يخطئ من يظنّ أنّ الإدارة هي النّظر في أسس المعالجات وبيان أصل حلول المشكلات، والأحكام الشرعية المتعلّقة بالكلّيات؛ فتلك ظاهرة للعيان يدركها ويحسن التّعامل معها كلّ إنسان بغضّ النّظر عن فكره وعمقه وفهمه ووعيه. إنّ الإدارة هي النظر في الجزئيات وتنزيل الحلول العاجلة أو اللّازمة على الفرعيات والمستجدّات وتناول قضايا الإنسان الطارئة في أموره العاديات مع توقّع واستباق للقادم وتجهيز البدائل إذا لزم.
ومثال ذلك: الفتوى في زمننا متيسّرة، ولكنّ عملية تنزيلها بتفاصيلها على الواقع متعسّرة؛ لأنّها تتطلّب تجاوز النظر في الكليّات إلى النظر في الجزئيات، والتخلّص من كل الارتباطات والولاءات. فتعليق صلاة الجماعة في المساجد منعا للاختلاط حفاظا على النّاس من وباء كورونا، فتوى كلّية قلّ من لا يقول بها، ولكن إدارة الفتوى وتنزيل الحكم على الواقع بالتفصيل والتّدقيق والتحرّي في الممكنات والمستحيلات، وربطها بأصلها الذي انبثقت عنه أي العقيدة الإسلامية، جزئية قلّ من يلتفت إليها أو يقول بها.
وكذلك فتوى منع النّاس من الخروج من البيت وإلزامهم بالحجر بحجة دفع المفسدة والمضرّة، فكرة لا مانع منها من حيث المبدأ، ولكنّ تنزيلها على واقع البلاد والعباد فيه مشكلات عويصة تحتاج إلى حسن الإدارة والرعاية؛ فلا يكتفي المرء ببيان الحكم الشرعي المتعلّق بالأفراد بل لا بدّ من بيان الحكم الشرعي المتعلّق بالساسة والدولة من حيث لزوم توفير حاجيات الناس وما يلزمها فترة الحجر، مع تخفيف الأعباء في فاتورة الكهرباء والماء وغير ذلك.
ولهذا فإنّ الفقيه، مهما بلغ علمه وحفظه، لا يصلح لإدارة المجتمع؛ لأنّه محكوم بزاوية الكلّيات النّظرية العلمية ولا يدرك الجزئيات العملية ولم يتمرّن على التّفكير فيها، أي لا يفهم رعاية الشّؤون، وإنما يفهمها ويصلح لها الفقيه السياسي والسياسي الفقيه.
وكذلك الشأن بالنسبة للطبيب،فهو مهما بلغ فهمه وإخلاصه، لا يصلح لإدارة الأزمة؛ لأنه سيكون محكوما بإجراءات تخصّصه، غير آخذ بعين الاعتبار قضايا المجتمع الأخرى من اجتماعية واقتصادية وغير ذلك. ومن هنا، كان الطبيب في أزمة الوباء عنصرا محوريا فاعلا في تحديد رؤية التعامل مع المحنة، ولكنّه ليس الطرف الوحيد.
وأمّا السياسي، المتلبّس بالسياسة وأعمالها والمكابد لهمومها وأشغالها، فهو من ناحية نظرية الأصلح لإدارة الأزمة بشرط أن يكون مرتبطا بعقيدته الإسلامية وما انبثق عنها من أنظمة ومقاييس وقيم، وبشرط أن يكون مستعدّا للتعامل مع الأزمة بفكر إبداعي وسرعة بديهة وقبول مشورة الخبراء وأهل الاختصاص. وأقول نظريا؛ لأنّ الساسة عندنا، لا يقومون بعملية الرعاية إنما يقلّدون فيها، والدليل عليه أنّ الإجراءات المتّخذة في بلاد المسلمين ليست سوى عملية تقليد للإجراءات الأوروبية الغربية، ولا يوجد فيها ما يدلّ على طابع خاصّ بنا.
علاوة على هذا، فإنّ التقليد في الرعاية عندنا يتّخذ وجهة واحدة هي المدرسة الفرنسية مع أنّها ليست مقنعة ولا عملية في كثير من الأمور، وإذا جوّزنا الاقتباس والانتفاع بأساليب الآخر في إدارة أزماته فعلينا على الأقلّ أن تتمتّع بسعة الأفق؛ كأن ننظر مثلا إلى المدرسة الكورية الجنوبية التي أحسنت التعامل مع أزمة الوباء إلى حد اللّحظة من حيث التناول وكيفية المعالجة.
ولكي لا أطيل على القارئ أقول: إنّ وباء كورونا كشف لنا عن أزمة إدارة في إدارة الأزمة، وهي علّة لم تسلم منها أغلب المؤسّسات والجماعات والدّول التي بيّنت عدم امتلاكها لرؤية حقيقية تفصيلية عملية لكيفية رعاية الشؤون.