مما يثلج الصدور ويبشر بانجلاء الكدر عن الأمة، أنها أبصرت بعين البصيرة حقيقة واقعها، ومدى الخديعة التي كانت ضحية لها، وأن من ظنتهم أمناء عليها وعلى مقدراتها هم أول الغادرين بها، والمضيعين لحقوقها، وهم الخونة الذين أسلموها لعدوها يستبيح بيضتها وينال من قدرها، ويسلبها حقها في نعم الله عليها من الثروات الطائلة التي حباها سبحانه وتعالى بها في أن تنعم بها وتسخرها لرقيّها ومنعتها لا أن تكون لعنة عليها.. فلم تعد الجماهير الثائرة في السودان والجزائر مثلا تقبل أن ترى أيّا من رموز السلطة في كلا البلدين في مركز من مراكز القرار ولا تقبل من أحدهم رأيا ولا قولا بل أصبحت لا ترضى عن محاسبتهم بديلا..
هذا الوعي الذي أصبحت عليه الأمة هو ما أدركه الغرب الكافر المستعمر وأدرك مدى الخطر الذي يمثله هذا الوعي على مصالحه وعلى الهيمنة التي فرضها ويفرضها على العالم وعلى أمة الإسلام تحديدا، مما حدا به أن يفرض على الطغمة الحاكمة في الجزائر أو في السودان أن تكون حذرة في تعاملها مع حركة قوى الأمة بعدم استثارتها والعمل على امتصاص فورتها وتحويل بوصلتها نحو الرضى بالمحافظة على مؤسسات النظام وصرف الجهود نحو تحميل مسؤولية ما عاناه الناس من أثر تطبيق النظام الرأسمالي الديمقراطي عليهم لبعض الرموز كالبشير والبعض من أعوانه في السودان أو السعيد بوتفليقة والجنرالين التوفيق وطرطاق في الجزائر، عسى أن تهدئ تلك الإجراءات من حماسة الثائرين . ذاك ما تجلى في تصريحات الساسة والمسؤولين الأوروبيين أو الأمريكيين حين تعاطيهم مع الأحداث الجارية في بلداننا، أو ما تتناوله مختلف الوسائل الإعلامية الغربية بالظهور في مظهر المنحاز إلى حركة الجماهير الثائرة وادعاء العقلانية وعدم الزج بالأوضاع إلى المجهول وضرورة التشبث بالواقعية والتأكيد على المحافظة على المؤسسات الدستورية.
وأمام هذا الوعي الذي لم يعد يخفي على الملاحظ لم يجد رئيس فرنسا، ماكرون، الذي أرقته تحركات الجماهير الفرنسية والمتمثلة في حركة ما يسمى بحركة السترات الصفراء والمنتفضة على النظام الديمقراطي في بلدها والتي بدأت تعي على خطورته عليها وعلى مستقبل أجيالها القادمة ومدى الخديعة التي يخدعها بها أصحاب الرأسمال لم في خطابه، يوم الخميس 2019/04/25 ، من بدّ إلا أن يبحث عن عدو خارجي يشغل به شعبه عن حقيقة فساد النظام الذي يرأسه، بقوله ،في ختام ثلاثة أشهر من النقاش الوطني الذي أطلقه لاحتواء احتجاجات السترات الصفراء التي أربكت حكمه وهوت بشعبيته إلى أدنى مستوى لها ولم تمض على اعتلائه سدة الحكم في فرنسا أكثر من 18 شهرا: ” إن الإسلام السياسي يمثل تهديدا ويسعى للانعزال عن الجمهورية الفرنسية”، مضيفا “لا ينبغي علينا أن نحجب أعيننا عن الحقائق: نحن نتحدث عن أناس أرادوا باسم الدين مواصلة مشروع سياسي وهو الإسلام السياسي الذي يريد أن يحدث انقساما داخل جمهوريتنا.” دون أن تكون له الجرأة والمصداقية في وضع النظام الذي يطبقه على شعبه موضع النظر والتمحيص حتى لا يكون كالرائد الذي يكذب أهله.
ولم يشذ وزير الداخلية ونائب رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو سالفيني عن نظرائه من الساسة الغربيين عموما، الذين أصبحت تؤرقهم صحوة الأمة وما يمثله أمر امتلاكها لإرادتها واستعادة سلطانها من تهديد لهيمنتهم على مصائر الشعوب، حين دعا الأوروبيين إلى “دعم الأحزاب اليمينية بغية “منع قيام خلافة إسلامية” في القارة العجوز”. وذلك في المؤتمر الصحفي الذي عقده في بودابست مع رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور أوربان، مضيفا “علينا أن نفعل كل ما بوسعنا من أجل إنقاذ قارتنا”.
ولعل ما بدر من النائب الفرنسي “جون لاسال” في سؤاله إلى رئيس الوزراء الفرنسي في جلسة مساءلة حين كشف الاتفاق الذي تولى بموجبه عبد العزيز بوتفليقة مقاليد السلطة في الجزائر سنة 1999 على أن يتسلم الجيش الأمر بنهاية حكم الأخير وما يمثله ذلك من خطر على المصالح الفرنسية محذرا ” أن الجيش الجزائري لم تعد تحكمه مشاعر جيش التحرير لبن بلة وبومدين فحسب، فكثير من الملاحظين يدعون أن يكون قد اخترق بعمق من طرف تيارات إسلامية وأفكار سلفية…” ليشى بمدى الرعب الذي أصبح يحكم الساسة الغربيين من صحوة الأمة ووعيها على حقيقة ذاتها وطبيعة الدور الذي يجب أن تضطلع به والرسالة التي عليها أن تؤديها …
والرسالة التي على الأمة أن تدركها اليوم دون أيّ لبس هو ما ظل حزب التحرير ينبّه لها منذ نشأته إلى يوم أن جلّا الأمر الشيخ ناصر رضا رئيس لجنة اتصالاته بولاية السودان حين خاطب المجلس العسكري السوداني في اجتماعه بالعلماء والأئمة السودانيين، حين بين أن الحكم مسؤولية مذكرا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم ” إنها لأمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها ” ومذكرا بقوله عزّ وجلّ ” ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) آية 44 وقوله : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) آية 45 وقوله : ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون ) آية 47 وأن المسألة هي باختصار شديد أن نعبد الله وأن نعبّد الناس لله بإقامة شرع الله احتكاما لأمر الله وتحاكما إلى أمر الله .وخاطب المجلس العسكري قائلا ” أنتم أهل القوة والمنعة دوركم الذي أناطه الشرع بكم كما كان الصحابة ن نزعوا سلطان الشر والباطل وبايعوا إماما أقام في الناس الشرع والدين في دولة خلافة على منهاج النبوة.. لا تسلموها إلى حكومة مدنية، أنما اجعلوا الأمر للأمة تبايع إماما ليقيم فيها الشرع.. هذا هو الفرض الواجب.
الأمة اليوم أدت وتؤدي الواجب عليها في رفضها لهؤلاء الحكام الذين انكشفت سوءاتهم وبان ارتهانهم لأعدائها والتبعة اليوم على حماة الديار والأعراض حماة الأمانة الكبرى فلم يبق من عذر لأي منهم