تؤكد الأيام في تتابعها والأحداث في تعاقبها على بلادنا ومنذ أن وقع الالتفاف على مسار الثورة في تونس بالحديث عن مجلس تأسيسي منذ أيامها الأولى, وخاصة منذ أن وقع إصدار دستور سنة 2014، تأكد أن لا علاقة للوسط السياسي المتسلط على رقاب الناس بالثورة ولا بالثائرين, ولا هو معبر عن إرادة الناس في التغيير الجذري لواقعهم الأليم بإسقاط النظام بل إن هذا الوسط السياسي لم يقدر على فهم الحقائق الثورية ولم يستوعب متطلباتها ولا حتى استشعر الأفق الذي يرنو إليه الناس, وظن أن مجرد الخوض في الصراعات الدونكشوتية على المواقع والمناصب، أو تكرار الحديث عن الأزمات التي لا تكاد تقف عند حد أو إعادة الأقوال الممجوجة عن ضرورة محاربة الفساد وضرورة فك طلسم البطالة كاف ليجعل منهم ساسة أو أن يرتقي بهم إلى مصاف رجال الدولة.
أنى لهذا الوسط السياسي أن ينبغ فيه رجل دولة إذا كان رأس النظام فيه لا يرى في احتلال البلد الذي يحكمه لأكثر من سبعة عقود إلا مجرد حماية أنعم بها المحتل على أهلها. فهو لم يشعر بالإهانة والذل من وقع بسطار الجندي الفرنسي على رقبة أبيه وجده أو تدنيسه للأرض الطاهرة، ولا عجب أيضا أن لا يرى وزير خارجية إحدى حكومات ما بعد الثورة في فعل الاستعمار الفرنسي في أبناء البلد إلا كسعي الأم في تأديب أبنائها.
أليست العقلية التي يتعامى بها هذا الوسط السياسي عن سلوك سفراء الدول الاستعمارية الكافرة في بلدنا، أو تعاميه عن استيلاء شركات الاحتكار العالمية على مصادر الطاقة في بلادنا واستنزاف مقدراتها، واعتبار ذلك أمرا مشروعا، بل وتسخر، دستورا وقانونا، ودون خجل قوى البلاد الحاملة للسلاح لحماية عمليات النهب تلك، وهي نفس العقلية التي تسعى إلى شرعنة استحواذ القروش المفترسة على ما تبقى من مصادر رزق أهلنا، وذلك بالعمل على انهيار القطاعات والشركات المنتجة ومن ثم بيعها تحت عنوان الاضطرار والحكمة والنجاعة الاقتصادية.
عقلية الوسط السياسي التي تخوض اليوم في شان الناس العام هي سليلة عقلية “المجاهد الأكبر” التي تجرأت وأغلقت جامع الزيتونة فجففت بذلك النبع الدافق لمفاهيم الحضارة الإسلامية ولتلقي بأبناء المسلمين في أتون وجحيم مفاهيم وأفكار الحضارة الغربية الكافرة, تلك العقلية التي جاهرت بالعداء للأحكام الشرعية والسخرية منها في حين أنها لا ترى في احتلال فرنسا الكافرة لبلاد المسلمين كبير حرج فهي “موجودة هنا لتساعدنا وأنه طيلة حياته لم يكرهها، بل على العكس تعلم عبر مناهجها وليس له عقد في قول ذلك”.
هي سليلة تلك العقلية التي طالما كان سقف آمالها ومنتهى مطالبها وهي تتعايش مع المستعمر تحسين ظروف عيش التونسي بتحقيق بعض المطالب الجزئية كحق أهل البلاد في برلمان، تحت السلطة الاستعمارية، وذلك بدفع الناس للمناداة ببرلمان تونسي لحرفهم عن أن أصل القضية استعمار لا مجرد حقوق، أو كالمطالبة بزيادة عدد أعضاء البلديات من أهل البلاد أو أن يكون لنا الحق في ممثلين عن العمال من أبناء البلد من المسلمين في النقابات العمالية. في حين تسمي تلك العقلية من نادى بإخراج المستعمر وجنوده وقلع نفوذه ونادى بالجهاد في سبيل الله تحت نداء “الله أكبر” بـ ”الفلاّقة” للازراء بهم، حد القضاء على من أبى تسليم سلاحه وأصر على مواصلة الجهاد حتى دحر المحتل كلية. أو تجميع الشرفاء للقضاء فيما سمي حينها بمعركة التحرير في مدينة بنزرت. إذ هي سليلة العقلية التي قبلت أن تمضي وثيقة الاستسلام ذات 12 ماي 1881 على أن تتحمل تبعة اتخاذ قرار التصدي للعدو المقتحم عليها بلدها حفاظا على شرف الكرسي والمقام، وعدم نيل شرف قيادة الرجال المنتظرين إشارة مجاهدة العدو الصائل.
في الحقيقة هي عقلية تستمد جذورها من وهن دب في نفوس أعطت من ذاتها عهد أمان لعدو يتطلع لغزو البلاد بأن مكن من غرز مخالبه في جسم الأمة وأعطي الامتيازات التشريعية فنال بذلك حقه في عدم خضوع أبنائه الوافدين علينا للإقامة أو التجارة، للقوانين الجاري بها العمل في البلاد.
هذه هي العقلية التي قبلت أن يملى عليها -في اللحظة التي كان الناس يسعون إلى التغيير الجذري-، دستورا سُنَ في لحظة دفع الناس فيها من دمائهم الزكية مهرا لحلم سام، فأجهضته، وفرضا زكيا عطلته، بل ثبَتت فكر العدو فينا وجذَرت سلطان حضارته علينا ووسعت الهوة بيننا وبين الرجاء في عيش هنيء ومعقد قيادة البشرية إلى الخير الذي ارتضاه لنا ربنا سبحانه وتعالى.
تلك العقلية التي عالجت، بزعمها، استبداد بن علي بالنظام البرلماني، والذي عد حين تبنيه نصرا تحقق للثورة والثائرين ولكن سرعان ما بحت الحناجر منددة بعقمه وعدم ملاءمته لشخصية التونسي فعادوا يبحثون في مركزية الحكم والإشادة بفضائله كضرورة عدم تشتيت مراكز القرار أو الحاجة الماسة إلى تحديد من سيتحمل المسؤولية. في حين أن حبر قانون الحكم المحلي لم يجف بعد بل لم يحددوا حتى ماهيته وأصله وفصله.
وفي ظل هذا التخبط وبهذه العقلية الخربة يخرج علينا البرلمان السعيد منتشيا بإجماع شبه كلي لمن حضر من النواب جلسة التصويت على قانون الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، موهما نفسه قبل أهل البلد أنه اهتدى للحل الأمثل لمعضلة التشغيل والتنمية والقضاء على البطالة.
والأغرب أن هذا القانون الذي عد “فتحا وطنيا” للبرلمان وأن المجلس التشريعي هو أبوه وجده وأمه التي ولدته في حين أن الأمر لا يعدو أن تكون محاولات ومناورات ترقيعية للنظام الرأسمالي العالمي بعد أن استفحل فشله وعجز عن أن يواري سوآته أمام الشعوب التي بدأت تثور عليه وتطالب بالتخلص منه فكان من برامج ودور أحد أجهزته “منظمة العمل الدولية” العمل على التضليل والتعمية عن عيوبه بالحديث عن ضرورة القضاء على عدم المساواة الاجتماعية والجهوية وضرورة التوفيق بين النشاط الاقتصادي والعدالة الاجتماعية من أجل مكافحة ما سمي بالإبعاد، وضمان تكافئ الفرص، فطرح هذا المشروع، منذ سنين، ومُرر في عديد من البلدان على أنه منتج وطني تقدمت به بعض الجهات الداخلية في كل بلد.
هذا القانون الذي “سجله باسمه” مجلس نواب الشعب في جلسة عامة يوم الثلاثاء 16 جوان/ يونيو 2020 والمكون من 5 أبواب: باب الأحكام العامة، باب حوكمة الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، باب التسجيل, باب في تمويل مؤسسات الاقتصاد الاجتماعي والتضامني وحوافزها وباب خامس مخصص لأحكام مختلفة وختامية، قد ورد في صيغة إنشائية يعجز أيً عن حل طلاسمه ولا فك رموزه ولا كيف يمكن وضعه موضع التطبيق فيحل المعضلة الاقتصادية التي جاء لمعالجتها، حتى أننا لنتحدى البرلمان وإدارته أن تحدد من كتبه أو أن نصه الأصلي قد كتب داخليا وبالعربية.
هذه هي ذات العقلية التي تنبش في كل مرة في عفن الأفكار الغربية، نأيا بنفسها عن أفكار ومفاهيم الإسلام في معالجة قضايا المسلمين، فهي وراثة عقلية المهزومين أمام الغرب الذين أعطوا الدنية في دينهم ذات 9 سبتمبر 1857، فصارت لا تشرب إلا من المستنقع الآسن للفكر الغربي، ولا ترضى علاجا إلا من كهوف السحر الأسود للرأسمالية المجرمة.
فلا تأبى عقلية من جهل بأحكام الإسلام، ومن عاداها عن رضا، إلا أن تعمى عن أحكام الاقتصاد في الإسلام ونظرته إليه وغايته في تملك المال، وتنميته، وكيفية إنفاقه والتصرف فيه، وكيفية توزيع الثروة على أفراد المجتمع، وكيفية إيجاد التوازن فيه. أو تحديد الملكيات ووجوه الانتفاع بها، أو أحكامه في المال المستحق لبيت مال المسلمين وجهات صرفه، أو أحكام الأراضي وكيفية استغلالها وانتقال ملكيتها. ليظل يتخبط في وحل الحلول الخاطئة المجرمة والتي تطيل شقاء المسحوقين من عامة الناس الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، وما ذلك إلا إعراضا منهم عن سبيل الله عنادا واستكبارا.