كتاب مفتوح من حزب التحرير – ولاية تونس إلى أعضاء الحكومة التونسية إمضاء اتفاق مع صندوق النقد الدولي هو صك آخر لاستعمار تونس
السيدات والسادة أعضاء الحكومة التونسية
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد،
بعد الاتفاق يوم 15 أكتوبر 2022 بين صندوق النقد الدولي وتونس على مستوى الخبراء على تمويل قدره 1.9 مليار دولار لمدة 4 سنوات، نتوجه إليكم، نحن حزب التحرير ولاية تونس، ناصحين ومحذرين من عاقبة هذا الاتفاق وتداعياته على البلاد والعباد، خاصة وأنكم زعمتم في أكثر من مناسبة أنكم جئتم لتصلحوا ما أفسدته الحكومات السابقة.
أيها السيدات والسادة،
لقد درجت حكومات ما قبل الثورة وما بعدها على اتباع سياسة الاقتراض لمعالجة الأزمات الاقتصادية وتقديم التعهدّات بتطبيق البرامج والإملاءات الخارجيّة دون الرجوع إلى الأسباب الحقيقية التي أدّت إلى الوقوع في دوّامة المديونية وإدخال الاقتصاد في دائرة مفرغة يتزايد فيها طلب الدولة على القروض لتسديد الديون السابقة، بالإضافة إلى إرهاق الشعب بزيادة الضرائب المجحفة لتذهب هباءً منثوراً خاصة للمقرضين الخارجيين، ولا شك أنكم تدركون أنّ القروض الممنوحة لتونس من طرف صندوق النقد الدولي في 2013 (1,5 مليار دولار) و2016 (2,8 مليار دولار) و2020 (0.745 مليار دولار) لم تحل المشكلة الاقتصادية، بل على العكس من ذلك فقد ازداد الفقر وارتفعت نسبة البطالة والتضخم وتراكمت الديون بشكل مطرد بسبب القروض وخدمة الدين (الربا) وتدهور سعر العملة، حتى وصلت إلى 114 مليار دينار بحسب توقعات وزارة المالية للسنة الحالية (2022).
وأخطر ما في الأمر أن أكثر من ثلثي هذه الديون مستحقة لجهات خارجية تقايض مستحقاتها المالية بشروط مجحفة؛ حيث اتخذ صندوق النقد الدولي من القروض أداة لفرض شروطه على تونس، كتقليص كتلة الأجور ورفع الدعم عن الطاقة وعن المواد الغذائية الأساسية، والتخفيض في قيمة الدينار، والتقشف في الإنفاق الحكومي، وزيادة الضرائب، وخوصصة الملكية العامة والتفويت فيها للأجنبي، والتدخل في الجانب التشريعي والثقافي والسياسي وما ترتب عن ذلك من تبعية سياسية مطلقة وتدهور على مستوى المعيشة والقيم المجتمعية، ويكفي في هذا الخصوص أن نرجع إلى قانون الاستثمار وقانون استقلالية البنك المركزي لنعرف حجم الكوارث التي ترتبت عما يسمى بالإصلاحات الكبرى التي فرضها صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي على حكومة يوسف الشاهد السابقة.
إنكم تعلمون أنّ شروط صندوق النقد الدولي غير قابلة للنّقاش أو التّفاوض، وقد يسمح بإمهال الدّولة مدّة من الزمن لتطبيق شروطه ولكنّه لا يسمح بتغييرها مطلقا، بدليل أنه امتنع سنة 2019 عن تسليم تونس القسط السادس والسابع من القرض الممدد (2016-2020)، رغم تنفيذ 85 بالمائة مما يسمى بالإصلاحات (الاملاءات) المطلوبة بحسب ما صرح به توفيق الراجحي الوزير السابق المكلف بالإصلاحات الكبرى، وهو ما يؤكد أنّ وظيفة صندوق النقد الدولي الأساسيّة في العالم هي بسط النفوذ عن طريق الشروط التي يفرضها على الدّول.
أيها السيدات والسادة،
هل تتوقّعون باتباعكم سياسة الاقتراض نتيجة مغايرة لما وصل إليه أسلافكم في الحكم؟
إنّ حزب التحرير-ولاية تونس يدرك أنكم على وعي بالتداعيات الخطيرة لهذه الشروط بدليل أنكم أجريتم اتفاقا على الزيادة في الأجور مع الاتحاد العام التونسي للشغل لامتصاص غضب الشارع من جهة، واستجابة لصندوق النقد الدولي الذي اشترط التفاهم مع الاتحاد حتى تُنفَّذَ شروطُه دون تنغيص من جهة أخرى.
إن القروض الخارجية فيها ضرر محقق على استقلال البلاد وقرارها السياسي، فطريق القروض الخارجيّة للتّمويل كانت في السّابق طريقا للاستعمار المباشر على البلاد؛ فعن طريقها وصل الفرنسيون لاستعمار تونس، وهي اليوم طريق أساسي لبسط النّفوذ والتآمر على البلاد ولا يأتي منها خير أبدا. وبلدنا تونس خير شاهد على ذلك، فإجمالي الدين العام بالدينار بلغ 105.7 مليار دينار في مارس/آذار الماضي أي أنه تضاعف أكثر من 4 مرات عما كان عليه سنة 2010 (25 مليار دينار).
فهل باقتراضكم من صندوق النقد الدولي الاستعماري ستقطعون مع سياسات من سبقكم في الحكم، وتصلحون بذلك ما أفسدوا؟ أم أنكم ستراكمون ديون تونس أكثر فأكثر وترهنون بالمقابل مقدرات البلاد الاقتصادية وقرارها السياسي ومستقبل الأجيال القادمة لعدو ماكر لا يرقب فينا إلّا ولا ذمّة؟
أيها السيدات والسادة،
إن الاقتصاد لا يعالج بالاقتراض من هذه المنظمة الدولية أو تلك، وإنما بالوقوف على واقع المشكلة الاقتصادية ابتداءً ثم البحث عن المعالجات الصحيحة، خاصة وأنّ الأزمة الاقتصاديّة في تونس ليست من قبيل الأزمات العابرة، وإنّما هي أزمة هيكليّة شملت جميع القطاعات الاقتصاديّة، وسببها الأساسي النظام الرأسمالي الذي مكّن من خلال تشريعاته الاقتصادية من وضع اقتصاد البلاد تحت الهيمنة الغربية وأذرعها المالية، مما أدى إلى:
فرض سياسات اقتصادية عقيمة تحت عنوان الإصلاحات الاقتصادية التي تشترطها المؤسسات المالية عند منح القروض، وهو ما أعاق قطاعات حيويّة كالفلاحة، والصّناعة والتّجارة، واستبدال قطاعات هامشيّة كالسّياحة بها، واعتماد المناولة في القطاع الصناعي لفائدة الشركات الأجنبية التي تحتاج ليد عاملة رخيصة وامتيازات ضريبية لتعزيز قدراتها التنافسية، وفرض اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي التي دمرت النسيج الصناعي وزادت من نسب البطالة والفقر وعمّقت العجز في الميزان التجاري.
الاستيلاء على المؤسسات العمومية ونهب ثروات البلاد من نفط وغاز ومعادن وغيرها من طرف الشركات الاستعمارية باسم الاستثمار الخارجي.
ربط الدّينار بالعملات الأجنبيّة مما جعل قيمته في انحدار حتّى يكاد يفقدها، فتراجع الدينار التونسي أمام الدولار خلال السنوات التي أعقبت الثورة بنسبة 128% (1.42 د للدولار الواحد سنة 2011 إلى 3.25د حاليا).
ثم إنّ النظام الرأسمالي نفسه هو أصل الداء وشر البلاء؛ لأنّ الأسس التي تنبني عليها الحياة الاقتصادية الرأسمالية هي أسس مدمرة بطبيعتها. ومن هذه الأفكار الرأسمالية الهدّامة والمفاهيم الاقتصادية الخطيرة:
تصوير المشكلة الاقتصادية بأنها الندرة النسبية للسلع والخدمات (الثروة)، وليس التوزيع العادل لهذه الثروة.
اعتماد الاقتصاد الرأسمالي على الربا.
فساد النّظام النّقدي العالمي الذي أقصى الذهب والفضة عن النقد، وجعل الدّولار أساس النقد العالمي.
الحصر الخاطئ للملكيّات الذي تفرّع إلى قطاع خاصّ (الملكية الخاصة) وقطاع عامّ (ملكية الدولة)، وإغفال الملكية العامة التي نص عليها الاسلام وتميّز بها عن سائر الأنظمة.
ومما زاد الطين بلة أنّ الرأسمالية تم تحويلها إلى نظام عالمي جَبْرِي تحت اسم العولمة مما أدّى إلى زيادة في الفتك الاقتصادي العالمي وسرعة تأثير الأزمات على الاقتصاديات الضعيفة كما يحدث اليوم في تونس، ومثاله ارتفاع نسبة التضخم واضطراب سعر العملة وانتشار المزيد من الفقر المدقع بسبب الكورونا وحرب روسيا وأوكرانيا.
أيها السيدات والسادة،
إنّ كتابنا هذا دعوة صادقة يُوجّهها حزب التحرير إلى أعضاء الحكومة، حتّى يقطعوا صلتهم بالمؤسسات المالية الدولية ولا يستجيبوا لوصفات صندوق النقد الدولي وجرعاته المميتة، فالاقتراض من هذه المنظمات التي تعمل بالنظام الرأسمالي الربوي يجرُّ البلاد إلى مزيد من الفقر والتبعية، علاوة على استجلاب سخط رب العالمين لأنه تعامل بالربا الذي حرمه الشرع، لقوله تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ وقوله: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾.
إن أخطر ما في الأمر أنّ السّلطة وخبراءها، خريجي المدرسة الرأسمالية، يصرون على ربط تونس بالغرب واستبعاد الإسلام وأحكامه، فتجاهلوا تماماً نظاماً اقتصاديا عريقا قاد البشرية قروناً طويلة، عاش الناس في ظله في بحبوحة العيش، وكانوا ينعمون بحياة اقتصادية آمنة خالية من الأزمات مدة تجاوزت ثلاثة عشر قرنا، فكانت قوافل الزكاة تجوب البلاد بحثاً عن فقير واحد ليأخذ الزكاة فلا تجده، في حين أن الفقر اليوم يكاد يشمل الجميع إلّا قلّة من أصحاب المصالح.
ولذلك فإننا في حزب التحرير ولاية تونس ندعوكم لنبذ المبدأ الرأسمالي ونظامه الاقتصادي والمالي، ورفض الاستجابة للضغوط الدولية ورفض المساعدات الدولية وقروض بنوكها، وعليكم بالمقابل تفعيل المشروع الحضاري الإسلامي لتستشرفوا حياة جديدة آمنة مطمئنة خالية من الأزمات الاقتصادية أو المالية، في ظل عدالة النظام الاقتصادي الإسلامي، فالإسلام وضع نظاماً ربانياً يحول دون سيطرة أي طبقة في المجتمع على سائر الناس.
أيها السيدات والسادة،
إن تبني الإسلام مبدأ ينبثق عنه نظام، وتطبيق أنظمته ومنها النظام الاقتصادي كفيل بأن يعالج مشاكلنا وأزماتنا. فالأسس التي شرعها الإسلام وبنى عليها نظامه الاقتصادي قادرة وحدها على حل الأزمات الاقتصادية في البلاد دون حاجة إلى الاقتراض من المؤسسات المالية الدولية الأجنبية الاستعمارية التي لا تريد لنا نهضة ولا رفعة، كما أنّ هذه الأسس كفيلة بإعادة توزيع الثروة توزيعاً عادلاً في المجتمع فلا يبغي أحد على أحد ولا تتسلط حفنة من الأثرياء والشركات الأجنبية على مقدرات البلاد والعباد.
وإنّ هذه المعالجات ليست خيالاً وإنما هي فكر يعالج واقعاً، وقد طبّقت بالفعل في التاريخ الإسلامي في عهد الخلافة فأنتجت خيرا عميما، وسيعود هذا الأمر مرة أخرى بإذن الله تعالى كما ذكر رسول الله ﷺ في الحديث الصحيح: «يَكُونُ فِي آخِرِ أُمَّتِي خَلِيفَةٌ يَحْثِي الْمَالَ حَثْيًا، لَا يَعُدُّهُ عَدَدًا»» (رواه مسلم).
28 ربيع الأول 1444هـ/24 أكتوبر 2022م
حزب التحرير – ولاية تونس
CATEGORIES محلي