ حادثة الحال قراءة مستنيرة تنزّلها في سياقها السياسيّ وتفسّر هذه المغازلة المفاجئة للمشاعر الإسلاميّة من طرف سلطات تركيا الكماليّة العلمانيّة المحاربة لله ولرسوله وللمسلمين..
(إنّ شانئك هو الأبتر)
إنّ أيّ إنسان يتحلّى بالمستوى الصّفر من النّزاهة لا يملك إلاّ أن يحترم محمّدًا ويُكبره ويُجلّهُ: فتاريخه وسيرته العطرة كفيلان بحمل الأعداء قبل الأصدقاء على ذلك قسرًا، ويجب فعلاً أن يتجرّد الإنسان من إنسانيّته وأن يختزل ما في هذا الكون من الخسّة والنّذالة والحقارة لكي يتعرّض لمحمّد بن عبد الله ـ كشخص أو كرسول ـ بالإساءة.. فقد عاش ـ باعتراف القاصي والدّاني ـ نموذجًا بشريًّا للسّمو والرّفعة والمروءة والرّحمة والعفّة والتّضحية والصّدق والأمانة والعفو والحلم والرّفق والتّواضع..لقد كانت كلّ المؤشّرات تغريه بالكبر والبطر والعجب والتّيه والخُيلاء: فقد بوّأه ربّه مرتبةً لم ينلها قبله ولا بعده مخلوق من البشر أو الملائكة ـ أشرف رسول وأكرم نبيّ وأعظم رئيس لأعرق دولة ـ ولكنّه ظلّ مع ذلك متشرّفًا بكونه (ابن امرأة من قريش تأكل القديد)..كان كما وصفه معاصروه (أشدّ حياءً من العذراء في خدرها)، يجالس الفقراء والمساكين ويعود المرضى ويشيّع الجنائز ويصل الرّحم ويُسلّم على الصّبيان ويمازح العجائز ويكرم الضّيف ويُكسِب المعدوم ويجيب الدّعوة ويرفق بالحيوان والنّبات.. وظلّ وهو في قمّة مجده يُرقّع ثوبه ويخصف نعلهُ ويرعى سائر شؤونه بنفسه، ولم يستنكف وهو الّذي غُفِر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر عن أن يرفع يديه الشّريفتين شاكرًا متواضعًا (اللّهم اجعلني شكورًا واجعلني صبورًا واجعلني في عيني صغيرًا وفي أعين النّاس كبيرًا).. لازمه حِلمُه ومروءته حتّى في أحلك فترات صراعه مع ألدّ أعدائه، ولو قُدّر له اليوم أن يكون بيننا لما أعار تلك الرّسوم أدنى أهمّية ولدعا لأصحابها بالمغفرة والهداية فلم يكن قلبه الكبير ليسع الحقد أو البغض أو الثّأر أو الانتقام، ولم يكن لينحطّ إلى درك تلك السّفاسف أو ليعيب النّاس ويستهزئ بهم ويبهتهم ويتتبّع عوراتهم.. أدّبه ربّه فأحسن تأديبه وأمَرهُ بالتّسامح مع أهل الكتاب والبرّ بهم واحترامهم والرّفق بهم، فعاش حياته حريصًا على الالتزام بذلك الواجب حتّى أنّه ربط ذاته الشّريفة بأهل الذّمة وانتصب بنفسه مدافعًا عنهم (من آذى لي ذمّيا فقد آذنته بالحرب).. وقد لازمه هذا الهاجس وهو يجود بأنفاسه الطّاهرة على فراش الموت، فكان من آخر ما نطق به (احفظوني في ذمّتي).. ما أعظم محمّدا..
مفرد في صيغة الجمع
إنّ التطاول على سيّدنا محمّد عليه الصّلاة والسّلام ليس بدعة ولا سابقة، فقد انطلق ذلك في حياته وتواصل بعد وفاته إلى يوم النّاس هذا، تخبو ناره حينًا وتستعر أحيانًا ولكن لا تبرد ولا تنطفئ، وقد اتّخذ أشكالاً أكثر جرأة ووقاحة واستهتارًا من تلك الرّسوم.. وإنّ أي محاولة لفهم هذا السّلوك المَرَضي العدواني تجاه أشرف المرسلين لا بدّ أن تكون عبر تنزيله في إطاره النّفسي وسياقه السّياسي: فعلى المستوى النّفسي البسيكولوجي فإنّ محمّدًا هو المحرار والمؤشّر الذي يُقاس به مدى تمسّك المسلمين بدينهم وهويّتهم ،فهو يختزل الأمّة في ذاته ويَصهَرُها في شخصه، وإنّ الذين تعمّدوا الإساءة إليه قد بحثوا فيه عن شخص يحقّقون من خلاله إهانة الأمّة الإسلاميّة بأكملها بشكل غاية في الإيلام والإذلال والتحدّي..وقد أصابوا: فمحمّد سُويداء قلب الأمّة وبُؤبؤ عينها وفلذة كبدها، والحمد للّه أنّ هذه الأمّة لم تخذل حبيبها المصطفى وبرهنت فعلاً عن أنّه يسري في دمها ويسكن عظامها ويخالط نخاعها الشّوكي ويتربّع ملِكًا مُتوّجًا على عرش وجدانها بجميع أجناسها وأعراقها وطوائفها وشرائحها وطبقاتها.. فمحمّد بامتياز نقطة التقاطع وكلمة السّر التي ينضوي تحت رايتها الجميع، إنّه باختصار مفرد في صيغة الجمع..لذلك وإبّان أزمة الرّسوم كنت تشتمّ حيثما ولّيت رائحة التّبرّم والامتعاض والاشمئزاز والقرف والغليان الذي ينذر بالانفجار والشعور العميق بالانكسار والإهانة ولا غرابة في ذلك: فمحمّد يتجاوز في المخيال الجمعي للمسلمين الجانب العقائدي المجرّد، فهو يمثّل عِرض الأمّة وشرفها وعزّتها وكرامتها وسُؤددها ورجولتها وإنسانيّتها..محمّد حياة الأمّة والنّسغ الذي يغذّي نسيجها، محمّد هويّة وانتساب وحالة مدنيّة ألسنا نقول (أمّة محمّد)..؟؟ وإنّ المسلمين الذين اشتعلت تحت أقدامهم شوارع أغلب مدن العالم الإسلامي لم يكونوا في حقيقة الأمر يدافعون عن النّبي الكريم بقدر ما كانوا يثأرون لكرامتهم المهدورة وعرضهم المهتوك وشرفهم المدنّس مُجسّدًا في رسولهم الكريم عليه الصّلاة والسّلام: ففي حقيقة الأمر ليس في تلك الرّسوم إهانة لنبيّ الإسلام بقدر ما فيها امتهان للمسلمين واستخفاف بهم كأتباع مهووسين بحبّ هذا النّبي..فأنّى لخطوط مبهمة أو لرسّام مغمور أو لصحيفة صفراء مأجورة أن تنال من خاتم الأنبياء وأشرف المرسلين..؟؟ فمحمّد أعظم من أن تطاله يدُ السّوء أو لسانه، وأجلّ من أن يكون في موقف دفاع أو أن يحتاج إلى من يُدافع عنه فقد تكفّل بذلك الله تعالى ونعم الوكيل (إنّا كفيناك المستهزئين)..
النّسخة المحمّدية
فيما يتعلّق بالسياق السّياسي، فمحمّد عليه الصّلاة والسّلام كان ومازال وسيظلّ محور صراع التّحالف المسيحي اليهودي ضدّ الإسلام: فالإسلام إن كان رُفض يومًا أو عُودِيَ أو حُورِب أو حُرّف فلأنّه بيان محمّدي لدنيّ معصوم لشرع الله ليس فيه ثغرة ولا منفذ يتسلّل عبره هوى الإنسان ونزواته الشّخصيّة ومصالحه الدّنياويّة.. فالقناة الشّرعيّة الوحيدة التي ارتضاها الله تعالى لتمرير رحمته إلى العالمين هي محمّد (وما آتاكم الرّسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)..والجهة الوحيدة المخوّلة شرعًا بتوضيح وبيان القرآن الكريم وترجمة أحكامه عمليًّا على أرض الواقع هي محمّد (وأنزلنا إليك الذّكر لتبيّن للنّاس ما نُزّل إليهم)..فالغرب بوجهه الرّأسمالي البراغماتي النّفعي ليس له مُشكلة مع أيّ دين أو مذهب ما لم تمثّل خطرًا على مصالحه، بل قد ينتعش في ظلّها وتوفّر له ظروفًا مُلائمة لنهب خيرات الشّعوب الواقعة تحت تخدير الهرطقات والبِدع والتّحكم في مصائرها..
أمّا الدّين الوحيد الذي يمثّل مشكلة حقيقيّة للغرب الاستعماري الرّأسمالي فهو الإسلام في صيغته السُنّية تحديدًا لأنّ المذهب السنّي يمثّل النّسخة الصّافية النّقية للإسلام التي لا تشوبها بدعة ولا تُكدّرها هرطقة، والتّرجمة المحمّدية للإسلام التي استحال على الغرب تطويعها أو توظيفها أو استغلالها، بما أنّها تتّسم بالوضوح والصّفاء والنّقاء والوفاء للوحي، والغرب يبحث عن الميوعة والغموض والضّبابيّة التي تفتح أمامه أبواب المناورة والاحتواء على مصراعيها..فمشكلة الغرب ليست مع الإسلام وإنّما مع محمّد صلّى الله عليه وسلّم أي مع النّسخة المحمّدية للإسلام: الإسلام على المذهب السّني..على أنّ مسألة الرّسوم المسيئة لا تخلو أيضا من جانب التّوظيف السّياسي: فمن الواضح أنّها كانت منذ انطلاقها سنة 2005 مفتعلة وراءها أطراف تمسك بخيوطها وتنفخ في كيرها لتحريك الشّعوب الإسلاميّة واستدراجهم نحو أعمال من شأنها أن تُستغلّ سياسيًّا..والسّؤال الذي تطرحه حادثة الحال هو: ما سبب إقدام اتّحاد المثليّين على خطوتهم الاستفزازيّة تلك وفي هذه الظرفيّة السياسيّة بالذّات..؟؟ ثمّ ما الذي جعل السّلطات التركيّة العلمانيّة الكماليّة المحاربة لله ورسوله ولأيّ نفس إسلاميّ داخل تركيا وخارجها تتّخذ هكذا موقف (متشدّد) من الرّسوم وناشريها ولحساب من..؟؟
التّوظيف السياسيّ
ممّا لا شكّ فيه أنّ النّظام التّركي الحاليّ بوجهه الرّأسمالي الإسلامويّ الأردوغانيّ هو صناعة غربيّة استعماريّة صرفة الغرض منها خلق نموذج عمليّ تقدّمي للإسلام السياسيّ الديمقراطيّ يستنسخ ويُحتذى به في العالم الإسلاميّ تصرف به أذهان المسلمين عن مشروع الخلافة الإسلاميّة ثمّ تسوّقه كلاعب سياسيّ مهمّ على أساس الإسلام وتسند له أدوارا سياسيّة وعسكريّة واقتصاديّة خطيرة خدمة للمشاريع الاستعماريّة.. وليتسنّى ذلك للاستعمار لا مفرّ من النّفخ في صورة النّظام وإخراجه مخرج المعجزة الاقتصاديّة والقوّة العسكريّة والرّيادة العلميّة التّكنولوجيّة الصناعيّة، ولا مفرّ أيضا من أن يخلع على (قائد مسيرته المظفّرة) ألقاب البطولة ونياشين الشّجاعة وأن يجعل منه (حامي الحمى والدّين) لتغذية غريزتي البقاء والتديّن في المخيال الشّعبي للأمّة الإسلاميّة حتّى تسلس قيادها له فيتمكّن من إنجاز المهامّ الاستعماريّة القذرة في خداع الأمّة وتضليلها وتثبيط هممها واحتواء المخلصين فيها وحرف تحرّكاتها الرّاشدة ومنعها من الانعتاق من ربقة جلاّديها.. وقد نجح الكافر المستعمر أيّما نجاح في ترسيخ الوهم التّركي في أذهان سواد المسلمين وجعلهم يتعلّقون بحباله البائدة، كما نجح في توظيف ذلك الوهم لاحتواء الفصائل الإسلاميّة المقاتلة في سوريا وفكّ الحصار المضروب على نظام الأسد، وها أنّه يحاول استنساخ نفس الدّور في ليبيا ولحساب أمريكا أيضا.. غير أنّ رصيد الشعبيّة للنّظام التّركي وقائده الذي يمكّنه من تخدير الأمّة ما فتئ يتآكل يوما بعد يوم ومغامرة سياسيّة إثر أخرى بحيث تبيّن لكلّ من له أدنى فراسة وحسّ سياسيّ أنّ أردوغان يبيع الأوهام للأمّة ويخدعها ويضلّلها ويكرّس عمليّا ميدانيّا أضداد ما يصرّح به ويسوّق له بما يفضي إلى فقدانه لرأسماله السياسيّ.. لذلك لا مفرّ من تغذية هذا الوهم الإسلامويّ والنّفخ في كيره وتزويده بجرعة أوكسيجين في أذهان البقيّة الباقية من المنخدعين به عبر بعض المناورات الشّكليّة التي تدغدغ النّاحية الرّوحية للأمّة وتشبع فيها غريزة التديّن دون أن تغيّر من واقعها السياسيّ المتردّي شيئا، على غرار مسرحيّة تحويل (آيا صوفيا) إلى مسجد التي خلعت على أردوغان لقب (النّاصر).. في هذا السّياق بالذّات تتنزّل مسألة الرّسوم المسيئة: إبراز النّظام التّركي ورئيسه في ثوب المدافعين عن الرّسول الأكرم ومقدّسات المسلمين حتّى تتمكّن تركيا من الاضطلاع بدورها الخطير في العالم الإسلاميّ وإنجاز المهامّ الاستعماريّة بالوكالة بنجاعة وحرفيّة..