قانون المصالحة أو الإفلات من العقاب:  هذا ما جنته الديمقراطية على تونس

قانون المصالحة أو الإفلات من العقاب: هذا ما جنته الديمقراطية على تونس

         من كان يظن أن المسار الديمقراطي الذي هللت له النخب العلمانية, وتبعهم فيها البسطاء من الناس هو الذي سيعيد بعد الثورة نفس وجوه المطرودة من  النظام السابق  إلى واجهة المشهد السياسي في تونس؟

          من كان يتوقع أن نواب البرلمان الديمقراطي  الذي يُفترض أنهم وُكلاء عن الشعب في استرداد حقوقه المنهوبة هم الذين سيصوتون بالأغلبية على قانون الإفلات من العقاب عن الفساد السياسي والمالي الذي ساهموا فيه زمن حكم المخلوع وعائلته المفيوزية؟

       والآن وقد حصل ما حصل وعاد وزراء “بن على” بنفس أسمائهم في مناصبهم السيادية, وأصبح “قانون المصالحة” أمرا واقعا, ألا يذكر هؤلاء الغاضبون من هذا القانون والمنكرون لهذا الواقع البائس عشرات الندوات التي عقدها حزب التحرير, والنشرات التي وزعها  لتحذير الرأي العام من نظام الوهم الفكري والدجل السياسي  الذي يسمّى “ديمقراطية” وكيف أن هذا النظام المخادع هو فاسد واقعا فوق كونه باطل شرعا.

حالة الصدمة والذهول

          حالة الصدمة والذهول مازالت متواصلة في الشارع التونسي رغم كون المصادقة على قانون المصالحة كان أمرا متوقعا, والعديد من الناس مازال يعيش حالة من التخبط والعجز عن تحديد المسئول الحقيقي عن هذا الواقع المرير. فالقنوات التلفزية نقلت تبادل السّباب والشتائم بين نواب البرلمان, والأوساط الشعبية ومواقع التواصل الاجتماعي على شبكة الانترنت أبدت غضبا وامتعاضا تجاه الأغلبية البرلمانية وأحزابهم التي صادقت على القانون, والبعض الآخر من الناس وجه لومه إلى الناخبين الذين أوصلوا تلك  الأحزاب إلى البرلمان.

نظام اللّا مسئولية

        حسب النظام الديمقراطي البرلماني فان الشعب لا يمكن له محاسبة الحكومة مباشرة, لأنها مسئولة أمام البرلمان فقط, فهو الذي منح ثقته لتلك  الحكومة  وهو الذي صادق على القوانين المزمع تطبيقها, لذلك لا يمكن ديمقراطيا محاسبة أي وزير ما دام ملتزما بتطبيق تلك القوانين لأنها صادرة عن البرلمان. أما البرلمان فهو السلطة العليا وهو الذي يمتلك نظريا السيادة, وهو حين يمارس تلك السيادة إنما  يمارسها بالشعب الذي انتخبه,  والذي تنازل كل فرد منه  عن جزء من سيادته لتتجمع كلها في البرلمان الذي  يمارس تلك السيادة نيابة عنه, وبنظام أغلبية الأصوات. فلا يمكن إذا ديمقراطيا محاسبة نواب البرلمان على قراراته  مادامت تلك القوانين قد تمّت المُصادقة عليها حسب آلية الحكم الديمقراطي الجماعي بطريقة الرأي الأغلبي وتحصلت تلك القوانين على أغلبية الأصوات, كما لا يمكن أيضا محاسبة  أعضاء البرلمان وتحميلهم مسؤولية نتائج تلك القوانين على أي مستوى سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي. من ناحية أخرى فأن تشكيلة البرلمان تتغير بشكل دوري مما  يجعل من إمكانية المحاسبة وتحديد المسئولية أمرا شبه مستحيلا.

          فالنظام الديمقراطي يُعفي أي مسئول حكومي أو برلماني من تحمل أدنى مسؤولية قانونية أو جزائية عن أداء مهامه ما دام ملتزما بآلية الحكم الديمقراطي, لان هذه المسؤولية تتفرق بين الآلاف والملايين من الناخبين الذين انتخبوهم, مثلما كان يُراد أن يتفرق دم رسول الله صلى الله عليه وسلم بين القبائل حين عزمت قريش على قتله ليلة الهجرة  بمشاركة شاب من كل قبيلة.

النظام الديمقراطي نظام شمولي

         فالنظام الديمقراطي هو نظام اللا مسئولية وهو أُعد بشكل لا يمكن محاسبة القائمين عليه,أو توقع اعتذار من أي مسئول مهما كانت النتائج, ولذلك بإمكان البرلمان المصادقة على القوانين التي تُغرق البلاد في الديون لعشرات السنين, أو يصادق على التفريط في المؤسسات الحكومية للشركات الاجنبية والقطاع الخاص كما هو حاصل مع المؤسسات المالية الدولية واتفاقيات الشراكة, وبإمكانه المصادقة على المشاركة في الأحلاف العسكرية وإعلان الحروب دون تحمل أدنى مسؤولية عن نتائج تلك القرارات لأنها تتم نظريا باسم الشعب.

النظام الديمقراطي وقابلية الفساد والإفساد

         الشرط الأساسي في اعتبار شرعية وإلزامية القوانين في النظام الديمقراطي  ليس في انبثاقها من عقيدة الأمة , وانسجامها مع هويتها وقيمها المعنوية والإنسانية والأخلاقية, بل شرطها وقوتها هو في حصولها على أغلبية أصوات البرلمانيين مهما اختلفت دوافعهم, لذلك تكثر اللوبيات وتنشط جماعات الضغط الداخلية والخارجية في البرلمان الذي يصبح سوقا للرشاوى والمساومات المصلحية والفئوية الحزبية كما حصل أثناء كتابة الدستور مع المجلس التأسيسي  وكما هو حاصل في أيامنا هذه في تونس  مع قانون المصالحة. هذا هو النظام الديمقراطي وهذه هي النتائج العملية لتطبيقه, هو نظام اللا مسئولية,  وهو نظام تتوفر فيه قابلية الفساد والإفساد بدرجة كبيرة, دون تحمل أدنى مسؤولية عن النتائج أو إمكانية المحاسبة.

بين الثرى والثريا

        أما الإسلام فهو دين الله وشريعته التي ينتخب فيها الناس من ينوبهم في الحكم لا في سن القوانين. فالتشريع وقواعد التشريع في الإسلام لا تخضع لأهواء الناس ولضغوط اللوبيات بل تخضع للحكم الشرعي المستنبط من الوحي. فالسيادة هي للشرع وليست للشعب ولا لنوابه, ولا قيمة لأي قرار أو قانون أو أوامر إذا خالفت أحكام الشريعة الإسلامية. أما عن المحاسبة والمسئولية فانه من المعلوم انه ليس في الإسلام شخص معفى من المحاسبة حتى لو كان الخليفة, فهو محاسب أمام القضاء من محكمة المظالم التي تمتلك حق عزله, ومحاسب من الأمة في عمومها أو ممن ينوبها كمجلس الأمة أو من الأحزاب السياسية.

         فعلى الساخطين من عودة نظام “بن على” والمصالحة مع رموزه أن يدركوا سبب الداء والبلاء, وأن يصبوا جهودهم وغضبهم نحو تغيير آلية الحكم الديمقراطي المتعفنة التي أنتجت هذه الأوضاع وتسعى لتأبيدها وان يعودوا إلى نظام الخلافة على منهاج النبوة كاملا غير مجزئ. فشتان بين شريعة الوحي ونظام المسؤولية وبين شريعة الأهواء واللا مسئولية.

CATEGORIES
TAGS
Share This