في غياب الخطاب السياسي المقنع على مستوى العالم وعجز المنظومة السياسية القائمة عن تقديم إجابات مقنعة عن الأسئلة المطروحة في القضايا الكبرى التي تهم العقل والإنسان والاقتصاد وغيرها من القضايا الحارقة دوليا واقليميا ومحليا وحتى فرديا أصبح للخطاب الشعبوي مكانه في منظومة الحكم الحالية في أوروبا وأمريكا وفي عالمنا الإسلامي
شعبوية الخطاب قيس سعيّد نموذجا
قيس سعيد مثال واضح يمكن التدليل عليه بالنظر في خطابه وفي منهجه.فوصوله لقصر قرطاج ساهم فيه حديثه (السطحي)عن بعض القضايا التي تهم حياة الناس دون أن ينفذ إلى عمقها من حيث التقييم او تقديم المعالجة واقتصر خطابه على بعض الألفاظ والمدلولات فارغة المضمون ولكنها تلامس المشاعر وتدغدغ الاحاسيس على غرار الشعب يريد، وهو شعار حملته الانتخابيّة، استعمال هذا الشّعار يوهم بأن إرادة العامّة هي التي ستتحقق بإيصال صاحب هذا الطرح إلى الحكم باعتباره تعبيرة من تعبيرات إرادة الشعوب
كلمة خيانة عظمى التي استعملها قيس سعيد في علاقة بالتعامل مع كيان يهود رفع من شعبية الرجل وحرك في الناس مشاعر العزة وأثار قضية تعتبر من القضايا الأولى في عالمنا الإسلامي وجلب له التعاطف من الدّاخل والخارج. في حين انها كلمة لم تتجاوز الخطاب الشعبوي فلم تتحول إلى فعل سياسي جادّ، يزيل كيان يهود الغاصب أو على الأقلّ يطهّر البلاد من أصدقاء كيان يهود زما أكثرهم، ولعلّه من المضحكات المبكيات أنّ أوّل سفر لقيس سعيّد الرئيس كانت إلى سلطنة عمان لتقديم العزاء في سلطان استقبل “نتانياهو” جهرة وبكلّ وقاحة. نعم حزن عليه قيس سعيّد وسافر للعزاء، أليس هذا انفصام في الخطاب والفعل؟؟؟ لتتحوّل كلمة “خيانة عظمى” إلى مجرّد شقشقة لفظيّة لا معنى لها إلا تملّق الشّعب. وهذا هو المعنى الحقيقي للشعبويّة
أكثر قيس سعيد استعمال اسم الاخشيدي وكرره في أكثر من مناسبة، هو أحد الاستعمالات الخبيثة للخطاب الشعبوي بتركيز ألفاظ ومدلولات تظلّ ثابته في العقل الجمعي وتصبح مادّة للاستعمال والتندر اليومي وهو ما يسهّل ترسيخ شخصية الرجل وجعلها محفورة في الأذهان ومرتبطة بالاستعمال اليومي لهاته الالفاظ حتى وان لم تدرك الناس شخصية الاخشيدي وفعله مع المتنبي المهم هو إطلاق الكلمات والالفاظ لترتبط بقائلها وتطبع في العقول.
لم يتوقف خطاب سعيد الشعبوي بعد وصوله للرئاسة بل تواصل معه طيلة فترة حكمه وكل الخطابات التي توجه بها إلى الشعب تضمنت نفس العبارات الفضفاضة ذات المدلولات الغامضة والملتبسة ولكنّها محركة للمشاعر، وهذا يدل على المواصلة في نفس الاسلوب ولكن بغايات مختلفة فالأولى كانت للوصول إلى الحكم والثانية للمحافظة عليه وتصفية خصومه السياسيين.
شعبوية المنهح
القول ان نهج عمر بن الخطاب هو المنهج الذي يريد السير فيه لا يعدو ان يكون لعبا على نفس أوتار الخطاب وهو الحفر في النفسية المتشكلة عند الشعب المسلم لما لعمر بن الخطاب من رمزية عند الناس وارتباط اسم عمر بن الخطاب بالعدل والحق وهو ما يبحث عنه الناس جراء الظلم المسلط عليهم من منظومة الحكم الحالية
العدل الذي تحقق في عهد الفاروق لم يكن لأنّ عمر اتّبع آراء النّاس وحقّق لهم رغباتهم بل كانثمرة حسن تطبيقه النّظام الإسلامي ولو خالف رأي الأغلبيّة،وهذا ما يقع تغييبه بل مناقضته في خطاب قيس سعيد وهو أصل الموضوع.
فالعدل لا يحقّقه رأي الشعب أو الأغلبيّة بل العدل مرتبط أساسا بالنظرة للحياة وللعلاقات والقيم ومفهوم السعادة والقوانين والتشريعات الكلية والجزئيّة وهو ما لا يوجد إلّا في الإسلام العظيم، وكان يكفي عمر بن الخطاب أن يجتهد في تطبيقه ليضمن العدل وليفرق بين الحق والباطل ولو وجد سيدنا الفاروق بشخصيته تلك في منظومة حكم أخرى وحاشا لله ان يكون فلا يمكن الحديث عن عدل الفاروق اليوم لأن المسألة تتجاوز الشخص للمنظومة التي تساس بها حياة الناس.
ولعل منظومة الحكم التي يديرها قيس سعيد أكبر دليل على أنّ العدل لا يتحقق بمجرد التشبّه بشخص عادل أو بالحديث عن مناقب الأشخاص الذين سطّر التاريخ صحائف عدلهم، بل يكون بالاهتداء للمنظومة التي تحقق العدل والقسط، ولا منظومة في الدّنيا تحقّق العدل إلا الإسلام وتطبيق أحكامه،أما الخطابات الرنّانة التي لا يصدّقها العمل فخطب جوفاء تتملّق النّاس في شعبويّة هي النّفاق بعينه، لمخالفتها الصريحة لمقتضيات تحقيق نظام عادل، وقيس سعيّد مسلم ويعرف نظام الإسلام ولكنّه أعرض واطبى
والمفارقة التي تؤكّد شعبوية المنهج الذي اختاره قيس سعيد هو دعوته للديمقراطية الشعبية التي تنطلق من انتخاب تمثيليات الناس في الجهات ومن ثم الأقاليم وصولا إلى المركز وهي تعبيرة من تعبيرات الديمقراطية الشعبية والمحلية وهو ما يخالف المنهج الرباني الذي سار عليه عمر.فعمر ابن الخطّاب كان لا يسأل عن رغبات النّاس أو عن إرادة الشّعب بل كان يسأل عن إرادة الله وحده يسأل عن الحكم الشّرعيّ لا يبتغي سواه، ومن ثمّ كان يطوف على النّاس في مدنهم وأحيائهم ليطبّق عليهم شرع الله وحده، والمتأمّل في هذا يرى التناقض بين قيس سعيّد وعمر ابن الخطّاب كالتناقض بين الليل والنّهار لا يلتقيان. إذن لماذا يصرّ قيس سعيّد على زعم التشبّه بعمر ابن الخطّاب وهو لا يسير سيرته؟
إنّها الشعبوية لتجميع مناصرين أكثر وتجميع الغاضبين من الحكّام.
هذا النوع من الجمع بين التناقضات الفكرية هو في الحقيقة استمالة لجميع الأذواق وخداع للجماهير بطرح مشاعري يثير الأنفس ويجعلها تخدم صاحب هذا التوجه دون وعي او حتى مجرد تفكير وهذا عين الشعبوية.
وهو ما ينطبق على التعريفات المختلفة للشعبويّة كتيّار، إذ يعرفه البعض بأنه نوع من أنواع الخطاب الديماغوجي لتحييد القوى العكسية حيث يعتمد إثارة عواطف الجماهير لكسب تأييدهم وجعلهم خزانا انتخابيا ويركز على العاطفة دون التركيز على الخطاب الفكري الصريح الذي يعتمد مؤيدات وأرقام وحجج وبراهين
وهذا النوع من الخطاب عادة ما يكون خادعا للعامة المشاعرية التي تستهويها الشعارات الرنانة والخطابات الحماسية فيكونون هم أداة إيصال هؤلاء الشعبويبن وهم أدوات حمايته حين يظهر زيف دعوته وخواء شعاراته وطرحه.
الفكر هو الطريق الشاق لأصحاب مشروع التغيير
قد يتساءل الكثيرون عن سبب نجاح أصحاب الطرح الشعبوي مقابل أصحاب الفكر العميق في الوصول للعامة وإحداث التغيير. يرجع هذا الأمر إلى طبيعة النظام القائم اليوم في العالم وهو النظام الديمقراطي الذي يجعل حكم الاغلبية هو طريق الوصول للحكم. ويُعلي من شأن كل من له يد مباشرة أو غير مباشرة في الوقوف حجرة عثرة أمام نظام جديد ترضي أحكامه العقل وتطمئن القلب.
ومتابع الحصيف يرى أنّ اعتماد الأغلبية لم تكن في كلّ التجارب الدّيمقراطيّة الطريقة المثلى في إيصال الصالحين والقادرين على إدارة الشأن العام،فخداع السياسيين لعامة الناس أصبح فنّا يتقنه ممتهنو السياسة ولا يرون في استعمال الأكاذيب والوعود الزائفةأيّ حرج ما دام سيوصلهم إلى غاياتهم.
ولأن طبيعة الجماهير لا يستهويها الطرح الفكري العميق وتكتفي بما هو سطحي حتى وان كانت في قرارة نفسها تدرك خطأه ولكن النظر للقضايا الحقيقية بعمق والنظر إلى جوانبها ومآلاتها يشغل العقل ويأخذ حيزا كبيرا منه وهو عادة امر مرهق لا تقبل عليه الناس وتنصرف إلى من يسقيها خمرا معتقة ويعدها ويمنّيها الأماني، والمشكل ان هذا النوع من الاستغباء يتكرر مع كل عملية انتخابية ويقع الناس في شباك الخطاب الشعبوي في كل مرة.
والحل للخروج من هاته المتاهة التي تتسبب في إيصال من ليسوا أهلا للحكم والقيادة هو إثارة التفكير عند الناس ولا شي غير الفكر طريقا لإبطال مفعول سحر الخطاب المعتمد من قبل هؤلاء وإثارة الفكر وإنهاض العقول هو عمل شاق ولكنه في النهاية هوالضمانة الحقيقية لإيصال مشروع جدي للحكم وإيصال حكام ورجال دولة من رحم الأمة وحينها لن يكون للشعبويين وأصحاب الوعود الكاذبة ومستغلي مشاعر الناس مكان في مستقبل حكم الأمة.
ويصبح التركيز على الفعل السياسي دون القول السياسي المبتور عن العمل وما ان تصل الأمة لهاته المرحلة من النضج فلن يخعدها المتسلقون وبائعوا الأوهام، وستمنح ثقتها حينها لمن يستحق ولمن يقوم على أمر العامة وهو مخلص لها ولدينها ولن يجد الشعبويون والعملاء والوصوليون مكانا في الوسط السياسي الرشيد بحول الله.