قبلي: اعتصام ” العرقوب بولحبال ” بعد الوعود والمماطلة… عود على بدء
انتهى الفصل الأول من قصة ملحمة اعتصام شباب مدينة قبلي في ” العرقوب بولحبال ” بعد خمسة أشهر من الشد والجذب بين الحكومة كوكيلة عن الشركات الإستعمارية الناهبة لثروات البلاد وخيراتها من جهة, وبين معتصمي منطقتي قبلي ودوز من جهة ثانية, والذين لم يملكوا في نضالهم إلا أجسادهم ليجعلوا منها سدّا تلفحه أشعة شمس الصحراء الحارقة وهم يعتصمون من أجل إعادة الحقوق إلى أهلها بمنطقة ” بولحبال ” أين يستقر الصمام الرئيسي الذي تمر عبره خيرات الأرض الباطنية من نفط وغاز نحو فروع البنوك العالمية لتوضع في حساب الشركات الأجنبية العاملة بجنوب البلاد .
وقد تابعنا الفصل الأول, والذي انتهى بإبرام إتفاق “المكره المغدور” كما وصفه بعضهم والذي ذٌر فيه الرماد على عيون الكثير من المعتصمين حينها, فشبه لهم أنه حل وإن كان منقوصا, لمرحلة وإن لم تبلغ مداها المأمول, لقد كان إتفاقا انتهى به من القصة فصل التواجد الميداني المؤثر للمعتصمين في الصحراء, وحول صمامات ( فانات ) النهب, ليبدأ فصل جديد من قصة الإعتصام, تدور أحداثه بين أروقة الإدارات ووراء أبواب المكاتب المغلقة وتحت الطاولات المنمّقة بالنمارق والورود والماء البارد وغلالّ في غير موسمها .
ففي خطوة جديدة, يمر الاعتصام بذلك من الميدان المؤثر إلى أروقة المكاتب, وبدأ تشكيل اللجان وفق منظور النظام الرأسمالي, في حين أنه من المعلوم بالضرورة في السياسة الرأسمالية العلمانية أن اللجان والهيئات التي تُشكل في مختلف القضايا العالقة بين أصحاب الحقوق والنظام الرأسمالي, تسعى هذه اللجان والهيئات جاهدة عبر توافقات ونقاشات وحوارات لإيجاد حلول ومخارج للنظام حتى يستمر في إدارته الفاشلة للبلاد, وفي المقابل يسعى الناس أمام هذا الفشل المتراكم والذي يلامس كل مجالات الحياة, إلى إيجاد بديل عن النظام, فالثائر الواعي لا يعطي النظام حلولا تُطيل عمره وتمدِّد فساده وإفساده, بل يسعى إلى إحلال بديل عن ذاك النظام. ومتى اكتشف بوعيه حقيقة ألعوبة اللجان والهيئات, عاد إلى أحضان الشارع, لأن المتصيد في الماء العكر الوحيد الذي يتلذذ العيش بين مستنقعات اللجان والهيئات, وغيرها من التشكيلات الصورية التي لا هدف لها غير تصفية القضايا وتعويمها, ووضعها على الرفوف, فالوعي وحده هو السلاح المنقذ في هذا العالم القائم على الغش والخداع والتضليل والمماطلة.
تلك المماطلة التي انطلقت بمجرد إمضاء الاتفاق مع الحكومة وفتح الصمامات ورفع الاعتصام من ” بولحبال “, فعوض لجنة وقع اقتراح ست لجان لمتابعة تنفيذ بنود الاتفاق حتى تتفرق خيبة الشباب وقهرهم بين اللجان, وبدأت المفاوضات والمناورات التي أكسبت الحكومة الوقت الكافي لإطفاء جذوة الحماسة التي كانت تحرك أهل دوز وقبلي مما حدى بالناطق الرسمي للإعتصام ” فاخر العجمني ” إلى تقديم استقالته والإبتعاد عن كل ما يمكن أن يزيد من إحباط الناس المنتظرين, كما جاء في إعلان إستقالته المنشور على صفحته الخاصة على الفايسبوك, وحذر زملاءه المعتصمين من ألاعيب الحكومة والمماطلات, والنكوص على بنود الإتفاق المبرم, وفي النهاية أوصلت النقاشات إلى تكوين لجنة واحدة عوض ستة, لتشرف على تنفيذ وتفعيل بنود الإتفاق, جعلت من المعتصمين أقلية ومن الحكومة متحكمة وصاحبة الحل والعقد في القضية, وبمجرد قراءة التشكيلة نفهم المآل :
فوالي قبلي في رئاسة اللجنة مع خمسة من نواب الشعب, وثلاثة رؤساء اتحادات جهوية (الصناعة والتجارة, والفلاحة, والمرأة ) ورئيسي فرع جهوي(رابطة حقوق الإنسان وعمادة المحامين ) وكاتبين عامين لإتحاد ( أصحاب الشهائد العليا واتحاد الشغل ) وستة معتصمين, وبمقتضى ذلك صار أصحاب القضية قلة بين الرؤساء والكتاب العامين والنواب.
ولم يمضي وقت طويل حتى صدقت قراءة الناطق الرسمي السابق لواقع التعاطي السلبي للحكومة مع المعتصمين ووقع استدعاء أربعة منهم للبحث, وهم العم علي وفتحي وأنيس وإمحمد, في خرق واضح للبند الأول من الاتفاق الذي يقول بعدم التتبع الأمني والقضائي للمعتصمين السلميين.
وفي سؤال لـ ” فاخر العجمني ” للتثبت من صحة المعلومات الواردة لدينا أكد لنا أنه ” على إثر إستكمال الأبحاث في قضية المعتصمين تم خرق الإتفاق بوضوح, وذلك بعد قرار إحالة ملفاتهم على القضاء.
مماطلة ثم وعود ثم ترهيب ثم وعيد، لم يعد هناك أي مجال للشك بأن السلطة لا تريد لهذا البلد الصلاح والاستقرار, وتسعى جاهدة لتركيع أهله وإخضاعهم للطاعة، فأول بند هو عدم تتبع أي معتصم عدليا, وقد تم خرقه للمرة الخامسة على التوالي، لا ثقة في من لا عهد له زلا أمان في من لا أمانة له.
وأشار العجمني إلى أنه بعد إجتماع ثلة من شباب دوز لتدارس آخر المستجدات تقرر ما يلي:
1 ــ إلغاء الإتفاق المبرم مع السلطات وسحب عضوية دوز من اللجنة الجهوية وذلك إثر خرق الحكومة لبند عدم تتبع أي معتصم عدليا لأكثر من مرة.
2 ــ الإتفاق على تنظيم مسيرة يوم الإثنين على الساعة العاشرة صباحا للتنديد بأساليب المماطلة والتهديد من قبل السلطة.
3 ــ على كل جهة من جهات المرازيق أن تجتمع يوم السبت مساء بشبابها لمزيد توضيح بعض النقاط والحيثيات, ولحشد الناس للمسيرة وتدارس النقاط التصعيدية القادمة.
كما أكد لنا أن المنطقة تعيش احتقانا شديدا واحساسا عاما بالغبن والظلم, وهو ما يدفع بالأحرار ليعلنوا نداء لكل مخلص واع ألا انهض وتقدم واستمر, فالحق ليس فرصة نغتنمها، وما نيل المطالب بالتمني، فإما كسب بعزة وإما شموخ الإستمرار حتى الإنتصار,
الحقوق تفتك ولا تهدى.
الذل لا
الرخ لا
المماطلة لا
تخديم المخ والترهيب لا “
انتهى تصريحه الذي نفهم منه أن قصة إعتصام ” العرقوب بولحبال ” قد دخلت فصلا جديدا بعودتها إلى قواعدها الشعبية وخروجها من أروقة الإدارات بعد فتح الأبواب المغلقة للمكاتب, وقلب الطاولة ليفتضح أمر من كان يلعب تحتها ويتلاعب بخيوط المفاوضات والإتفاقات.
فإلى أين تسير بنا أحداث قصة إعتصام ” العرقوب بولحبال ؟ و هل سيعود بنفس الإصرار الذي كان عليه شباب المنطقة في أيامه الأولى؟ ونفس الأساليب النضالية ؟ أم أنه سيتجدد ونرى فيه أساليب أخرى أكثر تُبرهن وعي أصحابه ؟ خاصة بعد قرار جعل مناطق الإنتاج مناطق عسكرية, فقادمل الأيام ستكشف لنا جديد هذا الإعتصام ومآله ويبقى للقصة بقية.
فتحي الصغيّر