قيام الجمهوريّة التركيّة: مناورة استعماريّة لإلغاء الخلافة وتعطيل الشّرع وتمزيق الأمّة
حدّث أبو ذرّ التونسيّ قال :منذ قرابة القرن (97 سنة) غدر المسمّى مصطفى كمال أتاتورك بالأمّة الإسلاميّة وطعنها في مقتل طعنة نجلاء أودت بها وبدولتها وشرع ربّها.. فبتاريخ 01/11/1922 عمد هذا اليهوديّ الماسونيّ بإيعاز من أسياده الأنجليز إلى إعلان قيام الجمهوريّة التركيّة على أنقاض الدولة العثمانيّة العليّة قبل أن يمحو الخلافة برمّتها من الوجود.. وهو حدث مفصليّ بامتياز في تاريخ الأمّة مشحون بالرمزيّات العدميّة الاستئصاليّة المعادية بما يُبوّئه مرتبة النكبة والمصيبة والطّامة الكبرى في حقّ الإسلام والمسلمين ـ كيانا وانتماء ومرجعيّة وهويّة ـ فقد ترتّب عنه آليّا اندراس حكم الله من الأرض واستحالة تطبيق الشرع لاستبدال طريقة تطبيقه (الخلافة) بنظيرتها في المبدأ الرأسماليّ (النظام الجمهوريّ)..واستتبع ذلك نتائج كارثيّة لعلّ أشدّها فظاعة انفراط عقد المسلمين وتمزّقهم إلى أكثر من خمسين كيانا تصطلي بنار أنظمة الكفر وتعاني المسخ والنهب والتبعيّة والارتهان والذّوبان في الغرب وكفى بذلك إثما مبينا..أمّا الجمهوريّة التركيّة الوليدة فقد تحوّلت بعد مجد السلطنة وعزّ الباب العالي إلى ناطور يحرس مصالح الغرب في إقليمه ويتنقّل بين أحضان بريطانيا وأمريكا ويركض لاهثا خلف سراب الانضمام إلى النادي الأوروبيّ دون جدوى.. وبما أنّ تداعيّات الحدث مازالت تُلقي بظلالها وضلالها على المشهد السياسيّ الدوليّ فمن المفيد للأمّة الإسلاميّة وهي تتحسّس طريقها نحو التحررّ والخلاص أن تعيد تحقيق مناط هذا الحدث الجلل بما يشخّص علّتها ويساعدها على فهم واقعها ورسم خطّ سيرها نحو استئناف الحياة الإسلاميّة..فما هي الظرفيّة التّاريخيّة والسياسيّة التي حفّت بقيام الجمهوريّة التركيّة..؟؟ وكيف تمكّنت بريطانيا من الإطاحة بصرح الدولة الإسلاميّة دون أن تحرّك الأمّة ساكنا..؟؟ وهل كان ذلك (تجسيدا لإرادة الأمّة التركيّة) كما يزعُمون أم تنفيذا لمخطّطات الكافر المستعمر المستهدفة للإسلام والمسلمين..؟؟
رمزيّات الحدث
لماذا أصرّت بريطانيا على القضاء على نظام الخلافة ولم تكتف باحتلال الدولة العثمانيّة وتقطيع أوصالها..؟؟ ممّا لا شكّ فيه أنّ نظام الحكم يمثّل أهمّ عنصر من عناصر المنظومة المكوّنة للمبدأ ،فهو حاضنته وكيانه وجهازه التنفيذيّ والقناة التي يتجسّد عبرها عمليّا في واقع الحياة ،وهو بمثابة الطريقة للفكرة التي يقوم عليها المبدأ ،بحيث أنّه بدون نظام حكم يبقى المبدأ مجرّد فكرة طوباويّة خياليّة غير قابلة للتطبيق..هذا الحكم لا ينسحب على الإسلام فحسب بل يتأكّد في حقّه بوصفه عقيدة عقليّة سياسيّة روحيّة ينبثق عنها نظام، أي دينا منه الدولة كحكم من أحكامه وجزء لا يتجزّأ منه وكطريقة شرعيّة ووحيدة لترجمته ميدانيّا..من هذا المنطلق فإنّ الكافر المستعمر في سعيه المحموم للقضاء على الإسلام وتفتيت وحدة المسلمين الصمّاء ،ركّز مجهوداته باتجاه إسقاط الدولة الإسلاميّة وإلغاء نظام الخلافة لأنّه يعلم علم اليقين أن لا وجود للإسلام خارج إطار كيانه السياسيّ وجهازه التنفيذيّ..ففتح لذلك جبهتين متوازيتين متكاملتين :الأولى عسكريّة ميدانيّة سعى من خلالها إلى غزو الأرض ومحو الدولة بالقوّة ،أمّا الثانية ففكريّة ثقافيّة سعى من خلالها إلى غزو العقول وإيجاد رأي عامّ لمشروعه الهدّام بين ظهرانيّ المسلمين أنفسهم في محاولة منه لطمس معالم نظام الحكم في الإسلام وفكّ ارتباطه بالشريعة..وقد كان للكافر المستعمر أكثر ممّا أراد :فقد بسط نفوذه على كامل التراب العثمانيّ وأصبحت افتراءاته متبنّاة من طرف المسلمين أنفسهم..ورغم هزيمة الدولة العثمانيّة في الحرب العالميّة الأولى ووقوعها تحت الاحتلال وتفكيكها إلى كيانات هزيلة ،فإنّ الحلفاء أصرّوا على إلغاء الخلافة، فمادام الرأس حيّا فقد يستعيد الجسد عافيته لذلك يجب قطع الرأس درءا لكلّ خطر محتمل..وما أن تحصّلت بريطانيا على ضمانات بسلخ تركيا عن الإسلام حتّى انجلى الحلفاء عنها وسلّموها لعميلهم أتاتورك ،وقد برّر المندوب السّامي البريطاني هذه الخطوة بقوله (لن تقوم لتركيا قائمة فقد قضينا على المقوّمين الأساسيّين لقوّتها :الإسلام والخلافة)..
حكومة موازية
كيف استطاع الكافر المستعمر أن يُنجز هذه المهمّة التي تبدو مستحيلة :توظيف المسلمين كمعاول هدم للإطاحة بصرح دولتهم وإلغاء تاج عزّهم (الخلافة) من الوجود..؟؟ بعد الحرب العالميّة الأولى حافظ الحلفاء على جثّة الدولة العثمانيّة لكنّهم اختلفوا بشدّة حول تقسيم تركتها ،فأخذت بريطانيا ـ كعادتها ـ تعمل لحسابها الخاصّ بمنتهى الخبث والمكر..أولى الخطوات التي انتهجتها تمثّلت في سحب البساط من تحت حكومة الخليفة الشرعيّة وتأسيس حكومة موازية كقناة لتمرير مشروعها :فأنشأت وسطا سياسيّا مواليا لها وأثّثته بجمعيّات سريّة تتولّى (عمليّات المقاومة) من أجل خلق أجواء نضاليّة وزعامات مزيّفة يلتفّ حولها النّاس وينفضّون عن الخليفة.. وقد أوكلت أمر قيادة هذه الحركة المصطنعة إلى عميلها أتاتورك وألبستها ثوب الحركة الوطنيّة وهيّأت لها كلّ ظروف النجاح لتتولّى التصدّي لجيش الخليفة ولمنافسيّ بريطانيا من الحلفاء تحت غطاء النضال من أجل التحرّر..وهكذا بدأ نجم أتاتورك وحركته يسطع ويظهر في صورة المدافع عن الشعب التركي في مقابل أفول نجم الخليفة وظهوره في صورة العاجز والعميل والمتواطئ ممّا شجّع بريطانيا وعميلها على البدء في إرساء مؤسّسات موازية تمهيدا للانقلاب على الخليفة..فبتعلّة أنّ الحكومة المركزيّة والسلطان في استانبول واقعان تحت سيطرة الحلفاء ،دعا أتاتورك وعصابته المارقة إلى قيام حكومة وطنيّة في الأناضول ،فقاموا بعقد مؤتمر وطنيّ في (سيواس) للنظر في الوسائل الكفيلة بالاحتفاظ باستقلال تركيا ،وقد انتخب المؤتمر لجنة تنفيذيّة ونُصِّب أتاتورك رئيسا لها.. وكانت أولى قراراتها مطالبة الخليفة بإجراء انتخابات لبرلمان (جديد وحرّ) وعزل رئيس الوزراء المناوئ لعصابة أتاتورك واستبداله بأحد صنائع الأنجليز..ورغم أنّ العصابة الأتاتوركيّة فازت بالأغلبيّة السّاحقة في البرلمان الجديد إلاّ أنّ أتاتورك أصرّ على عدم حلّ المؤتمر والإبقاء عليه كمؤسّسة موازية للبرلمان الرسميّ في خطوة انقلابيّة تشي بأنّه يريد الانفصال عن الخلافة والتحرّك من خارج مؤسّسات السلطنة بغية تقويضها..
ميثاق مسموم
ثمّ انتقل أتاتورك إلى تقويض أسس الدولة الإسلاميّة من الدّاخل ،فكانت باكورة قرارات (برلمان الضّرار) ميثاقا وطنيّا ينصّ على أن تكون تركيا (حرّة مستقلّة داخل نطاق حدودها الطبيعيّة) وهذا عين ما خطّط له الاستعمار وعمل من أجله :فقد اقتلع من أفواه المسلمين الرغبة في تفكيك دولتهم ، وبذلك يكون مشروع الحلفاء المتمثّل في تقطيع أوصال الدولة العثمانيّة وتقسيمها وتقزيمها والقضاء عليها مطلبا شرعيّا للمسلمين أنفسهم..بعد هذا النصر المبين الذي تجاوز انتظارات الحلفاء لم يعد هناك مبرّر لوجودهم العسكريّ ،فأخذوا ينسحبون طواعية من البلاد وتركوا للعصابة الأتاتوركيّة حريّة المقاومة وافتعلوا لها انتصارات وهميّة لإيهام الشعب بأنّها حرّرت البلاد ،فاشتعلت نار المقاومة في الأتراك وتحوّلت بتوجيه من الأنجليز إلى ثورة ضدّ السلطان..وقد سعى أتاتورك إلى إيجاد رأي عامّ معاد للخليفة والخلافة فأشاع بين النّاس أنّ السلطان وحكومته طلبوا من بريطانيا إعادة احتلال العاصمة وإغلاق البرلمان واعتقال الوطنيّين ،فاهتزّت صورتهم عند الشعب وأصبح أتاتورك وجيشه محطّ الأنظار ومعقد الآمال.. إلى هذا الحدّ كشّر أتاتورك عن أنيابه وأقدم على خطوة مشحونة بالرمزيّات العدائيّة :فأصدر منشورا يدعو إلى انتخاب جمعيّة وطنيّة تأسيسيّة يكون مقرّها (أنقرة) بما يفضي إلى تأسيس دستور جديد للبلاد والقطع مع عاصمة الخلافة والانقلاب على هويّة الدولة العثمانيّة برمّتها..وقد كان له ما أراد ،فانتُخبت الجمعيّة الوطنيّة وعلى رأسها أتاتورك وقدّمت نفسها بوصفها (الحكومة الشرعيّة) وسرعان ما تلقّفتها بريطانيا واصطنعت لها أمجادا وبطولات حيث مكّنت جيش أتاتورك من الانتصار على اليونانيين وطردهم من السواحل الغربيّة ممّا زاد في شعبيّته وحوّله إلى بطل قوميّ وضاعف من تهميش السلطان والخلافة..في الأثناء دخلت (حكومة الضّرار) هذه في مفاوضات مع الأنجليز أسفرت عن صفقة مسمومة مفادها تخلّي اليونانيين عن باقي الأراضي التركيّة وجلاء الحلفاء عن تركيا مقابل القضاء على الحكم الإسلاميّ واستقلال تركيا بوصفها دولة قوميّة للشعب التركيّ لا دولة خلافة للأمّة الإسلاميّة..
فصل السلطنة عن الخلافة
لقد اهتبل أتاتورك فرصة الالتفاف الشعبيّ والكاريزما التي أضحى يتمتّع بها واستثمرها في تنفيذ بنود اتفاقه مع الحلفاء والاضطلاع بالدور الجديد الذي أسندته إليه بريطانيا لسلخ تركيا عن الإسلام.. فتجرّأ على استهداف مؤسّسة الخلافة ولكن بمكر مركّب من خبث اليهود ودهاء الأنجليز :فهو يعلم أنّ الخلافة خطّ أحمر قد يثير ضدّه حتّى أتباعه ،لذلك اعتمد سياسة المراحل واكتفى ابتداء بفصل السلطنة عن الخلافة كمقدّمة للقضاء عليهما معا..فجمع الجمعيّة الوطنيّة وعرض عليها مقترحه ،وقد أدرك النوّاب خطر هذا المقترح والنوايا الخبيثة الكامنة وراءه، فتحرّكت فيهم غريزة التديّن وطالبوا بإحالته على لجنة الشؤون القانونيّة لدراسته..غير أنّ اللجنة لم تجد ما يبرّر هذا الفصل:فالسلطنة والخلافة شيء واحد ولا يوجد في الإسلام سلطة دينيّة وأخرى زمنيّة ، لذلك رفضت المقترح شكلا ومضمونا.. إلى هذا الحدّ فَقَد أتاتورك أعصابه واعتلى مقعدا وصاح مهدّدا في حركة بلطجيّة (إنّ السلطنة يجب أن تُفصل عن الخلافة وتُلغى وسواء وافقتم أم لا فسيحدث هذا ،كلّ ما في الأمر أنّ بعض رؤوسكم سوف تسقط في غضون ذلك)..ولمّا تبيّن لأتاتورك أنّ اتجاه الآراء مازال مائلا نحو الرفض جمع أنصاره وقرّر الالتفاف على إرادة النوّاب ،فطالب بأخذ الرأي برفع الأيدي مرّة واحدة حتّى يتمكّن من المغالطة وتزييف النتيجة، لكنّ النوّاب أصرّوا على المناداة بالإسم فرُفض طلبهم..ولمّا طُرِح الاقتراح للتصويت لم ترتفع غير أيد قليلة لكنّ الرئيس أعلن أنّ المجلس أقرّ الاقتراح (بإجماع الآراء) في فضيحة سياسيّة تاريخيّة مدوّية..وبذلك صار الخليفة صوريّا مجردا من أيّ سلطان وصارت الخلافة منصبا دينيّا روحيّا شرفيّا ،وخلا الجوّ أمام أتاتورك لسدّ الفراغ في الحكم الذي تركته السلطنة بالنظام الجمهوريّ المسموم..
القضاء على الخلافة
بعد جريمة الفصل بدأ أتاتورك يعدّ العدّة لاغتصاب السلطة وحصر كافّة صلاحيّات الحكم في ذاته بما يمكّنه من إلغاء الخلافة ،لذلك لم يقبل بمنصب رئيس حكومة دستوريّة محسوبة على الخليفة ،بل قام بتأسيس حزب (الشعب) ليتمكّن من النشاط من خارج هياكل الدّولة وتغيير نظام الحكم فيها..على هذا الأساس أخذ يعمل على تعجيز الحكومة وإيقاع الدولة في أزمات متتالية مستعينا برجالات بريطانيا المتغلغلين في دواليب الدولة ليُجبر الجمعيّة الوطنيّة على أن تلتجئ إليه فيكون في موقف قوّة ويتمكّن من فرض شروطه وإملاءاته ،وقد كان له ما أراد :إذ دُعِي بعد أزمة مُستحكِمة إلى تولّي الوزارة ،فأظهر التمنّع ولم يقبل إلاّ بعد أن أُطلِقت يداه بكامل الحريّة ،فأفهم النوّاب أنّ الأزمة نابعة من فساد نظام الحكم المتّبع (الخلافة) وأنّ المخرج في النظام الجمهوريّ ،ثمّ وبمقتضى الصلاحيّات الواسعة الممنوحة له استصدر مرسوما يجعل من تركيا جمهوريّة ومن نفسه أوّل رئيس لها ،وبذلك فرض نفسه حاكما شرعيّا للبلاد..هذه الولادة القيصريّة للنظام الجمهوريّ لم ترُقْ للشعب التركيّ المسلم الذي رأى فيها خطوة للقضاء على الخلافة والإسلام، فرمى أتاتورك وحكّام أنقرة الجدد بالزّندقة والإلحاد والكفر،والتفّ حول الخليفة وحاول أن يُعيد إليه السلطة.. إزاء هذا الموقف انتهج أتاتورك سياسة الترهيب وتكميم الأفواه ،فسنّ قانونا يقضي باعتبار كلّ معارضة للجمهوريّة أو ميل للخليفة (خيانة عظمى يُعاقب عليها بالموت) وقام فعلا باغتيال بعض النوّاب المساندين للخليفة.. ولم يكتف بذلك بل أخذ يهيّئ الأجواء لإلغاء الخلافة ،فشنّ حملة من الإشاعات المغرضة لتشويه الخليفة وأنصاره متّهما إيّاهم بالخيانة والتحالف مع الأعداء والعمالة لبريطانيا إلى أن أوجد رأيا عامّا مناوئا للخليفة وللخلافة..ولمّا تحقّق له ذلك تقدّم في 03/03/1924 إلى الجمعيّة الوطنيّة بمرسوم يقضي بإلغاء الخلافة وطرد الخليفة وفصل الدّين عن الدّولة فأقرّته دون مناقشة..
إذن فإسقاط الخلافة وتبنّي النظام الجمهوريّ ليس قرارا سياديّا إسلاميّا بل هو جريمة مركّبة ـ صليبيّة صهيونيّة ماسونيّة ـ وحركة بلطجيّة مفروضة على الأمّة ومناورة استعماريّة مسمومة لتعطيل الشرع وتمزيق الأمّة..