كتاب مفتوح من حزب التحرير في تونس إلــــى القضــــــاة: لا سبيل إلى تحقيق العدالة القضائية إلّا بالإسلام
أيّها السادة القضاة، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
يقدّم لكم المكتب الإعلامي لـحزب التحرير/ ولاية تونس هذا الكتاب المفتوح واضعاً بين أيديكم موقفاً سياسياً وإعلامياً بشأن ضمان وجود قضاء خالٍ من الفساد والتمييز، يحفظ حقوق الناس ويكون حازماً في مساءلة الحكام.
أيّها السادة القضاة،
لقد عاشت البلاد طوال عقود تحت تسلّط أرهق العباد وخلّف في صدور النّاس ضيقاً وقهراً أدّى إلى انتفاضهم وثورتهم. وما علق بأذهان النّاس هو مظاهر التسلّط والظلم، وضياع الحقوق طيلة العقود السابقة. واليوم بعد أن اصطنع محترفو السياسة ديكتاتورية غلّفوها بمظهر جماعي توافقي زائف تحت غطاء “المصلحة الوطنية” التي تقتضي بزعمهم الخبيث الركون للاستعمار والتفريط في ثروات البلاد وخنق كل نفس ثوري يتوق للانعتاق والتغيير الحقيقي، هاهم حكّام ما بعد 25 جويلية يسيرون على نهج من سبقهم بافتعال القضايا الجانبيّة، وتركيز السياسة نفسها بإثقال كاهل البلاد والعباد بالديون التي تؤبد الاستعمار؛ إنّهم يسعون إلى تكريس استبدادهم باستعمال ترسانة من القوانين الاستثنائية تحت ضغط الظرفيات والسياقات المخيفة لفرض الأمر الواقع، وهم لا يعدمون الدواعي والمبررات، فمرة تحت جنح “مقاومة الإرهاب” ومرة باسم “المصالحة الاقتصادية”، ومرة تحت عنوان “مقاومة فيروس كورونا”، ومرة باسم “الجمهورية الثالثة”…
ثمّ إن محترفي السياسة يريدون أن يكون القضاء مجرد وسيلة تستغلها السلطة على مقتضى الاستثناء لا على مقتضى الأصل لتوليد استبداد جديد، يضمن لهم الاستمرار في ظل الفشل الذريع لخياراتهم الفكرية والسياسية في إقناع الناس أو في إحداث التغيير.
أيّها السادة القضاة:
يقوم مجموعة من النخبة داخل القيادة السياسية بتأمين مصالحهم ومصالح أسيادهم الاستعماريين من خلال القضاء. والديمقراطية تسمح لهم بأن يقرروا ما ينبغي أن يكون مسموحاً وما ينبغي أن يكون ممنوعاً، ثمّ يأتي دور القضاء في فرض إرادة النخبة!
إنّ هؤلاء السياسيين، المعلوم تشبّث بعضهم بمصالحه وولاء بعضهم الآخر لأجندات خارجية، يريدون إثقال كاهل القضاة بأوزارهم عن طريق تقنين الظلم؛ فالجميع يعلم أن تطبيق القوانين الموروثة من زمن الطاغية وتنفيذ القوانين الجديدة التي تحكمت فيها الأجندات الأجنبية وسياقات الغرف المظلمة سيكون لها تفريعات معقدة وتنزيلات فضفاضة والتباسات وآثار خطيرة لا تعدّ ولا تحصى، فإذا قننت وجرى بها العمل ستنعت في يوم ما بالظلم والاستبداد، وستكون الجهة المسؤولة عن ذلك أمام النّاس الجهاز القضائي… ثم بعد هبة أو انتفاضة أو ثورة جديدة يأتي سياسيون في لباس الواعظين ليتحدثوا عن ضرورة تطهير القضاء مع أنّهم هم أنفسهم من أوعز للقضاة بتقنين القوانين التي يريدون. فهؤلاء الساسة الذين لا مبدأ لهم، ليسوا سوى طلّاب مصالح وسلطة، وسيجدون فيما بعد من ينفض عنهم الغبار ليعرضهم من جديد في سوق السياسة كمصلحين وعارفين ومجربين من ذوي الأيادي النظيفة ولا سبيل للإصلاح والإنقاذ دونهم!…
فهل يعقل أن ينخدع القضاة بهذه الخدعة والمكيدة رغم أنّهم من أدرى الجهات على الإطلاق بكواليس هؤلاء الحكّام، وكيف صعدوا هذا الصعود ومن هي الجهات الاستعمارية التي تكفلهم وتراهن عليهم من أجل بسط النفوذ والسيطرة على هذا البلد؟!
أيّها السادة القضاة،
تعلمون أنّ الجريمة هي الفعل القبيح المخالف للنظام والمستوجب للعقوبة، أي هي الفعل المنتهك لعرف الجماعة، أو الفعل الشاذ، أو الفعل المحرّم من وجهة نظر وضعية بشرية أو شرعية ربانية، مما يستوجب عقوبة دنيوية أو أخروية. وعليه، فالفعل القبيح المخالف للنظام من وجهة نظر إسلامية هو ارتكاب محرّم نهى عنه الشرع ورتّب عليه إثماً أو عقوبة. فبربّكم أيّ الأنظمة أصلح للإنسان: نظام الخالق أم نظام المخلوق؟
إنّ نظام الإسلام يحتوي قوانين متعلقة بالجريمة وأحكام البينات ومقدار العقوبات، وهي كلّها في أصلها من عند الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الخلق وهو أعلم بما يصلح لهم ويصلح حالهم، ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾. [سورة الملك:14].
إنّ الإسلام نظام يشمل مجموعة من الأحكام الشرعية لرعاية شؤون الناس، ويجب تطبيقه من خلال القضاء دون أدنى محاباة أو تمييز على أساس النفوذ أو المركز أو أيّة مسألة أخرى، وهو ينصّ على ضمان حقوق الضعفاء بغض النظر عن عرقهم أو جنسهم أو مذهبهم أو دينهم، وقد قال رسول الله ﷺ، محذراً المسلمين: «… إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا» [رواه البخاري].
فليست هناك حصانة لأيّ حاكم، سواء أكان أميراً أو وزيراً. وقد ورد في مقدمة الدستور لحزب التحرير في المادة رقم (87): “قاضي المظالم هو قاض ينصب لرفع كل مظلمة تحصل من الدولة على أي شخص يعيش تحت سلطان الدولة، سواء أكان من رعاياها أم من غيرهم، وسواء حصلت هذه المظلمة من الخليفة أم ممن هو دونه من الحكام والموظفين”.
أيها السادة القضاة،
إنّ مهمتكم من أنبل المهمات وأعلاها قيمة، فليس القاضي مجرد مطيع لسيّده طاعة عمياء أو شاهد زور لا مناص له من تطبيق القانون بحكم القانون؛ وكيف لا، وأنتم تعلمون بأنّ القاضي يلقى يوم القيامة من الحساب هولاً شديداً حتى يتمنّى لو لم يقسم تمرة بين اثنين. وإنّ لكم دوراً رئيساً في إنقاذ هذا البلد بعد أن أرهقه وأنهكه ساسة لم ير الناس منهم سوى الخيبة تلو الخيبة والعجز عقب العجز… ونحذّركم بأنّ هؤلاء الساسة يسعون إلى نقل سقوطهم إلى ميدانكم، ويريدون منكم أن تؤسسوا نصف أقضيتكم على نصوص قانونية مهترئة وأخرى شرعت في الغرف المظلمة، وأن تخضعوا في النصف الثاني منها إلى السياقات المخيفة التي تحاك للبلاد والتي تنفخ فيها السياسات الإعلامية المتحركة بحسب الطلب، وهذا في ذاته فوق الظلم؛إنه البهتان والقهر… أخرج أحمد وأبو داود من حديث أبي طلحة الأنصاري وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما، عن النبي ﷺ قال: «مَا مِنْ امْرِئٍ يَخْذُلُ امْرَأً مُسْلِمًا في مَوْطِنٍ تُنْتَهَكُ فِيهِ حُرْمَتُهُ وَيُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ إِلَّا خَذَلَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ. وَمَا مِنْ امْرِئٍ يَنْصُرُ مُسْلِمًا فِي مَوْطِنٍ يُنْتَقَصُ فِيهِ مِنْ عِرْضِهِ وَيُنْتَهَكُ فِيهِ مِنْ حُرْمَتِهِ إِلَّا نَصَرَهُ اللَّهُ فِي مَوْطِنٍ يُحِبُّ فِيهِ نُصْرَتَهُ».
إنّ في فقه القضاء الإسلامي وسائر الأحكام الشرعية ما يكفي لتكون أمتنا كما أراد الله سبحانه لها ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾، وتكون لنا دولة كما بشّر بها رسول الله ﷺ:«خلافة على مِنهاجِ النُّبُوَّةِ»، فتكون الحقوق مصونة للجميع لا يطالها الاستثناء ولا يقربها الحيف ولو قليلا، بل تطبق الأحكام بالعدل على الحاكم والمحكوم والضعيف والقوي، بلا أدنى تمييز، فيكون الناس فيها كأسنان المشط، «لا فضلَ لِعَربيٍّ على أعجميٍّ ولا لعَجميٍّ على عربِيٍّ ولا لِأحمرَ على أسودَ ولا لِأسودَ على أحمرَ إلاَّ بالتَّقوى» كما قال رسول الله ﷺ.
فالحذر الحذر أيّها القضاة، إنّ من الساسة من يستدرجكم لسنّ القوانين الظالمة المخالفة لشرع الله عزّ وجلّ، وإنّ منهم من يريد استخدامكم لتثبيت سلطته، وأمّا نحن في حزب التحرير فندعوكم إلى الحكم بالإسلام وهو العدل الذي أمر به اللّه عزّ وجل: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ ٱلْأَمَٰنَٰتِ إِلَىٰٓ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِۦٓ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ سَمِيعًۢا بَصِيرًا﴾، فاستجيبوا لأمر ربّكم تنالوا عزّ الدنيا والآخرة.
تونس في الثامن من ذي القعدة 1443ه الموافق ل 07 جوان 2022م.
المكتب الإعلامي لحزب التحرير/ ولاية تونس
CATEGORIES محلي