قضية الحكم هي أمّ القضايا في المجتمعات البشرية, والحكم بما أنزل الله هو الفوز العظيم
قضيّة الحكم أمّ القضايا
إن كثيرا من المشاكل إن لم يكن كلها في كل بلد سببها مشكلة الحكم، وحلّها مرتبط بالحكم وبالحكام وبفكرة الحكم. فقضية الحكم تتعلق: بمن يحكم الناس؟ وبماذا يحكمون؟ وكيف يحكمون؟ وكيف يفسد الحكم؟ وكيف يتمّ إصلاحه؟ وتتعلق برعاية شؤون الناس وتأمين مصالحهم وما يجب فعله إذا لم يتحقق ذلك، وبحسن رعايتهم وماذا يصنع عند إساءة هذه الرعاية وإساءة الإدارة، ولكل ذلك دور مهمّ في نهضة الأمم واستقرار الشعوب وأمان الناس وطيب عيشهم ورضاهم عمن يحكمهم وبما يحكمون.
فعبر التاريخ والناس يحكمون، يأتون بحكام ليحكموهم، أو يتسلط عليهم حكام فيحكمونهم رغما عنهم، إما يرضون عنهم فيما بعد، فتستقر الأمور وينعم الناس بثرواتهم وتؤمن مصالحهم ويتقدمون، وإما لا يرضون فتضطرب أمورهم، فيصبح الحكم غير مستقر وبالتالي تحصل الانشقاقات والاضطرابات في كل ناحية من نواحي المجتمع.
ولهذا قالت العرب قولا حكيما على لسان أحد شعرائهم:
والبيتُ لا يُبْتَنى إلا له عَمَدُ
ولا عمادَ إذا لم تُرسَ أوتادُ
لا يصلحُ الناسُ لا سراةَ لهم
ولا سَراة لهم إذا جُهّالُهُم سادوا
تُلفى الأمور بأهل الرشد ما صلحت
فإن تولوا فبالأشرار تَنقاد
فلا يمكن أن يتصور وجود جماعة بشرية بينها علاقات دائمة دون أن يكون لها حكم وحكام، حتى أن الجماعة الصغيرة التي تنشأ فيها علاقة دائمة بين أفرادها لوقت معين تحتاج لمن يديرها. فمن يخرجون معا في سفر لغاية معينة تنشأ بينهم علاقة وقت السفر فيحتاجون لمن يديرهم في هذه الفترة. وكذلك إذا كانوا في عمل مشترك، فيحتاجون من ينظم أمرهم ويدير شأنهم حتى يتمكنوا من إنجاز عملهم، فلزمهم أن يؤمروا عليهم أحدهم. وهذا أمر طبيعي لدى البشر وأمر يوجبه الواقع والعقل.
وقد جاء به الشرع ففرضه على الناس حتى تستقيم أمورهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم)) (أبو داود)
((لا يحل لثلاثة نفر يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم)) (أحمد)
فالحكّام يقومون برعاية شؤون الناس وتحقيق مصالحهم. فإن أحسنوا الرعاية وحققوا مصالح الناس وعدلوا بينهم وأنصفوهم وأعطوهم حقوقهم وجلبوا لهم الأمن والأمان ولم يتعدوا على أعراضهم وأموالهم ودمائهم وكرامتهم وكانوا القدوة لشعوبهم في الاستقامة وعدم المساس بالمال العام ولم يحابوا أقاربهم ومقرّبيهم وجعلوا أهليّة الشخص واستقامته هي المقياس لتعيينه في المناصب والوظائف فبذلك يتحقق الاستقرار في المجتمع فعندئذ يتحسسون طريق النهوض والتقدم.
طاعة الحاكم: منوطة بطاعة الله
ليس الحاكم آلهة تُعبد، ولا هو من الملائكة، هم بشر يصيبون ويخطؤون، يستقيمون وينحرفون، ولهذا لا تجوز طاعتهم بشكل مطلق، وإنما طاعتهم في حدود الدستور والقوانين المستندة لفكر الأمة، للمفاهيم والمقاييس والقناعات التي قبلها الناس.
ويجب أن تكون الطاعة واعية، ونقصد بالطّاعة الواعية الطّاعة المستندة إلى مقاييس الاتّباع والمحاسبة، وإلا صارت الأمور فوضى. فكما أوجب الله طاعة الأمراء عند التزامهم بشرعه، أوجب محاسبتهم عند مخالفتهم لشرعه أو عند إساءتهم تطبيقه.
قال رسول الله ﷺ: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» رواه البخاري ومسلم. وقال «لَا طَاعَةَ لِبَشَرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ» رواه أحمد وابن حبان بسند صحيح.
وقَالَ: «إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْكُمْ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نُقَاتِلُهُمْ قَالَ لَا مَا صَلَّوْا». صحيح مسلم. والصلاة هنا كناية عن أحكام الدين، أي ما أقاموا حكم الدين وحكموا بما أنزل الله فلا يخرج عليهم. حيث أمر الله الحاكم بذلك قائلا: (وَاَنِ احۡكُمۡ بَيۡنَهُمۡ بِمَاۤ اَنۡزَلَ اللّٰهُ وَلَا تَتَّبِعۡ اَهۡوَآءَهُمۡ وَاحۡذَرۡهُمۡ اَنۡ يَّفۡتِنُوۡكَ عَنۡۢ بَعۡضِ مَاۤ اَنۡزَلَ اللّٰهُ اِلَيۡكَؕ فَاِنۡ تَوَلَّوۡا فَاعۡلَمۡ اَنَّمَا يُرِيۡدُ اللّٰهُ اَنۡ يُّصِيۡبَهُمۡ بِبَـعۡضِ ذُنُوۡبِهِمۡؕ وَاِنَّ كَثِيۡرًا مِّنَ النَّاسِ لَفٰسِقُوۡنَ) فحذر من عقاب الله لمن تولى عن بعض ما أنزل الله، أي أعرض عن أي حكم من أحكام الله، واعتبره فاسقا ظالما يستحق العقاب الشديد، وكافرا فاسقا ظالما إن أنكر حكم الله.
وحذّر النّاس إن هم أعرضوا عن حكم الله وابتغوا حكم الجاهلية، فقال تعالى: “اَفَحُكۡمَ الۡجَـاهِلِيَّةِ يَـبۡغُوۡنَؕ وَمَنۡ اَحۡسَنُ مِنَ اللّٰهِ حُكۡمًا لِّـقَوۡمٍ يُّوۡقِنُوۡن” فكل حكم غير حكم الله هو حكم جاهلية وحكم طاغوت وحكم الشيطان كما ورد في آيات عديدة. ولكن المؤمنين حقا، الذين يؤمنون بالله ورسوله وبما أنزل على رسوله يقينيا، إيمانا لا ريب فيه، لا يرضون بغير ما أنزل الله، ولا يسكتون على ذلك، ويعملون على تغييره، فلا يتابعون الحكام الفسقة والظلمة ولا يرضون بهم وبما يحكمون ويعملون على إسقاطهم.
لقد حكم ربّ العالمين أنّه من لم يحكم بما أنزل الله، فهو إمّا كافر إذا أنكر حكم الله أو اعتبره غير صالح للعصر، فقال تعالى: (وَمَنۡ لَّمۡ يَحۡكُمۡ بِمَاۤ اَنۡزَلَ اللّٰهُ فَاُولٰٓٮِٕكَ هُمُ الۡكٰفِرُوۡنَ). وإمّا ظالم وفاسق (وَمَنۡ لَّمۡ يَحۡكُمۡ بِمَاۤ اَنۡزَلَ اللّٰهُ فَاُولٰٓٮِٕكَ هُمُ الظّٰلِمُوۡنَ) (وَمَنۡ لَّمۡ يَحۡكُمۡ بِمَاۤ اَنۡزَلَ اللّٰهُ فَاُولٰٓٮِٕكَ هُمُ الۡفٰسِقُوۡنَ) إذا آمن به ولم يحكم به، وأعد الله له عذابا أليما. وحذّر النّاس من السّكوت عن الحكّام الذين لا يحكمون بما أنزل الله ولو حكما واحدا، وإلا فسيصيبهم ما أصاب الأقوام الأخرى. علما أن البلاء نازل بهم وهم لا يشعرون. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَأْمُرُنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلَتَنْهَوُنَّ عَنْ الْمُنْكَرِ أَوْ لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عِقَابًا مِنْهُ ثُمَّ تَدْعُونَهُ فَلَا يُسْتَجَابُ لَكُمْ». رواه الترمذي
وحذر الحكام الذين يغشون أمتهم ويخونونها فقال رسول الله ﷺ: «مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللَّهُ رَعِيَّةً يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلَّا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» رواه مسلم.
الحكم بغير ما أنزل الله من أعظم الغشّ:
فأعظم الغشّ للرعية أن تحكمهم بغير ما أنزل الله، بأن تحكمهم بقوانين وضعية من صنع البشر التي يشرّعونها حسب أهوائهم ومصالحهم، وأن تقرّ بما يُناقض الإسلام: من ديمقراطية وعلمانية وحريّات عامّة وحقوق إنسان غربيّة، وأن تبيح الحرام باسم الحريات وحقوق الإنسان، فتبيح الربا والزنا واللواط والسفور والخمر والميسر والعقود الباطلة في المعاملات والاتفاقيات الباطلة مع الدول المستعمرة ومؤسستها مثل صندوق النقد الدولي.
الحكم في تونس اليوم وضع استعماريّ خالص:
لمّا دخل المستعمرون الفرنسيون، تونس البلد الإسلامي العريق بدأوا يعيثون فيه فسادا وتخريبا عاملين على تركيز ثقافتهم حتى يزيلوا الإسلام منه، ويركزوا استعمارهم عند خروجهم عسكريا. فأقاموا فيه نظاما مقتبسا من نظامهم العلماني البغيض لتكون تونس تابعة للغرب قلبا وقالبا، ولم تخرج العساكر الفرنسيّة من تونس إلّا بعد تنصيب حكّام ممن تشربوا ثقافتهم الفاسدة وعلى رأسهم الهالك بورقيبة. الذي خالف وأبطل ما عليه الناس أهل البلد المسلمين من مفاهيم ومقاييس وقناعات إسلامية، فحكمهم الطاغية بورقيبة بدعم من المستعمرين الغربيين بالحديد والنار والبطش والتنكيل وإخراس أصوات المحاسبين والمعارضين. فلم يكن همّه وهمّ من معه ممن والوا الغرب إسعاد الناس ورعايتهم أحسن رعاية وتأمين مصالحهم، ونهضة البلاد وتقدمها، بل كان الهدف كلّ الهدف تركيز ثقافة المستعمر ونظامه واستمرار الولاء له. ولهذا لم تنهض البلاد ولم تتقدم واشتد الاحتقان في البلد وكادت الأمور أن تفلت من يده ويسقط النظام.
ثمّ خرِف الرجل ورده الله إلى أرذل العمر، فجاء الإنجليز أصحاب النفوذ السياسي في البلد برجل الأمن “بن علي” ليواصل البطش والتنكيل بالناس، للمحافظة على النظام العلماني المخالف لما يؤمن به الناس واستدامة الولاء للغرب وخاصة النفوذ الإنجليز. أما نهضة البلد وتأمين مصالح الناس وحسن رعايتهم والمحافظة على كرامتهم والرقي بهم، فكل ذلك ليس في حساباتهم من شيء. فالمهم بقاء النظام العلماني جاثما على صدور الناس وبقاء الولاء للمستعمر الغربي الذي يشبه المعبود لدى المضبوعين بثقافته.
ثار الناس على هذا النظام الذي أقامه الغرب الكافر المستعمر، فأسقطوا “بن علي” رأس السلطة، ولكنّهم لم يسقطوا النظام نفسه، لأن الناس لم يميزوا بين الحاكم والنظام، فظنوا أنه بسقوط الحاكم يتغير كل شيء. ثمّ توالت حكومات محافظة على نفس النظام المقتبس من الغرب، فدستور 2014 لم يختلف كثيرا عن دستور عام 1959. والحكام أشبه بمن سبقهم موالون للغرب لا يُبرمون دونه أمرا.
ثمّ جيء بقيس سعيد فسار سيرة من سبقه من حكام فاسدين موالين للغرب، لم يختلف عنهم، ووضع مشروع دستور ليحافظ على النظام الجمهوري العلماني المقتبس من الغرب. فمشروع دستوره لا يختلف عن سابقيه، بل هو الدستور السابق نفسه، مع بعض تعديلات تؤكد البعد عن الإسلام. من ذلك ما ورد في الفصل الخامس: “وعلى الدولة وحدها أن تعمل في ظل نظام ديمقراطي” والنظام الديمقراطي يعني أنّ التشريع للبشر، وهو -عنده- الأصل المعتمد الحاكم على غيره، أمّا قوله: “تحقيق مقاصد الإسلام الحنيف في الدفاع عن النفس والمال والدين والحرية”، فليس إلّا من قبيل التزيينات المخادعة، لأنّه يجعل الإسلام العظيم مجرّد فرع محكوم بتشريعات البشر من دون الله تعالى، فيجعل قول البشر فوق قول الله تعالى. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.
فالأصل عنده، ليس الإسلام وإنما النظام الديمقراطي. ولهذا قال في تعديل آخر: “لا توضع قيود على الحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور إلا بمقتضى قانون ولضرورة يقتضيها النظام الديمقراطي ..” أي أنّ الحقوق حسبما يقتضيه التشريع البشري، وليست حسب الشرع الإسلامي، وفي الوقت نفسه يطلق الحريات للناس بما يقتضيه النظام الديمقراطي.
وهو بذلك يخالف حقيقة الإنسان المخلوق لله تعالى، والإنسان بموجب هذه الحقيقة هو عبد لله، فيجب الإقرار بالعبودية لله، ومقتضاها أن يخضع الإنسان لحكم الله لا غير. فكل المواد الواردة في الدستور تستند إلى النظام الديمقراطي، وفصل الدين عن الحياة وعن الدولة. فهو دستور كالدّساتير من قبله، يُبعد الإسلام بل يُناقض أحكامه، فمن يصوت له، ومن يرفضه يدعو إلى دستور عام 2014، سواء في الابتعاد عن الإسلام ومناقضته وسيكون حسابه عند الله عسيرا، ولن ينجوَ من هذه الفتنة إلا من دعا إلى الدستور الإسلامي المستنبط من كتاب الله وسنة رسوله.
أليس لهذه المصيبة من تدارك؟
يبدو أنّ قيس سعيّد لم يتعلم الدرس وما حلّ بالبلاد من جراء بقاء النظام الديمقراطي، ولم يعتبر من مصير من سبقوه من الحكام، ولم يدّكر ويتذكر فيعود إلى ربه معترفا بذنبه تائبا إلى الله، مؤمنا بأن الربوبية لله وحده، منكرا لربوبية فرنسا وثقافتها المتهالكة، فيعلن أنه عبد لله يأتمر بأمره وينتهي عن نهيه، فيضع الدستور الإسلامي محل التطبيق وقد فصله حزب التحرير، وهو في متناول يديه، وشبابه بين ظهرانيه، فينجو وينجو معه أهله وشعبه من الهلاك.
أليس لهذا الذي يزعم أنّه رئيس من واعظ؟ فكم بقي من عمره؟! ألا يدري أنّه في أية لحظة سيُودّع هذه الدنيا ومن ثم سيعود إلى ربّه فيحاسبه حسابا عسيرا؟ وأنّه إن أصرّ على نهجه فسيدعو ثبورا ويصلى سعيرا، أيظنّ أنّه لن يحور؟!
ثمّ أين رجال تونس الأتقياء الأنقياء الذين يؤمنون بالله ربّا وبمحمّد صلّى الله عليه وسلّم رسولا من عند الله؟ أين هم والمستعمر يقرّر مصيرهم ويضع لهم الدّستور و القوانين؟ نقول لهم هل أنتم عباد الرحمن؟ أم عبيد للمستعمر؟
أستاذ أسعد منصور
CATEGORIES بطاقات خاصة