حدّث أبو ذرّ التونسيّ قال : مجدّدا كان للشعب التونسيّ يوم 13 أوت المنصرم موعد حاسم مع زلّة أخرى من زلاّت (شيخ الرؤساء) تنضاف إلى سجلّ لسانه الحافل بالسقطات (تزوير انتخابات بورقيبة ـ وصف الأمنيّين بالقردة ـ المسؤول الكبير…) فإزاء الصفعة المهينة التي تلقتها لجنة الحريّات الفرديّة والمساواة والرفض الجماهيريّ الكاسح لما جاء في تقريرها والحرب الشعواء التي شُنّت عليها وعليه في العالمين الواقعيّ والافتراضيّ ،لم يتمالك سي الباجي أعصابه ـ بوصفه باعث اللجنة وصاحب مشروعها ـ فخرج عن هيبته المفترضة وتجشّأ في وجوه (12) مليون تونسيّ بما يُحمَل ـ منطوقا ومفهوما ـ على الكفر البواح الصراح ،في جريمة نكراء قصمت ظهر البعير التونسيّ الأصيل وأفاضت كأس صاحبه المسلم الأبيّ…وإحقاقا للحقّ فإنّ الستّار جلّ جلاله أبى إلاّ أن يهتك له ستره ويكشفه على حقيقته أمام القلّة التي توسّمت فيه خيرا ،فأخرج أضغانه وأنطقه على عين الملأ بما اجتهد في إخفائه عن شعبه وناخبيه ولم يُبده إلاّ (للمسؤولين الكبار) ولدائرة مُضيّقة من وزرائه وأعضاء حزبه…فاتّضح للجميع بما لا يدع مجالا للشكّ موقف رئيسهم المُوقّر من الإسلام ـ عقيدة وشريعة وكتابا ونبيّا ـ (لئلاّ يكون للناس على الله حجّة بعد الرسل) وانهار تحت أقدامهم الفصل الأوّل من الدستور الذي لطالما تشبّثوا بتلابيبه واطمأنّوا إليه وعلّقوا عليه هُويّة البلاد الإسلاميّة ،إذا به ـ تنظيرا وتطبيقا ـ قاعدة وصفيّة حقيقة لا قاعدة حكميّة…
تصريحات صادمة
ورغم أنّ سجلّ (إنجازاته) قد طفح كيله بالجراءة على الله ورسوله وشرائعه (التأشير لجمعيّة شمس للمثليين ـ تخفيف العقوبات على استهلاك المخدّرات ـ إحداث لجنة الحريّات الفرديّة والمساواة…) إلاّ أنّ سي الباجي أصرّ (إلحاحا) على أن يُوشِّح (بَلْمَارَاسَهُ) بسابقة خطيرة لم يجرؤ عليها من حكّام المسلمين (عدا القذّافي) إلاّ اليهوديّ الماسونيّ عميل بريطانيا وهادم دولة الإسلام (أتاتورك) : الاستهزاء بالقرآن الكريم والسنّة المُشرّفة والمجاهرة بالإعراض عنهما على أعيُن النّاس في تطاول صفيق على عقيدة التونسيّين واستخفاف بمشاعرهم الإسلاميّة يلامس حدود الاستهانة (واللهمّ إنّا نسألك حسن الخاتمة)…لقد بدا السبسي في خطابه يوم 13 أوت المنصرم مَوْتُورا متحاملا (منبوزا) مُحْرَجا أمام (المسؤولين الكبار) مدفوعا بحقد إيديولوجيّ أعمى وهوس سياسيّ أصمّ (لإصلاح ما أفسده الشعب المسلم) من أمر لجنته ومشروعها…لذلك فقد (جاب ملْخِّر) وأعلنها صراحة وجهارا بنبرة استهزاء وتحدّ وبمنطق (اشرب ولاّ طيّر قرنك) أنّه لا عبرة بالقرآن والسنّة في التشريع وأنّ دستور 2014 أعلى من كتاب الله وسُنّة رسوله وأنّ تونس دولة مدنيّة لا دولة دينيّة ،أي أنّها لا تعتمد الإسلام ـ لا في كليّته ولا في جُزئيّته ـ في تسيير دواليبها ورعاية شُؤون منظوريها… وحتّى لا نُتّهم بالتقوّل على رئيسنا والإغراق في (نظريّة المؤامرة) نورد ما جاء على لسانه حرفيّا (تكستو) : فقد علّق (ما عنّاش علاقة بِحْكايةْ الدّين ولا بِحْكايةْ القرآن ولا بحْكايةْ الآيات القرآنيّة) وأوضح (تونس دولة مدنيّة لا علاقة لها بالدّين والدستور هو الأعلى) ثمّ استطرد على موقف حركة النهضة (القول بأنّ مرجعيّة الدولة التونسيّة مرجعيّة دينيّة هذا خطأ وخطأ فاحش)…وهي تصريحات صادمة للرأي العام التونسيّ خادشة لمشاعره الإسلاميّة لا يجرؤ على مثلها رئيس لشعب مسلم ،ولكنّها مع ذلك سياسيّة بامتياز في علاقة جدليّة بالمشروع الاستعماريّ المستهدف لهويّة البلاد…
في ميزان الشّرع
وقبل فكّ شفرة الرسالة السياسيّة التي جاءت في تلافيف خطاب السبسي نتولّى ابتداء محاكمة تصريحاته تلك من زاوية العقيدة الإسلاميّة عقيدة سواد التونسيين حتى نتمكّن من تحديد العلاقة المستقبليّة المفترضة بين الطرفين الحاكم والمحكوم : فما حكم هذه التصريحات الصادمة من وجهة نظر الإسلام..؟؟ وما هو التوصيف الشرعيّ للمصرِّح بها..؟؟ وهل لها تبعات سياسيّة على منصبه وصلاحيّاته بوصفه رئيسا لشعب مسلم..؟؟ إنّ المتمعّن في العيّنات التي ذُكِرت من خطاب السبسي يكتشف دون عناء أنّها تمحورت حول ثلاث نقاط أساسيّة (الاستهزاء بكتاب الله وسنّة رسوله ـ إنكار كونهما وحيا من الله واجب الاتباع ـ المجاهرة بالإعراض عنهما بوصفهما مصدرَيْ تشريع) وهي ثلاثتها مداخل للشيطان ومخارج من الملّة المحمّديّة تنحطّ بمقترفيها ـ فُرادى أو مُجتمعة ـ إلى مدارك التصريح بكلمة الكفر البواح الصُّراح…فالله سبحانه وتعالى عدّ المُستهزئين بآياته ورسله كفّارا وتوعّدهم بجهنّم وبئس المصير حيث قال في محكم تنزيله (ذلك جزاؤهم جهنّم بما كفروا واتّخذوا آياتي ورُسُلي هُزُؤا) ـ الكهف 106 ـ بل إنّه جلّ وعلا كفّر حتّى من يقومون بذلك على سبيل العبث واللهو دونما اعتقاد، وشنّع عليهم ولم يقبل أعذارهم كما جاء في الآيات (64/65/66) من سورة التوبة (ولئن سألتهم ليقولُنّ إنّما كنّا نخوض ونلعب ،قل أبِالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون ،لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم)…وغنيّ عن الذكر أنّه يجب الاعتقاد في الكتاب والسنّة بوصفهما نصّين شرعييّن مُنزّلين من عند الله : فالقرآن الكريم والسنّة المُشرّفة وحي من الله بصريح الآيات ،قال تعالى (وأوحِي إليّ هذا القرآنُ لأنذِرَكم به ومن بلغ) وقال (وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى)…ويترتّب عن ذلك أنّ مُنكر القرآن أو مُنكر السنّة كافر بالإجماع لمُخالفته للمُحكم والقطعيّ ولكون العقيدة الإسلاميّة تقتضي الإيمان بجميع الكتب السماويّة بما فيها القرآن الكريم ،كما تقتضي أيضا الإيمان بجميع الرسل بمن فيهم محمد صلّى الله عليه وسلّم…ولا خلاف في وجوب اتّباع الكتاب والسنّة بوصفهما مصدريْ تشريع ،قال تعالى (وأن اُحكم بينهم بما أنزل الله) وقال (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) ،وقد عدّ الله المُعرِض عن القرآن والسنّة كافرا بصريح النصّ ،قال تعالى (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) كما علّق الإيمان بالتحاكم إليهما قال تعالى (فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يُحكِّموك فيما شجر بينهم) وتوعّد المخالفين بالويل والثبور،قال جلّ وعلا (فليحذر الذين يُخالفون عن أمره أن تُصيبهم فتنة أو يُصيبهم عذاب أليم)…
تبعات التصريح بالكفر
هذا هو المناط الشرعيّ لما جاء في خطاب 13 أوت من تصريحات صادمة وقد أسفر تحقيقه عن الآتي : فسي الباجي استهزأ بكتاب الله وسنّة نبيّه واستخفّ بهما وأنكر كونهما وحيا من الله واجب الاتباع ،كما أقرّ ـ تصريحا واعتقادا لا تلميحا وظنّا ـ بأنّ العقيدة الإسلاميّة لا تصلح للحكم والتشريع وبوجوب فصل الدّين عن الحياة والاحتكام إلى العقيدة الرأسماليّة الدّيمقراطيّة ،وفي كلّ هذا ما فيه من إعراض قبيح عن الكتاب والسنّة وحرب شعواء على الله ورسوله وكفر بواح مضاعف ظلمات بعضها فوق بعض… وباعتباره رئيسا للشعب التونسيّ المسلم الأبيّ ،ما هي التبعات السياسيّة المترتّبة عن طارئ الكفر الذي ألمّ به فيما يتعلّق بمنصبه وطاعته وصلاحيّاته في الحكم..؟؟ إنّه مع علمنا بأنّ السبسي يحكم بغير ما أنزل الله ويحارب الثقافة الإسلاميّة ويُكرِّس الثقافة الغربيّة على حسابها ويُمكِّن للكافر المستعمر في البلاد ـ أرضا وشعبا ومٌقدِّرات ـ إلاّ أنّنا مع ذلك كنّا نتوسّم فيه خيرا ونُلزِمه بتصريحاته التضليليّة ونعدّه مسلما مضبوعا بالثقافة الغربيّة عن جهل وانبهار لا عن اعتقاد وتبنّ…أما وقد بان كفره واستهتاره بالشرائع والمقدّسات الإسلاميّة لذي عينين فإنّ رئاسته تصبح في حكم اللاّغية لقوله تعالى (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا)…فلو حصل ذلك من الخليفة في ظلّ الدولة الإسلاميّة لفقد شرطا من شروط الانعقاد (الإسلام) ولفقد أهلية الحكم وصلاحيّاته وواجب الطاعة ولأصبح مُستحقّا للعزل ولما جاز له شرعا الاستمرار في منصب الخلافة…كما أنّ تطبيق أحكام الكفر يوجب على الأمّة الإسلاميّة شقّ عصا الطاعة في وجه الخليفة والخروج عليه بحدّ السيف كما جاء في حديث عُبادة بن الصّامت (بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم على السمع والطّاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله إلاّ أن تروا كفرا بواحا عندكم فيه من الله برهان)…هذا في ظلّ دولة إسلاميّة تحكم بما أنزل الله فما بالك بواقع الملك الجبريّ والدويلات الكرتونيّة التابعة العميلة : فما أقدم عليه السبسي يُؤكّد كوننا في حلّ منه ومن حكمه وممّا يمثّله من تبعيّة وتحاكم للطّاغوت وارتهان للكافر المستعمر…
بيان سياسيّ
إنّ تصريحات السبسي ـ رغم ما تحتويه من جرأة على الله ورسوله ـ أبعد ما تكون عن ردود الفعل الغريزيّة المنفلتة ،بل هي خطاب سياسيّ خبيث وماكر يجب أن يُقرأ قراءة سياسيّة تُنزّله في سيرورته التاريخيّة المتعلّقة (بالمحطّات الإصلاحيّة الكبرى)، وظرفيّته المحليّة المتمثّلة في تعطّل مشروع لجنة الحريّات الفرديّة والمساواة ،وسياقه الدوليّ المرتبط بقرارات البرلمان الأوروبيّ لسنة 2016 وتوصيّات المؤتمر العالميّ لحقوق الإنسان في دورتيه الأخيرتين ،وهو سياق يلحّ على تكريس المساواة بين الجنسين وملاءمة التشاريع التونسيّة مع مقتضيات دستور 2014 …وبصرف النظر عن التجاذبات الانتخابيّة ومحاولة سي الباجي الضغط على النهضة وتهديدها بفضح موقفها (السريّ) من مشروع اللجنة لتوريطها مع قواعدها وناخبيها ،فإنّ تصريحات السبسي ـ شكلا ومضمونا وتوقيتا ـ مدروسة بدقّة بحيث أنّ كلماتها منتقاة وموزونة ومقصودة بكلّ ما تحيل عليه من شحنة دلاليّة (استهزاء ـ استخفاف ـ تحدّي…) وتعبيريّة (نبرة الصوت ـ سحنة الوجه وتقاسيمه ـ حركات اليدين…) إنّها عبارة عن بيان سياسيّ صريح متحدّ متغطرس واضح غير مُشفّر (بالفلاّقي) يقطع نهائيّا مع غطاء الشرع الشفّاف والاجتهاد والمقاصد التي كانت معتمدة للتضليل ،ويُقرّ رسميّا بانسلاخ تونس كليّا عن الإسلام وقطع ما بقي من روابطها به ـ تنظيرا وممارسة ـ وتنقية تشاريعها ممّا علق بها من رائحة الإسلام وإتمام (المهمّة الاستعماريّة المقدّسة) التي استهلّتها فرنسا (زراعة البذور) وأخذ عنها المشعل بورقيبة (رعاية الأجنّة) ودعّمها بن علي (حضانة المواليد) وها هو السبسي يحظى بشرف تتويجها ـ وقد استوت على سوقها تعجب الزرّاع ـ قبل أن يفرضها على الجميع بقوّة التموقع في السلطة ومساندة (الدول الصديقة) أحبّ من أحبّ وكره من كره…فالمرحلة السياسيّة هي بامتياز مرحلة قطف الثمار ،فجزء كبير من الشعب التونسيّ حسب التقديرات الاستعماريّة قد ارتقى إلى (مستوى متقدم من النضج) يؤهّله للتخلّي عن الإسلام وتقبّل هذه (الثورة التشريعيّة)…وهي مرحلة من الدقّة والحساسيّة بحيث أنّ التنكبّ عن خوضها بالكيفيّة المطلوبة يعني عمليّا انتعاش مضادّاتها الحيويّة (المشروع الإسلاميّ) وفساد الثمار على رؤوس أشجارها وانخرام دورة كاملة من التغريب والتصحير الثقافيّ وبروز فراغات لا يمكن أن يملأها إلاّ الإسلام والدولة الإسلاميّة…