في تسمية الثورات وحرص المستعمر على تجزئة بلاد المسلمين

في تسمية الثورات وحرص المستعمر على تجزئة بلاد المسلمين

يتحدّث الكثيرون عن ثورات بصيغة الجمع وينسبونها إلى مناطقها فيقولون “الثورة التونسيّة” والثورة المصريّة والثورة الليبيّة والثورة السوريّة وهكذا…، ويردّد السياسيّون وكثير من المثقّفين الحديث عن التجربة التونسيّة وأنّها فريدة من نوعها من بين دول الربيع العربي زاعمين أنّها نجحت بينما فشلت باقي الثورات، ونجد أنّ أغلب المسؤولين الغربيين يتحدّثون عن التجربة التونسيّة وفرادتها ولا ينفكّون عن دعمها. وصارت هذه النّظرة للثورة في تونس وفي غيرها من البلدان رأيا عامّا بين الطّبقة السياسيّة الحاكمة (سواء في ذلك أحزاب الحكم أو المعارضة) يؤيّدهم جماعة العلمانيين ومن سايرهم ممّن يزعمون الصّفة الإسلاميّة.

ونحن نقول أنّ هذه النّظرة التجزيئيّة الممجّدة للتّجربة التّونسيّة إنّما تنخرط بوعي أو بدون وعي في نظرة مضادّة للثورة مساندة للنّظرة الاستعماريّة لبلادنا وسائر بلاد المسلمين، وذلك من وجوه عديدة لعلّ أخطرها

اعتبار الأمّة الإسلاميّة أجزاء منفصلة كلّ جزء كيان قائم بذاته فمنها الكيان التونسي والليبي والجزائري والسوري والمصري واليمني ,,,, إنّما هي نظرة استعماريّة، فقد عملت الدّول الأوروبيّة منذ القرن 19 الميلادي في إطار تعاملها مع ما سمّته وقتها “المسألة الشّرقيّة” على تفتيت بلاد المسلمين وتفريق الأمّة وتقاسم تركة الخلافة العثمانيّة (الرجل المريض). بعد حروب طويلة متعددة الأشكال والأساليب، استمرت أكثر من قرن من الزمان، اجتمعت  دول الكفر على هدم دولة الخلافة، ثمّ عملت هذه الدول الاستعمارية وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا على ضمان عدم وحدة الأمّة الإسلاميّة وعدم عودة دولة الإسلام  مرة أخرى فوضعت خطة تقوم على ثلاثة ركائز:

الاستعمار العسكري، وتفتيت بلاد المسلمين 52 قطعة

زرع العملاء السياسيّين والفكريين

الغزو الفكري والثّقافي.

وعلى هذا فكلّ اعتبار للمسلمين بأنّهم كيانات مختلفة مستقلّ بعضها عن بعض إنّما هو مساندة للمستعمر ودعم له سواء كان هذا بوعي أو بغير وعي. ويتأكّد هذا الأمر حين نعود بالنّظر إلى التاريخ القريب تاريخ مجاهدة الاستعمار العسكري فقد جاهد المسلمون في العراق وفلسطين وباكستان وأفغانستان ومصر وتونس وليبيا والجزائر… وكلّ مسلم وقعت بلاده تحت استعمار عسكريّ، ولكنّ المستعمر الذي أدرك أنّ بقاءه في بلاد المسلمين مستحيل عملوا بمكر وخبث على اتّخاذ عملاء لهم من المسلمين ثقّفوهم بالثقافة الغربيّة ثمّ زرعوهم في صفوف المجاهدين لصرف جهاد المجاهدين وقتها عن التحرّر من الاستعمار والوحدة في إطار دولة جامعة هي دولة الخلافة، وكان تركيز ما يُسمّى بحركات التّحرّر الوطني وقتها على إخراج جنود المحتليّن ونادوا بمقولات وطنيّة من قبيل “تونس أوّلا” ومصر أوّلا… وكانوا يغطّون هذه المقولات التجزيئيّة بكلام من قبيل “ندعم إخواننا في الجزائر” “ندعم إخواننا في فلسطين” وهي مقولات خبيثة ظاهرها الوقوف بجانب الثورة على المستعمر وإخراجه من البلاد الإسلاميّة وحقيقتها تحقيق أهداف الدّول الاستعماريّة من إبقاء البلاد الإسلاميّة كيانات متفرّقة ضعيفة، وبعد أن استحكمت هذه المقولات في غمرة الكفاح المسلّح ونشوة طرد جنود المستعمر من بلاد المسلمين في المغرب وتونس ومصر والشّام والجزائر وغيرها، في غمرة هذه النشوة وفي غفلة من الجميع اعتلى العملاء سدّة الحكم وأسكتوا كلّ صوت ينادي بالوحدة، (وحتّى من كان ينادي بالوحدة منهم كان يعمل لها بشكل خاطئ وغير جدّيّ حتّى يئس منها النّاس وانتشرت مقولة اتّفق العرب على أن لا يتّفقوا) وبدل أن يعود وضع المسلمين إلى أصله من وحدة في إطار دولة واحدة قويّة هي دولة الخلافة بدل ذلك صار المسلمون كيانات ضعيفة متنافرة متنازعة في أغلب الأحيان وانتهى الأمر بالثورة على المستعمر إلى هزيمة نكراء حقّقت أهداف الكفّار المستعمرين المتمثّلة في إزالة الإسلام من الحكم وتفتيت الأمّة الإسلاميّة حتّى لا تعود قويّة تنافسها في الموقف الدّولي.
والمتمعّن في مسار الثّورة الأولى على المستعمر في نهاية القرن 19 وبداية القرن ال20 يرى أنّ الكفّار المستعمرين ما كان لهم أن يُحقّقوا أهدافهم بالآلة العسكريّة وبإمكانيّاتهم إنّما استطاعوا تحقيق أهدافهم وهزم المسلمين (وقتيّا) بواسطة اتّخاذ عملاء من المسلمين وثق فيهم المسلمون (لأنّهم اندسّوا في صفوف الثوار وأظهروا في البداية عداوة للمستعمر) ثمّ ما لبث هؤلاء العملاء أن أخضعوا البلاد سياسيّا واقتصاديّا للمستعمر بذرائع واهية من قبيل إعادة بناء العلاقات مع الدّول الأوروبيّة وأنّه لا غناء للمسلمين عن الدّول الأوروبيّة “المتقدّمة” وصاغوا أهدافا جديدة أوّلها العمل على اللّحاق بركب الدّول المتقدّمة ومن هذه الأبواب الخلفيّة وقع إخضاع كلّ البلاد الإسلاميّة للكفّار المستعمرين. وساء حال المسلمين حتّى صاروا في ذيل الأمم,

وعود على بدء، فما أشبه اليوم بالبارحة، ثار المسلمون على العملاء في تونس ثمّ مصر فليبيا فالشّام واليمن… واستطاعت الشعوب في هذه البلدان طرد العملاء الظّاهرين لكنّها لم تتخلّص من كلّ العملاء والخونة ولم تستطع التّخلّص من النّظام الدّخيل النّظام الرأسمالي لأنّ الفئة السياسيّة الحاكمة اليوم ظلّت تردّد نفس المقولات القديمة وبنفس الاعتبارات القديمة، ظلّ جميعهم ينظر النّظرة التجزيئيّة فيعتبرون تونس كيانا مستقلّا عن بقيّة بلاد الإسلام وكذلك مصر والشّام واليمن والجزائر والمغرب… وهي ذات النّظرة التي كرّستها الدّول الاستعماريّة منذ القرن 19 لتبقى الأمّة مفتّتة مزقا ضعيفة واهنة وبناء على هذه النّظرة الضّيّقة رُسمت أهداف من قبيل العمل على التنمية وتوفير الغذاء للجميع فكأنّ المسلمين جياع وكأنّ أرضهم صحراء بلقع لا ثروات فيها فجعلونا عبيدا فقراء ينتظرون حسنات من صندوق النّقد الدّولي ونظرة رأفة من الدّول الغربيّة ويباهي السياسيّون بعلاقاتهم الجيّدة بما يسمّونه المجتمع الدّولي وبقدرتهم على التّفاوض وجعل الدّوائر الغربيّة ترضى عنّا وتساعدنا، وهكذا يريدون تحويل الثورة من فعل يقلع بقايا الاستعمار ويحرّر البلاد نهائيّا من سيطرته إلى مجرّد فعل عنيف أزال عميلا ليحلّ محلّه مجموعة من العملاء يتسابقون في رهن البلاد.

لكنّنا نقول بأنّ الزمان غير الزّمان وأنّ القرن 19 وبداية القرن ال20 ولّت وأنّ المسلمين اليوم ما عادوا ينخدعون بأشباه السياسيين وما عادوا يرضون بديمقراطيّة عاجزة يتسلّل من خلالها نظام فرضه المستعمر، فالمتابع لمجريات الأحداث في بلاد المسلمين ليرى أنّ الثورة كانت ثورة أمّة لا ثورة تونسيين أو مصريين أو يمنيين إنّما هي ثورة أمّة واحدة خرجت كلّها على ظلم العملاء وعلى فساد الأنظمة الغربيّة وما زالت الثورة متواصلة وآية ذلك أنّ المسلمين كلّ المسلمين لم يضعوا ثقتهم في الطّبقة السياسيّة الحاكمة بعد الثورة بل هي تعتبرها مواصلة لمن ثاروا عليهم ولذلك نرى الاحتجاجات اليوميّة في كلّ البلاد التي قامت فيها الثورة وفي غيرها التي تستعدّ هي الأخرى للثّورة، أمّا الأمر الثاني الذي يجعل الثورة ثورة أمّة واحدة هي أنّ كلّ المسلمين رفعوا شعارا واحدا هو أنّ الشعب يريد إسقاط النّظام وعلت أصوات تنادي بتطبيق الإسلام وسمعناها تتردّد في كلّ بلاد المسلمين الأمّة تريد خلافة من جديد… ومع رفع المسلمين في كلّ بلاد الإسلام لنفس الشّعارات نجد أنّهم كلّهم رفضوا الدّيمقراطيّة عمليّا برفضهم المتصاعد للانتخابات والدليل على ذلك نسب المشاركة المتدنّية.

وختاما نقول: أنّ الثورة في تونس هي جزء من ثورة أمّة وأنّ ما حصل في تونس ومصر والشّام وغيرها ما هو إلا بداية ومنطلق لتحرّر أمّة من الكافر المستعمر الذي فشل في الانتصار عليها لأنّ المسلمين تمكنوا (رغم تطاول الزمن) من إفشال كلّ الأساليب الخبيثة في محو هويّتهم الإسلاميّة. ولم يبق إلا جولة واحدة ينهض فيها أهل القوّة ليساندوا الثوّار ويهدموا النّظام الذي سيطر به علينا الكافر المستعمر وهذه الإزالة هي إزالة لنظام رأسمالي وضعي بإزالة خدمه وعبيده ورفع غطاء الحماية عنهم لأنّهم خانوا الأمانة والوقوف بجانب أمّتهم ودينهم بدعم القيادة السياسيّة الحقيقيّة التي ترى السياسة عبادة لربّ العالمين ورعاية لشؤون العباد بأحكام ربّ العالمين ومواصلة لرسالة نبيّ الإسلام محمّد صلّى الله عليه وسلّم.

محمد الناصر شويخة

CATEGORIES
TAGS
Share This