كيان يهود والتّطبيع: من الهواجس الذاتيّة النّفسيّة إلى العوامل الموضوعيّة السياسيّة
منذ انطلاقه ضمن (اتّفاقيّات أبراهام) لسنة 2020، اجتاز قطار التّطبيع بسهولة ويسر أربع محطّات (الإمارات ـ البحرين ـ المغرب ـ السّودان) ملحقا إيّاها بمصر والأردن في زحمة ظروفها السياسيّة والاقتصاديّة الحرجة..كما برمج لاجتياز أربع محطّات أخرى (عمان ـ قطر ـ السّعوديّة ـ تونس) وهو الآن في لمساته الأخيرة لتحقيق ذلك..إلاّ أنّه ـ ودون سابق إنذار ـ حوّل وجهته نحو محطّة محسوبة على (محور الممانعة) وغير مرشّحة للزّيارة على المدى القريب ألا وهي ليبيا، ناهيك وقد تعثّر في زحمتها المروريّة داخليّا محليّا وخارجيّا دوليّا: فقد سرّب وزير خارجيّة كيان يهود (إيلي كوهين) أخبارا عن لقاء احتضنته روما الأسبوع قبل الفارط جمعه بنظيرته في حكومة الوحدة الوطنيّة الليبيّة (نجلاء المنقوش)، مؤكّدا على صبغته الرّسميّة بوصفه (الخطوة الأولى في تطبيع العلاقات بين البلدين) وملاحظا أنّ (حجم ليبيا وموقعها الاستراتيجيّ يمنحان العلاقات معها أهميّة عظيمة وإمكانات هائلة لدولة “إسرائيل”).. كما كشف (كوهين) أن اللقاء شهد مناقشة (العلاقات التاريخيّة بين البلدين وسبل التّعاون في القضايا الإنسانيّة والزّراعة وإدارة المياه والحفاظ على التّراث اليهوديّ الليبيّ) ..
ـ هذا الهتك المضمر والمقصود لسريّة اللقاء أثار زوبعة سياسيّة وزلزالا شعبيّا: فمحليّا ليبيّا، سارع (عبد الحميد الدبيبة) رئيس حكومة الوحدة الوطنيّة بتوقيف المنقوش عن العمل احتياطيّا وإدراجها في قائمة الممنوعين من السّفر وإحالتها على التّحقيق، كما نفت الخارجيّة الليبيّة الصّبغة الرسميّة لهذا اللقاء وارتقاءه إلى مستوى (المباحثات والاتّفاقات والمشاورات)..ورغم ذلك، شهدت شوارع المدن الليبيّة احتقانا وامتعاضا واشتعلت بالاحتجاجات والمظاهرات الرّافضة لهذه الخطوة والمطالبة بإقالة المنقوش ومحاسبتها، ما دفع بالحكومة إلى تهريبها نحو تركيا..أمّا خارجيّا دوليّا، فرغم أنّ هذا التّسريب بدر من مسؤول إسرائيليّ حليف لأمريكا، إلاّ أنّه أثار سخط الدّولتين معا في مفارقة عجيبة: حيث أصدرت الخارجيّة الأمريكيّة بيان لوم لإسرائيل عن (الإحراج الذي سبّبته للدبيبة وحكومته)، فيما نشب خلاف وتوتّر وتبادل للاتّهامات بين الموساد ووزارة الخارجيّة الإسرائيليّة حول توقيت العمليّة الذي كشف طاقم الموساد السريّ قبل إنهاء مهامّه ما أضرّ بالملفّ الليبيّ..هذا التخبّط والتّضارب في المواقف يشي بأنّ التّسريب غير بريء ـ مضمونا وتوقيتا ـ وأنّه موظّف لطبخة سياسيّة تحاك في الأفق، وحسبنا فيما يلي أن نتحسّس الدّوافع الذاتيّة النفسيّة والموضوعيّة السياسيّة التي أفضت بكيان يهود إلى التشبّث بالتّطبيع مع الدّول العربيّة..
ـ ممّا لا شكّ فيه أنّ المقصود بالتّطبيع في هذا السّياق هو التّطبيع الرّسمي العلنيّ المصرّح والمعترف به، أمّا التّطبيع السريّ الخفيّ فيستوي فيه الجميع، لأنّ الاعتراف بـ”إسرائيل” والانتساب إلى محفل ماسونيّ من (شروط الانعقاد) للرّؤساء في العالم ـ بما في ذلك الدّول العظمى ـ فضلا عن كيانات العالم العربيّ الكرتونيّة وحكّامها المهرّجين..أمّا عن الاستماتة في التّطبيع العلنيّ مع الدّول العربيّة، فلها أسباب ذاتيّة (نفساسياسيّة) متعلّقة بهواجس يهود الأمنيّة ووضعيّة كيانهم المسخ: فمأزق المشروع الصّهيونيّ على أرض فلسطين يتمثّل في الثّبات والاستمرار والدّيمومة، لأنّ المهمّ ليس اغتصاب الأرض بل الاستقرار فيها وخلق أجواء أمنيّة ملائمة للتوسّع والتّهويد والنّهب، وإنّ الطريق الوحيدة لتحقيق ذلك هو أن تهضمهم المنطقة ويسلّم أهلها بهذا الاغتصاب ويزكّوه ويرضوا به..من هذه الزّاوية بالذّات يجب النّظر إلى تاريخيّة الصّراع العربيّ/الصهيونيّ، زاوية ترويض الشّعب الفلسطينيّ وتدجين الأمّة الإسلاميّة وإجبارهم على قبول ذاك الورم السرطانيّ المزروع في أرض المسرى والمعراج..وإنّ مجمل الحراك بين اليهود والعرب ـ مجتمعين أو منفصلين ـ طيلة العقود الثماني المنصرمة يتنزّل بالضّرورة في هذا الإطار: من قمّة الجزائر(1988) حيث تبنّت المنظّمة حلّ الدّولتين وتخلّت عن المقاومة المسلّحة، إلى قمّة بيروت (2002) التي شرعنت الاعتراف بكيان يهود وعمّمته على سائر الدّول العربيّة، مرورا بمؤتمرات الخيانة ومسارات الانبطاح و(سلام الشّجعان) وصولا إلى (اتّفاقيّات أبراهام)..
ـ إلاّ أنّ هاجس الشّرعيّة والأمن مازال يؤرّق اليهود وحلفاءهم: فما انتُزِع إلى حدّ الآن لا يعدو أن يكون اعترافًا شكليًّا محسوبًا على الأنظمة العلمانيّة المُنصّبة على رقاب المسلمين، وهذا لا يُلبّي احتياجات “إسرائيل” الأمنيّة ولا يحقّق لها ما تصبو إليه من الاستقرار والانتعاش والسّيطرة والتوسّع: فمشكلة كيان يهود ليست مع الأنظمة العربيّة بل مع الشّعوب الإسلاميّة التي تحمل في جيناتها مورّثات العداء والحقد المقدّس ضدّ المغضوب عليهم وأحلافهم الضّالّين..لذلك يجب العمل على انتزاع الاعتراف من أفواه الإسلاميّين أصحاب الحق الشّرعيين حتّى يكتسب مصداقيّة ويكون قابلاً للتجسّد على أرض الواقع، ناهيك وقد فاحت رائحة فتح ولم تعد مؤهّلة للتّنازل باسم الفلسطينيّين..فلا مناص إذن من توريط آخر قلاع الصّمود والنّزاهة أي الحركات الإسلاميّة ـ وأكثرها شعبيّة حماس ـ ودمجها في العمليّة السّياسية لتصبح طرفًا في السّلطة القائمة على اتّفاقات أوسلو وترث عنها كلّ تنازلاتها وتنتهي إلى ما انتهت إليه فتح من التّدرج في الاعتراف وترويض أتباعها..ورغم أنّ ذلك قد تحقّق مع (وثيقة حماس) لسنة 2017، إلاّ أنّه لم يزد عن إلحاق هذه الحركة بجوقة الخونة والعملاء، ولم يزد الفلسطينيّين والمسلمين إلاّ تشبّثا بالمشروع الإسلاميّ إطارا للتّحرّر والانعتاق، فإذا بكيان يهود يراوح القهقرى في مربّع هواجسه الأمنيّة الأوّل..
ـ إزاء فشل الاعتراف الرسميّ وعقمه وعجزه عن تجاوز أروقة قصور الحكّام ومكاتب مؤسّسات (السّيادة)، لا بدّ من مناورة سياسيّة لاختراق قلعة الشّعوب الإسلاميّة الحصينة، تنزل بهذا الاعتراف الشّكليّ النّظريّ إلى الشّارع وتفعّله وتترجمه ـ سياسيّا واقتصاديّا وثقافيّا ـ على أرض الواقع، وتدفع النّاس إلى تزكيته والتّسليم به بما ينعكس إيجابا على هواجس “إسرائيل” الأمنيّة ويمكّن المنطقة من هضمها دون مضاعفات سلبيّة..فالتّطبيع هو عمليّة سياسيّة قيصريّة مسقطة على الشّارع تكسر حاجز الخوف الذي يكبّل الحكّام العملاء، وتتولّى ـ بقوّة التموقع في السّلطة ـ نسج علاقات طبيعيّة مع “إسرائيل” وتركيز العمل القاعديّ الذي يستهدف الأجيال المقبلة ويستدرجها قسرا نحو التّطبيع الشّعبيّ المنشود ولو عن طريق (فرمطة) عقولها وتزييف وعيها وتسميم فكرها وتزوير تاريخها وترويضها لتتقبّل المشروع الصهيونيّ، ودونكم النموذج الإماراتي: فقد أسّسوا متحف (الهولوكوست) ونصبوا (معبد الدّيانة الإبراهيميّة) ومعبد البقر الهندوسيّ، وأدرجوا المحرقة اليهوديّة والتّسامح الثّقافيّ في مناهج الدّراسة وفرضوا على المدارس الأجنبيّة والخاصّة تدريسها، كما حبّسوا النّشاط الثّقافيّ على (بيت أبينا إبراهيم والقتل النّازي الممنهج لليهود وأفران الغاز والمحارق المزعومة..) وفتحوه على الهندوسيّة في إطار المشروع الصهيونيّ الاستعماريّ المتمثّل في فصل المنطقة عن فضائها الحضاريّ الإسلاميّ وإلحاقها بالعالم الهنديّ..
ـ ولئن كانت ثمار هذا الحراك التّطبيعيّ المسمومة منذورة للقطف على المدى المتوسّط والبعيد، فإنّ له مفعولا رجعيّا آنيّا يرفع الحرج عن الاعتراف ويستهلكه ويهوّن من شأنه ويجعل منه مرتكزا لجرائم أفظع..كما أنّ له مفعولا عكسيّا مباشرا ينصب حواجز العداء المتبادل بين الحكّام وشعوبهم ما يجعل من ارتباطهم بيهود والاستعمار حيويّا كارتباط الجنين بالحبل السريّ لأمّه: فكشف اللقاء هو دفعة للطّرف الليبيّ المتردّد تضعه أمام الأمر الواقع وتقطع عليه خطّ الرّجعة واستفاقة الضّمير، وهذا باب مشرع على التّوظيف السياسيّ للحدث: فكما أنّ للتّطبيع عوامل ذاتيّة نفسيّة متعلّقة بيهود وكيانهم، فإنّ له ـ منزّلا على حادثة الحال ـ دوافع موضوعيّة سياسيّة، فالتّطبيع من أبرز مواضيع الاستقطاب السياسيّ في ليبيا ضمن الصّراع على السّلطة بين الشّرق الأمريكيّ (خليفة حفتر) والغرب الأنجليزيّ (الدبيبة والإخوان)..كما أنّ لحساسيّة الشّعب الليبيّ المفرطة من موضوع التّطبيع دورا في انفضاضه عن حفتر المؤيّد للتّطبيع والتفافه حول حكومة الإخوان المناهضة له.
وعموما، من أشكال التّوظيف السياسيّ للحدث يمكن أن نذكر أوّلا: توازن الوصم أو العار، أي تطبيع الدبيبة والمنقوش بإزاء تطبيع حفتر ونجله أثناء حصار طرابلس..ثانيا: سحب مناهضة التّطبيع بوصفها رأسمال سياسيّ ورصيدا انتخابيّا من حكومة الغرب.. ثالثا: تلميع صورة سيف الإسلام القذّافي تمهيدا لحلّ سياسيّ ثالث يضطلع هو بواجهته.. رابعا: تشويه سمعة حكومة الدبيبة لفصلها عن حزامها السياسيّ الإخوانيّ.. خامسا: ردّ الصّفعة الموجّهة من بريطانيا لتونس عبر الجزائر حول مسألة التّطبيع.. سادسا: التّشكيك في شرعيّة حكومة الوحدة الوطنيّة الليبيّة على مشارف الانتخابات لاسيّما مع تكثّف التناقضات داخلها والصّراع الدمويّ بين مليشياتها..ويمكن للتّوظيف السياسيّ للحادثة أن يتجاوز السّاحة الدّاخليّة الليبيّة ليطال الصّراع الدوليّ حول ليبيا، بل ويطال السّاحة السياسيّة “الإسرائيليّة” بين نتنياهو وخصومه..وبصرف النّظر عن القصد فإنّ جميع هذه الأشكال متحقّقة في حادثة الحال..
CATEGORIES كلمة العدد