قراءة قانونية في تقرير لجنة الحريات
سنتناول الموضوع في بعدين:
1/ من حيث الأساس التشريعي
2/ من حيث محتوى القانون
أما من حيث الأساس التشريعي: خرجت العديد من الأصوات المحتجة التي اعتبرت أن التقرير الذي أعدته لجنة ما يسمى بالحقوق والحريات هو مسقط من خارج البلاد وليس نابعا من رغبة داخلية وإرادة وطنية معتبرين أن وراء دعوة المساواة في الإرث بين الجنسين املاءات وشروط قدمها الاتحاد الأوروبي ومن ورائه المؤسسات المالية العالمية لمواصلة تقديمها الدعم المالي لتونس, حيث نصت المادة 14 من قرار الاتحاد الأوروبي المؤرخ في 14 سبتمبر 2016 على طلب رسمي لتونس لإلغاء الفصل 230 من المجلة الجنائية الذي يجرم العلاقات المثلية والتخلي عن منظومة المواريث الشرعية لتحقيق المساواة في الإرث بين الجنسين كشرط من شروط المساعدات التي تعتزم تقديمها لتونس.. وسمعنا المحتجين ينادون بأن هذه المبادرة وراءها خلفية إيديولوجية, تيار علماني يساري ليصبح الدين مما يضفي على عمل الجماعة طابعا تآمريا, بل والأغرب من هذا كله فإن هذه الأصوات تفتخر بدستور 2014 معتقدين بكل بلاهة الدنيا أن الفصل الأول الذي نص على أن ” تونس دولة حرة ، مستقلة ، ذات سيادة الإسلام دينها… ” ضامن لتطبيق أحكام الله وحدوده.
نحن نقول لكل هؤلاء المنددين بتقرير اللجنة أين أنتم عندما أرسيتم ودعمتم دستورا يشرع من دون الله, فكيف لكم أن تتشدقوا بالديمقراطية وتعتمدونها نظام حكم وتستاءون اليوم من تطبيق تعاليم الإسلام وحدود الله. أفليست الديمقراطية ذلك النظام الذي يدعوا لتقنين العباد وترك تقنين رب العباد…مالكم كيف تحكمون ألم تكونوا من سندا لحكم الجاهلية؟
إن جوهر الموضوع وكنهه لا فحوى هذا التقرير بل النظام الذي يخول اعتماد تقارير مخالفة لشريعة الله ونفس النظام ونفس الدستور الذي باركتموه هو الذي يسمح من الناحية القانونية بسن هذه القوانين.
إن التشريع في بلادنا مصدره إرادة أشخاص يصلون عادة لمنصب المشرع بعد انتخابات يجبرون قبل خوضها على تقديم الولاء للأجنبي كما رأينا سابقا وكما لمسناه واقعا, للحصول على الدعم السياسي والمادي إن لزم الأمر. وهكذا تكون التشريعات لا لصالح الناخبين وإنما لصالح صناع القرار الحقيقيين وأهواء مغتصبي الحكم إبان ذلك, باعتبار أن القوانين ليست مقدسة ويمكن تغييرها بتغيير الأشخاص. فدائما ما يتّخذ الجبابرة كيفية أخذ التشريع ويغيّرون بها التشريعات لصالحهم- ونعطي مثلا الصلاحيات التي أعطاها بورقيبة لرئيس الجمهورية الذي جعل منه الفاعل الوحيد في البلاد. وما فعله بن علي من بعده. فلا مانع يمنعهم من تغيير بنود الدستور في أي وقت فضلا عن القوانين. وبالتالي فانه لا يمكن الحديث عن نجاعة التشريع عندما يكون مصدره أحزاب وصلت للبرلمان بالعمالة والمراكنة والمحاصصة الرأسمالية الدنيوية لصالح الأحزاب, باعتبار أن النائب في البرلمان مقيد بالانضباط الحزبي لا بضميره ورؤياه, وهذا لمسناه في العديد من المرات عندما طرح قانون العزل السياسي وتجريم التطبيع والمحاسبة.. فان العديد من النواب صرحوا لولا الانضباط الحزبي لكانت مواقفهم غير ذلك.
فالتشريع أصبح يكتب خارج البرلمان. في السفارات والمقرات الحزبية وزوايا التآمر.. فأي معنى يكون لانتخاب أشخاص في البرلمان يتولون التشريع وفق املاءات حزب هو في الحقيقة منفذ لترسانة من التعليمات في إطار صفقة دعم وعمالة؟
هنا وأمام فساد الأحزاب الحاكمة والطبقة السياسية العميلة التي تستمد أفكارها وإيديولوجياتها من الغرب وبفضله ومنّته عليهم, تتموقع وباعتبارها مصدرا للتشريع, فلا مجال للحديث عن قانون فوق الجميع طالما كتبته فئة قليلة وفق مصالحها وباملاءات أربابهم وأولياء نعمهم, وتتحوّل المواقف من معالجة حقيقية للمشاكل إلى اصطفافات مصلحية أو حسابات حزبية أو اختراقات المتنفذين لتحقيقي المصالح.
فطالما كان المصدر فاسدا فلن يكون التشريع إلا فاسدا لذلك إخوتي فإنه طالما كان التشريع رهين إرادة المنتصر سياسيا فلا مجال للحديث عن ضمانات من خلال زخم القوانين وفصل السلط والدساتير… لأنها جميعها لها مصدر واحد وغاية واحدة أيا كان التموقع في السلطة التشريعية أو التنفيذية.
إن التشريع لا يعدوا كونه مرتبطا بالنظام والغاية من القانون الوضعي في أحسن الحالات وأكملها استقرار المجتمع الذي وضع له عبر تحديد حقوق وواجبات أفراده فالغاية نفعية محضة وهي إقامة النظام على نحو ما حتى ولو اضطر أصحابه لمخالفة الدين والأخلاق, وهذا يتجسد في العديد من القوانين التي تسير شؤوننا اليوم, ولعل أبرز مثالين نذكر إجازة الربا والتبني وهي قوانين تم التعدي فيها على حدود الله, وقانون مناهضة العنف الذي يريدون تمريره وسنتعرض له لاحقا. في حين أن الشريعة الإسلامية جاءت لتجنيبنا الشقاء في حياتنا. قال تعالى: ﴿طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى) وقال جل من قائل: (و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا). فهل نترك قانون ربنا الذي خلقنا, قانون العليم الخبير, ونجري وراء قوانين تكتب في إطار صفقات سياسية مشبوهة وباملاءات أجنبية خدمة لمصالح الغرب الاستعمارية, وانتهازية طبقة حاكمة.. ثم نقول ما الحل؟
الدستور ووقد تمت كتابته والقوانين التي ادعوا بها الضمانة قد أغرقت الأوراق ونحن مازلنا نبحث ما هي الضمانات, ولا أدل على ذلك أنه الآن في تونس بعد كتابة الدستور ضمان الحريات بين ظفرين طبعا والذي كلفنا ما كلفنا من أموال وأنفس.. وبعد التهليل والاحتفال به عدنا إلى نقطة الصفر ننظر بعين شاخصة إلى من سيحكمنا خائفين من عودة الاستبداد والدكتاتورية.
أتريدون الحل ؟ انه تشريع الإسلام من لدن عليم خبير. وأن لا يتعدى دور الأحزاب في بلورة غاية واضحة وتأطير الجماهير وفق أسس غير غامضة تهتمّ بكبريات القضايا، ودورها في المحاسبة على أساس الإسلام. ولا تحدثوني عن إرادة لتطبيق أحكام الله في غير نظام الإسلام, فمن يقول ذلك إما أنه ساذج أو مداهن.
2/ من حيث فحوى القانون : هذا المشروع يرمي إلى تغيير المرجعية الفكرية والمشترك الثقافي لهذا البلد وهي مسألة لم تكن لتتسنى لهم لو لا أن النظام غير النظام و لولا اعتماد دستور 2014.. وعلى كل فإن هذا التقرير جاء ضاربا لمفهوم العائلة التقليدية المتعارف عليها بين جميع البشر, والقطع مع مفهوم العائلة بالتصور الإسلامي رغم أن الإسلام هو دين سكان البلد, العائلة القائمة على زوجين من جنسين مختلفين رجل وامرأة بهدف إنجاب أبناء شرعيين ومواصلة الحياة البشرية وتعويضها بنوع جديد من الأسر يقوم على اتحاد الجنس فيسمح بالزواج بين رجل ورجل أو امرأة وامرأة ويرنو التقرير إلى إرساء مايسمى عند الغرب ب “الحرية الجسدية” من دون موانع ولا قيود دينية أو أخلاقية, وقد تضمن التقرير مطالبة بالتبرع بالجينات مما سيسمح بالإنجاب ولو دون زواج ودون مراعاة أحكام النسب.
ولم يغب عن ذهن معدي التقرير ضرب مقومات الأسرة والعمل على هدمها بضرب مؤسسة القوامة التي منها ينبع واجب الإنفاق وما يترتب عليه من مسؤوليات بعد الطلاق وإحلال مفاهيم جديدة محلها تقوم على تقنين واجب المرأة في الإنفاق والتخلي عن أحقيتها في الحضانة في حالة الطلاق, وهي مكتسبات وحقوق تتمتع بها المرأة من لدُ، خالقها, لتصبح وفق هذا التقرير محمول عليها بالقانون واجب الإنفاق, وفي صورة التخلي عن هذا الواجب فإنها تكون عرضة للتتبعات العدلية بدعوى إهمال العيال والتلكؤ في الإنفاق على البيت, والخطير في هذا التمشي هو ادعاء أن كل ذلك من أجل الوصول إلى المساواة التامة والكاملة بين الرجل والمرأة.. ما يمكن قوله هو أن هذا التقرير يتجاوز مسألة المواريث والتي تبدو مسألة لا قيمة لها أمام المسائل الأخرى الخطيرة.
إن المسألة أولا وآخرا هي مسألة نظام, فدون الخلافة لن أسمع لمن يتحدث عن تطبيق أحكام الإسلام (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) صدق الله العظيم