عودة إلى الاستبداد الرّئاسي وديكتاتوريّة البروليتاريا عبر الدّيمقراطية المجالسيّة المباشرة
مساء الإثنين 23 أوت 2021 أعلن الرّئيس التونسي قيس سعيّد عن تمديد التدابير الاستثنائيّة الخاصّة بتعليق عمل البرلمان ورفع الحصانة عن أعضائه (حتى إشعار آخر) ووعد بأنّه سيتوجّه خلال الأيّام القادمة ببيان للشعب التونسي دون ذكر تفاصيل حوله..وكان الرّئيس سعيّد قد ّأصدر يوم 25 جويلية المنصرم واستنادًا إلى الفصل 80 من الدّستور حزمة من القرارات الخطيرة أهمّها (إعفاء رئيس الحكومة هشام المشيشي من منصبه ـ تجميد عمل واختصاصات البرلمان لمدّة 30 يومًا ـ رفع الحصانة عن النوّاب ـ توليه السلطة التنفيذية حتى تشكيل حكومة جديدة) في انقلاب صفيق على الدّستور والمؤسّسات..ومنذ إعلانه تلك التدابير الاستثنائيّة لم يعيّن سعيّد رئيسًا للحكومة ولم يقدّم (خارطة الطّريق) التي وعد بها رغم إلحاح العديد من المنظمات الوطنية والأحزاب السياسية فضلاً عن الدّول الأجنبيّة (بريطانيا ـ ألمانيا ـ أمريكا..) مكتفيًا بالتعليق باستهزاء (من يتحدّث عن الخرائط فليذهب إلى كتب الجغرافيا ويبحث فيها عن الخرائط والمواقع الجغرافية) مضيفًا (الطّريق الوحيد الذي سأسلكه بنفس الثبات ونفس الطّرح هي الطريق التي خطّها الشعب التونسي) في تجيير وقح لإرادة التونسيّين وسطوٍ صريح على سلطانهم. وللمفارقة فإنّ الشعب التونسي نفسه الذي يستمدّ سعيّد منه سلطته ومشروعه لا علم له بهذه الطريق ولا بالمشروع السياسي الذي تتضمّنه: فمن أبجديّات الفعل الانتخابي أن يعرض المرشّح مشروعه السياسي الذي ينوي تطبيقه على الناخبين، وعلى أساس ذلك المشروع تدعمه الجماهير وتنتخبه أو ترفضه. إلاّ أنّ الذي حصل منذ انتخابات 2019 أنّ (الإخشيدي) تكتّم على مشروعه ولم يفصح عنه لا قبل انتخابه ولا حتى بعده واكتفى بسوق الشعب التونسي نحوه دون وعي منه وآثر فرضه عليه بعد نجاحه بقوة التموقع في السلطة وأجهزتها الأمنية والعسكرية والتشريعية في حركة مريبة تقلب سلّم القيم الديمقراطية رأسًا على عقب: فقد وثق به الشعب ودعّمه وانتخبه لذاته ولشخصه ولما عُرِف عنه من نزاهة واستقامة وتواضع وتديّن ومناهضة للاستعمار وللفساد، إذا به يتّخذ هذه الثقة صكًّا على بياض ليحوّل الدّولة إلى مختبر حيّ للنظريّات الطوباويّة الفوضويّة الفجّة ويحوّل الشعب إلى فئران مخابر لتحقيق الأوهام الحمراء (لمناذلي) اليسار الطلاّبي..
بين التلميح والتصريح
غير أنّ هذا التكتّم المريب والصّمت المقصود لم يكن مطبقًا بل تخلّلته ـ بذكاء وخبث ـ بعض الوصفات التلميحيّة التي كان الرّئيس سعيّد يطلقها بين الحين والآخر في شكل شذرات مفكّكة غير مبلورة في بناء تأسيسيّ مكتمل يتعسّر على العامّة أن تجمع شتاتها ويتعذّر على متابعي الشّأن السياسي أن يروا فيها مشروعًا واضح المعالم..وحسبنا فيما يلي أن نستأنس بها لتقصّي ملامح مشروع قيس سعيّد السياسيّ: فإلى جانب الشعارات الشّعبويّة التي ضمّنها الرئيس تدخّلاته الإعلاميّة منذ 2012 على غرار (الشعب يريد ـ التّطبيع خيانة عظمى ـ لا مجال للتلاعب بملفّات الفساد ـ تعديل النّظام السياسي ـ التأسيس الجديد ـ لا للتصوّرات التقليديّة ـ آن الأوان لتصوّرات جديدة ولأفكار جديدة..) لم تخل ومضات قيس سعيّد من شبه بيانات تأسيسيّة مركّزة تحدّد باقتضاب الهيكل العامّ لمشروعه السياسي، وقد تناولت هذه البيانات، أوّلاً: طبيعة المشروع (أطرح تأسيسًا جديدًا قوامه فكر سياسي جديد يترجمه نصّ دستوري بالفعل جديد)..ثانيًا: شكل الحكم (لست مجرّد ساعي بريد ـ أنا القائد الأعلى للقوات المسلّحة الأمنية والعسكريّة..) هذا إلى جانب تهميشه للحكومة وتعطيله لقراراتها واستهانته بالبرلمان وتحفّظاته على جميع مشاريعه وازدرائه بالأحزاب ودعوته لتنصيب نفسه رئيسًا للنيابة العموميّة بما يفهم منه أنّه يدعو إلى نظام رئاسي مطلق تتوحّد فيه السلطة التنفيذيّة تحت إمرة رئيس الجمهوريّة..ثالثًا: نمط الدّيمقراطية: (الدّيمقراطيّة التمثيليّة ليست الحلّ ـ إذا فزت فلن تجري انتخابات نيابيّة وفق تصوّر الدّيمقراطيّة التمثيلية)..رابعًا: المنوال التنموي: (النّاس يعرفون ما يحتاجون إليه في جهاتهم ولا ينتظرون من المركز سوى مدّهم بالآليّات الضّروريّة لصياغة المخطّطات والبدائل التنمويّة بعيدًا عن التصوّرات التنمويّة المسقطة) في إشارة للمثاليّة المجالسيّة..خامسًا: النظام الانتخابي والإرادة العامّة: (سطو الأحزاب على الحكم والثورة مردّه النّظام الانتخابي على القوائم حيث من يتمّ انتخابه لا يستمدّ وجوده من ّإرادة النّاخبين بل من الهيئة المركزيّة للحزب الذي رشّحه) داعيًا إلى اعتماد الدّائرة المحليّة ونظام الانتخاب على الأفراد (لأنها طريقة الاقتراع التي يمكن أن تضع حدًّا للانحرافات)..سادسًا :موقفه من الأحزاب السياسية: (برامجها كلّها تكاد تكون واحدة وعادت بتونس إلى الوراء في قطيعة كاملة مع الواقع وغير قادرة على القيادة) داعيًا إيّاها صراحةً إلى الانسحاب من الساحة العامّة لأنّ دورها انتهى..وبجمع شتات هذه الومضات نقف على ملامح المشروع السياسي الذي يروم (الإخشيدي) تطبيقه: فالرّجل يطرح تأسيسًا جديدًا بديلاً في قطيعة مع ما هو كائن يكون شكل الحكم فيه رئاسيًّا مطلقًا قائمًا على الدّيمقراطيّة المباشرة أو المجالسيّة وتتجسّد الإرادة العامّة فيه عبر نظام الانتخاب على الأفراد لا على القوائم…
الأرضيّة الفكريّة
أمّا الأرضيّة الفكريّة لهذا المشروع فيمكن تقصّيها عبر الاستئناس بالخط الفكري للدّائرة المقرّبة من قيس سعيّد ومهندسي حملته الانتخابيّة ومستشاريه السّابقين على غرار (رضا لينين ـ رشيدة النيفر ـ ثامر بديدة ـ سنية الشربطي..) وهي توليفة تشي بحركته السياسيّة الحاضنة والمتمثّلة في (رابطة قوى تونس الحرّة) هذه الحركة السياسية التي نشأت مع الثورة كمجموعة عمل وتفكير تضمّ في صفوفها لفيفًا من النّشطاء ذوي الخلفيّات اليساريّة ـ التروتسكيّة بالأساس ـ وتنصهر فيها مكوّنات إيديولوجيّة سياسيّة واجتماعيّة مختلفة ضمن مشروع موحّد فوضوي مثالي طوباوي منخرط في الثورة الدّائمة بمعناها التروتسكي..وقد صرّح (رضا لينين) بهذا التبنّي والاحتضان بقوله (لم يكن قيس سعيّد منتميًا إلى الوطد لكنّه فاجأنا في طريق التّاريخ فقد وجدناه يروّج لمشروع هو توأم مشروعنا وتلاقينا في الحياة)..ومن خلال نصوص وتصريحات أعضاء الرّابطة يمكن تتبّع المعجم الفكري للمجموعة وحصره في الآتي: فكر أممي ثوري ضدّ الأحزاب وأشكال الانتظام السياسيّ الكلاسيكي وضدّ العولمة وضدّ الليبرالية الاقتصاديّة وضدّ النّظام العالمي وضدّ الدّيمقراطية التمثيليّة وضدّ النّخبويّة..والنّتيجة عبارة عن توليفة من شتات أفكار شيوعيّة واشتراكيّة وفوضويّة وطوباويّة مثاليّة تتغذّى من أطروحات منظّرين على يسار اليسار (إريك هوبزباوم ـ ألان دونو ـ جايمس سكوت ـ روزا لكسمبورغ..) هذا (الكوكتال) من الأفكار المنبوذة شيوعيًّا يتبنّى المثاليّة المجالسيّة أو شيوعيّة المجالس القائمة على الانتظام الذّاتي بدءًا بالمستوى المحلّي الضيّق صعودًا نحو المركز في شكل بناء هرمي قاعدي عبر التشاور والتوافق ضمن مجال مغلق فيما يشبه الدّيمقراطيّة الأثينيّة..ويرى أنّ الدّولة يجب أن تكون في مرتبة قدسيّة فوق الجميع وأن تحتكر وسائل الإنتاج لتلعب دورها التعديلي متى استوجب ذلك عبر سنّ قوانين حمائيّة اجتنابًا للأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة.. على أنّه يدعو في مرحلة لاحقة متقدّمة للاّسلطويّة ونبذ الحكومات مؤسّسًا لانتفاء الدّولة نحو المشاعيّة البدائيّة كآخر مرحلة من مراحل الشيوعيّة..كما يسعى هذا الفكر إلى سحب منظومة الاعتراف من الحكّام وأصحاب رؤوس الأموال وإسنادها إلى الشعب والقواعد الشعبية بوصفهم المنظومة الحقيقية المانحة للاعتراف فيما يشبه ديكتاتوريّة البروليتاريا أو لجان القذّافي الشعبيّة..هذا المشروع الذي تتبنّاه (رابطة قوى تونس الحرّة) يلتقي مع مشروع قيس سعيّد حول إفلاس الدّيمقراطية التمثيليّة في صيغها الليبرالية المباشرة والبناء القاعدي والمثاليّة المجالسيّة مع إعادة توزيع الثروة وتمكين الشباب من أدوات الإنتاج وتحرير المبادرة الحرّة..كما يلتقيان حول علويّة الدّولة المتجسّدة في النّظام الرّئاسي المطلق..
المثاليّة المجالسيّة
يتوسّل الرئيسي لتحقيق نظامه السياسي الجديد بالمثاليّة المجالسيّة أو شيوعيّة المجالس، ويقوم الفكر المجالسي على تولّي العمّال للشأن العامّ عبر مجالس ينتخبونها مباشرةً في دوائر ضيّقة من دون أي أجسام وسيطة كالنقابات والمنظّمات والأحزاب..هذا التصوّر يقوم على بناء تشريعي هرمي ينطلق من القاعدة تجاه القمّة، حيث يقع تنظيم انتخابات مجالس محلّية للمعتمديّات من خلال الاقتراع المباشر للأشخاص الذين حظوا بتزكيات للترشّح ،وتتكوّن المجالس المحليّة من أفراد منتخبين إلى جانب مديري المرافق العموميّة في المنطقة كملاحظين..ثمّ يتمّ التصعيد بالقرعة بين الأفراد نحو المجالس الجهويّة في الولايات ثمّ مجالس الأقاليم (الجنوب الشرقي ـ الوسط الغربي..) وصولاً إلى البرلمان لتكون النّتيجة 264 نائبًا عن كلّ معتمديّة باعتماد القرعة مع المحافظة على الاقتراع المباشر بالنّسبة إلى منصب رئيس الجمهوريّة وعضويّة المجالس المحليّة..ولضمان الشفافيّة والنّزاهة والحوكمة الرّشيدة تسلّطُ رقابة من كلّ مجلس على المجلس الذي يليه بمقتضى المشروعيّة المنبثقة عنه، كما يخضع النوّاب وأعضاء المجالس إلى سلطة مضادّة من طرف النّاخبين تتمثّل في إمكانيّة سحب الوكالة منهم في حال تقصيرهم عبر إمضاء عريضة في الغرض من قبل عددٍ محدّدٍ من النّاخبين..ويُسند إلى المجالس المحليّة وظيفة إدارة التّنمية في المنطقة حيث يقع الاختيار والتصويت على المشاريع المقترحة في المستوى المحلّي لتُرفع إلى الجهوي فالإقليمي ثمّ يتمّ عبر التّنسيق بين المجالس اختيار الأنسب والضّروري..هذا التصوّر الذي يقترحه الرئيسي هو في الواقع استنساخ لتجارب عديدة فاشلة شهدتها أوروبا مطلع القرن العشرين (روسيا 1917 ـ ألمانيا 1918 ـ إيطاليا 1919) وصولاً إلى تجربة التعاضد في تونس واللجان الشعبيّة القذّافية..ويعود هذا الفشل المبكّر لتلك التّجارب أساسًا إلى أنّها مصمّمة للمدينة الفاضلة :فهي غارقة في الطّوباوية والمثاليّة والشعبويّة مكبّلة بالتشتّت والبيروقراطيّة ما أدّى إلى بطئها في معالجة الواقع العامّ وعقمها وضعف فاعليّتها، ومن منتهى الحمق فعلاً أن نعيد تجربة فاشلة وننتظر منها نتائج إيجابيّة..
على المقاس
بقي سؤال أخير: لماذا ركب قيس سعيّد هذا الشكل الجديد في الحكم لتثبيت أقدامه في السّلطة وهل للأطراف الأجنبيّة التي راهنت عليه دور في ذلك..؟؟ لقد كان واضحًا منذ الحملة الانتخابيّة أنّ هناك تناقضًا بين سعي (الإخشيدي) لمنصب الرّئاسة ومعارضته للنظام السياسي وتأكيده على أنّ التغيير سيكون باستعمال الآليّات الدّستورية..؟؟ هذه الخلطة اللاّمتجانسة ديمقراطيًّا تستوجب منّا الوقوف على واقع قيس سعيّد السّياسي: فهو ـ مرشّحًا ورئيسًا ـ شخصيّة مستقلّة عن الوسط السياسي منبوذة منه عزلاء دون حزام نيابيّ ولا حزام سياسي ولا حاضنة حزبيّة، كما أنّ الطّرف الأجنبي المراهن عليها (فرنسا) ليس له ثقل من العملاء في الوسط السياسي والحزبي والنيّابي..على هذا الأساس فهو ـ في حالة نجاحه ـ مرشّح لأن يكون رئيسًا منبوذًا شرفيًّا منزوع الدّسم والمخالب لا سلطة له ولا تأثير على شاكلة (المنصف المرزوقي)، وبالتالي فإنّ المراهنة عليه استعماريًّا فاشلة بامتياز..لذلك فإنّ نجاح رئاسته ـ شخصيًّا واستعماريًّا ـ رهين تعويله على نقطتي القوّة اللّتين يتمتّع بهما: منصبه كرئيس والعمق الشعبي الذي يتمتّع به..على هذا الأساس استند ـ بوصفه رئيسًا ـ إلى الفصل 80 من الدّستور ليستحوذ على السّلطة التنفيذيّة ويجمّد السّلطة التشريعيّة ويطبّق مشروعًا على مقاس وضعه السياسي ووضع حاضنته فرنسا: إذ يمكّنه من الحكم الفعلي عبر عزل خصومه في الحكومة والبرلمان والأحزاب وتهميشهم وتركيز السلطة التنفيذيّة في شخصه ومغازلة القواعد الشعبيّة وتقويتها بتشريكها في الحكم لمساندته..كما يمكّن فرنسا من عزل عملاء بريطانيا لتخلو السّاحة السياسيّة التونسيّة لها ولرجلها بما يمكّنها من السّيطرة على البلاد والعباد..هل وقع فعلا التّخطيط لكلّ ذلك أم أنّها مجرّد مصادفة سياسيّة..؟؟