كم سنلدغ من جحر الانتخابات الديمقراطية من مرّة؟

كم سنلدغ من جحر الانتخابات الديمقراطية من مرّة؟

لم يعد الأمر يتطلب عبقرية سياسية ولا قراءة تاريخية عميقة، بل مجرد ترتيب الأحداث صار كافيا لعقلاء المسلمين كي يفضينا إلى فهم نتائج الانتخابات الديمقراطية في بلاد الإسلام، لأن الغباء هو أن تفعل نفس الشيء مرتين بنفس الأسلوب ونفس الخطوات مع انتظار نتائج مختلفة.

لا يقف الأمر عند حصره في الوعود الانتخابية الزائفة أو غياب البرامج والرؤى، لأن الغرب عوّدنا طيلة القرن الماضي على التخطيط للفشل كمرحلة تسبق تركيز صنم الديمقراطية وتصوير مسرحية تنصيب الزعيم الديمقراطي الجديد على أنه النصر العظيم والفتح المبين، وبالتالي، فليس مستبعدا من الاستحقاقات الانتخابية القادمة في بلد “الديمقراطية الناشئة” أن يحاول الغرب وضع تونس على سكة “نجاح” مزعوم يسلم فيه الحكم لأفضل المتدربين على تكريس الديمقراطية ليستأنف عملية بناء ما اصطلح عليه بالدولة الحديثة، وهنا تبدأ الكارثة متى وجد من يقبل وصاية الكفر على أمة المليار ونصف مسلم ويرفض أن يكون وصيا على أمته ودينه يهتم بأمر المسلمين خارج تونس.

ديمقراطية الأمس القريب

منذ قرن تقريبا، حدثنا الضابط البريطاني “توماس إيدوارد لورانس” المعروف بلورانس العرب ضمن كتابه “أعمدة الحكمة السبعة” بكل جرأة ووضوح عن كيفية قيادته للثورة العربية الكبرى ضد الدولة العثمانية، أي عن كيفية إسقاط دولة الإسلام بأيدي أبناء المسلمين أنفسهم دون أن يتفطن أحد لحقيقة الدور الذي لعبه هذا المندس، واليوم إن لم تكفر شعوب الأمة بالديمقراطية، فلا عجب أن يحدثنا لورانس القرن الواحد والعشرين، عن قيادته لثورة “إسلامية” كبرى تستنصر بالناتو وتواصل بناء نفس الدولة الديمقراطية التي شرع علمانيو وقوميو القرن الماضي في بنائها، يُضاف إليها استثمار الغرب في البنية التحتية الرقمية والأنشطة الصناعية والتجارية الذكية تماما مثلما استثمر سابقا في السيارات والهواتف المحمولة، معولا على ارتفاع منسوب الغباء لدى حكام المسلمين.

من المضحكات المبكيات، أن الجمهورية الأولى التي شرع في بنائها بورقيبة بحسب الروايات الرسمية للنظام عبر مادة التاريخ، قد أعلن وجودها صديقه “منديس فرانس” وأعانه على إقامة أركانها مستشاره “سيسيل حوراني” وعلى تشييد جدرانها وزيره “أندري باروش” وعلى كتابة تاريخها المزور مؤرخه “شارل أندري جوليان”، والأدهى من ذلك وأمرّ أن القاسم المشترك بين جميعهم في هذا البلد المسلم هو الديانة اليهودية، ومع ذلك لا يستحي جميعهم من الاحتفال بعيد الاستغفال.

أما حين بدأت الأمور تنفلت من أيدي بورقيبة في قيادة هذا البلد بما يمليه المستعمر، فقد تطلب الأمر تدخلا غربيا جديدا أشرف من خلاله على صناعة الأزمة باليد اليمنى مطلع الثمانينات ثم جاد علينا باليد اليسرى بمنقذ من طراز بن علي، بعد أن زوده بحفنة من الإنجازات وأحاطه بعدد من الخبراء والمستشارين الجدد لبناء الحزب والدولة، فحُصرت الأزمة في شخص الرئيس العاجز وتم بذلك إنقاذ النظام وإنعاشه بنفس جديد سرعان ما انكشف أمره.

ديمقراطية ما بعد الثورات

أما اليوم، فشرارة الثورة على الطغيان في تونس، طالت بلدانا عديدة ولا تزال، ولم تقدر حبائل الغرب ومكائده على إخماد النفس الثوري أو كبح جماح الوعي المتنامي في الأمة، ما يجعل العودة إلى اقتراحات ضابط الاستخبارات العسكرية البريطانيةالمتصهين “سيسيل حوراني” أمرا واردا، مادامت السياسة المحلية تسطرها قوى دولية. ومما جاء في مقال له، نشر في موقع “إيلاف” بتاريخ 27 ماي 2011 ما نصه:

إن الحاجة الملحة الآن هي قيام وحدات سياسية أكبر، من غير المساس بالحدود الراهنة، بغية تعزيز التضامن الداخلي للدول العربية وزيادة نفوذها الخارجي. إذ يمكن أن تقوم وحدة من هذا النوع في الجزيرة العربية بين بلدان «الخصيب الهلال»، وأخرى تضم قلب الجزيرة والسواحل المحيطة بها.

وفي شمال إفريقيا تلوح إمكانية وحدة البلدان التي كانت سابقاً تحت السيطرة الفرنسية والإيطالية، إلى جانب وحدة  “وادي النيل” التي تضم مصر والسودان لتشكل الرابط الجغرافي والإنساني بين آسيا وإفريقيا.
وهذه الوحدات الأربع مجتمعة تشكل “الكيان العربي” الجديد الذي يتوجب أن يشمل ميثاقه الأساسي: ضمان المساواة في الحقوق القانونية والسياسية والفردية بين مواطنيه، الى أي أصول عرقية أو إثنية أو دينية أو ثقافية انتموا. والمساواة التامة بين الرجال والنساء. والالتزام بالقوانين الدولية لحقوق الإنسان، واحترام قواعد السلوك الدولي. وإقامة حكومات دستورية بشتى أشكالها بما يؤمِّن فصل السلطات، والتمثيل المتساوي، والشفافية،والانتقال السلمي للسلطة. وتكون السلطة العليا في هذا الكيان لمجلس يضم أعداد متساوية من الممثلين المنتخبين لكل وحدة من الوحدات الأربع المذكورة.

إن إقامة هذه الوحدات الإقليمية من شأنه أن يزيل ما يتهدد المنطقة الآن من خطر المزيد من التجزئة والتفتيت الى دويلات عرقية أو دينية، ويعيد الروابط الجغرافية والتاريخية والاقتصادية بين الشعوب العربية. ويشكل هذا الكيان العربي العابر للدول القطرية أفضل حل لمشكلة إسرائيل، بل هو الحل الوحيد القابل للحياة. انتهى

ليس إفراطا في تبني نظرية المؤامرة حين نتحدث عن إمكانية إنشاء خلافة مشبوهة تشوه مشروع الإسلام الحضاري وخلافته الراشدة الموعودة، فذلك ما كانت تقوله بعض الأبواق قبل ظهور تنظيم داعش، أما اليوم، فلم يبق للغرب بعد ورقة الدعشنة سوى الأخونة المغالية في الحداثة. بقي السؤال المطروح الآن، من هو الزعيم الجديد المؤهل لأن يكون عرابا لهذا المشروع في المنطقة، بحيث تصبح التجربة التونسية في التوافق مثالا يحتذى به في تكريس الديمقراطية، فلا يسعه لقب ملهم أو مرشد الثورة التونسية، بل يُراد له أن يكون منقذا للديمقراطية في بلدان الربيع العربي وربما غيرها، فينال رضا الأوروبيين والأمريكان في آن واحد؟

وما يعدهم الشيطان إلا غرورا

ليس مطلوبا منا الإجابة، ولكن بحسب “سيسيل حوراني” نفسه الذي كتب مقالا في جريدة النهار اللبنانية بتاريخ 17 نوفمبر 2014 تحت عنوان “الانتخابات التونسية: مثال يحتذى”، يمكننا معرفة هوية شيخ التوافق الديمقراطي، الذي تفرغ لهيكلة حزبه وإعداده لمرحلة الحكم بعناية بريطانية فائقة، تساوي عناية الأنجليز باقتلاع جذع النخلة الندائية وكشف جذورها الفرنسية.

ليس مهما أن يكون سيسيل هو الأخ الأصغر لمؤسس معهد “تشاتهام هاوس” الماسوني “ألبرت حوراني”، ولكن المهم في سياق الثورة “الإسلامية” الكبرى ضد الفساد والاستبدادالذي صنعه الغرب في العالم العربي، هي أن هناك من نال جائزة هذا المعهد سنة 2013 لعمله الدؤوب من أجل ضمان بقاء تونس في طليعة المد الديمقراطي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وهو نفسه من أسندت إليه جائزةمسلم ديمقراطي لسنة 2012 من قبل مركز دراسة الإسلام والديمقراطية بواشنطن، هذا دون الحديث عن الاستجابة الحرفية لتوصيات معهد “كارنيغي” للشرق الأوسط وعن عشرات المحاضرات التي ألقيت في كبرى المعاهد الدولية تبشيرا بالإسلام الليبرالي الذي اكتملت معالمه في ذهن أفغاني تونس سنة 1997.

حيث كان راشد الغنوشي في هذا العام واحدا من بين مؤسسي ما يعرف بحلقة الأصالة والتقدم والتي كان بين أعضائها، مستشارون في الإدارة الأمريكية.

ولعل أهم ما ذكر في نص إعلان نوايا هذه الحلقة قولهم: “نحن ندعم سير العلاقات الدولية على أساس احترام جميع الحضارات في العالم. نحن نعارض كل المحاولات الرامية إلى تصدير أو فرض نظم ثقافية، دعم الأنظمة الديكتاتورية، أو عرقلة التحولات الديمقراطية. إننا مقتنعون بأن محاولات إعادة اختراع الحرب الباردة مع المسلمين المستهدفين بصفتهم أعداء للغرب، أو تحديد الغرب كعدو لدود للإسلام، هي مؤسفة ويجب تجنبها. نحن متحدون في اعتقادنا بأن كل مثل هذه الصيغ المانوية سوف تعوق التعاون بين المسلمين والغرب، ومن المرجح على مر الزمن أن يكون له أثر سلبي كبير على كل من الاستقرار الدولي والسلام العالمي”.

بهذا، يمكن الاستنتاج أن الدور المرسوم للمنقذ القادم و”المهدي المنتظر” كما يمني بذلك الغرب نفسه، يتجاوز رئاسة تونس في الدورة القادمة، أو مجرد الفوز بالانتخابات البلدية الحالية وتكريس لامركزية السلطة التي جاء بها دستور نوح فيلمان، فكلها محطات يرسمها الاستعمار من أجل إدماج المسلمين في النظام العالمي واستغلال خاصية المحافظة والقيم التي يتميز بها المسلمون من أجل مقاومة نزعة العلمانية المتطرفة في الحضارة الغربية وبالتالي فهي محطات لسرقة ثمار أجيال ناضلت في سبيل الدولة الإسلامية من أجل تثبيت دعائم الدولة الديمقراطية على النمط الغربي وإطالة عمرها، ولنا أن نحصي الأجيال التي تم استنزافها منذ سقوط دولة الإسلام مطلع القرن الماضي لبناء دولة طالما ألحق بها النعت الإسلامي، ولكنها تسير بإشراف غربي مباشر، كإيران وتركيا والسعودية.

ختاما، فإن إشادة الصحفي الفرنسي “بنوا دالما” ضمن مقاله في جريدة “لوبوان” بتاريخ 3 ماي 2018 ببراغماتية حركة النهضة وقدرتها على التطبيع مع المشهد السياسي التونسي وبنجاحها تواصليا واكتساحها للفضاء الإلكتروني فضلا عن تنظيمها الهيكلي وقاعدتها الجماهيرية العريضة التي مكنتها من التعبئة في 350 دائرة انتخابية، هي في الحقيقة إشادة بجهود الغرب في إيصال تلاميذ السنة سابعة انتقال ديمقراطي إلى هذا المستوى من التعامل مع منظومة تكرس وضعية التبعية لمن نصبوا أنفسهم أوصياء على خير أمة أخرجت للناس.

فكم سنلدغ من جحر الانتخابات الديمقراطية من مرّة حتى ندرك أنها ليست سوى محطات من صنع الكافر المستعمر لتمديد وتأبيد وضعية إبعاد الإسلام عن الحكم، وإن تعلق الديمقراطيون بأستار الكعبة وأقسموا جهد أيمانهم إن أرادوا إلا الإصلاح ما استطاعوا؟ومتى سينشغل البعض بطريقة محمد صلى الله عليه وسلم في إقامة الدولة بدل الانبهار بطريقة الغرب في تكريس الديمقراطية؟

قال تعالى: “وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ” سورة النور، الآية 39.

وسام الأطرش

CATEGORIES
TAGS
Share This