كيف نكسب معركة الدبلوماسية؟ (الجزء الثاني)

كيف نكسب معركة الدبلوماسية؟ (الجزء الثاني)

تحدثنا في الجزء الأول من هذا المقال، عن المؤسسة الدبلوماسية في دولة الخلافة وما يجب أن تكون عليه على المستوى السياسي والعسكري. في هذا المقال، سنحاول بإذن الله تسليط الضوء على جزء من مستقبل الدبلوماسية التي ستحيط بدولة الخلافة الناشئة بإذن الله…

إن محاولة استشراف أفق العلاقة الدبلوماسية المستقبلية مع دولة الخلافة المفترض قيامها، ليعبّر في حد ذاته عن نظرة سياسية حكيمة يكاد الغرب يفتقدها نظرا لسيادة منطق العنف والاستعمار الناجم عن نظرة ضيقة قاصرة عند فئة رأسمالية جشعة ما زرعت إلا شرا وما حصدت إلا ندامة.

حيث كاد ينحصر الحديث عن الخلافة في مراكز البحوث والدراسات الاستراتيجية الغربية على كيفية مجابهتها والحيلولة دون قيامها، وهو ما يعني في جميع الحالات أن الغرب يتعاطى مع هذا المشروع الحضاري كمعطى يمكن أن يتجسد على أرض الواقع في أي لحظة، ما فرض على العديد من زعماء العالم إعطاء رأيهم وموقفهم من قيام الخلافة.

وعودة إلى الحديث عن الجهات التي شرعت تنظر لمستقبل العلاقة الدبلوماسية مع دولة الخلافة المنتظرة، يمكننا في هذا السياق أن نشير إلى مثالين بارزين على سبيل الذكر لا الحصر.

فقد نشر معهد “كلينغندال الهولندي للعلاقات الدولية” سنة 2007م مقالا بعنوان “مباركة قيام الخلافة” ضمن كتيب يحمل عنوان “خطابات ممنوعة. 

وهومقال صادر عن جهة ذات أثر تعنى بالعلاقات الدولية دراسة وتخطيطا، وكان عبارة عن نظرة مستقبلية تحاول رسم السياسة الخارجية للدولة الهولندية في ظل الاعتراف بدولة الخلافة التي يعمل حزب التحرير لإقامتها في بلاد المسلمين. ولذلك فإن مجرد قبول فكرة الخلافة من حيث المبدأ، بغض النظر عن شكل القبول وصيغته وشروطه، نزعة إيجابية تدل على فهم صحيح لما يجري في الساحة السياسية من العالم بعامة ومن البلاد الإسلامية بخاصة. كما أن ن تصور قيام دولة الخلافة، ومباركة قيامها والقبول به، يعتبر في حد ذاته عملا شجاعا يستحق التنويه به نظرا لما يمثله من تحد للتيار العارم في الغرب المناهض لفكرة قيام الخلافة.

ورغم أن هذه الدراسة الهولندية تتضمن في بعض طياتها ما هو أشبه بكراس الشروط الوظيفي الذي يفرض على دولة الخلافة القادمة تبني نظرية حقوق الإنسان الغربية ويعطي الحق للغرب للتدخل في سيادة الدول، فإن التعبير عن الاستعداد للقبول بدولة الخلافة، والتطلع لبناء علاقات دبلوماسية معها تخدم صالح الشعوب هو مما يجب التنويه به واعتباره إيجابية تدلّ على نظرة سياسية حكيمة.

في نفس الوقت، لا يصح اتخاذ نظام الحكم الغربي الأساس الذي تقوّم به الدول الناشئة، والمعيار الذي تقاس به صلاحية هذه الدول للحكم. ولذلكوجب التحذير في هذا السياق من اتخاذ الواقع الغربي في الحكم والتشريع مقياسا، بل لا بد من النظر الموضوعي؛ لأنّ مقياس صحة الأفكار لغير المؤمن بها هو صدقها ومطابقتها للواقع، لا غير.

ولا يعني بناء علاقات دبلوماسية مع الدول الأخرى، التأثر بمعاييرها ومسايرتها في نظرتها، بل المطلوب هو التأثير فيها وفرض سياسة جديدة لدولة مبدئية جديدة لها وزنها وثقلها عالميا منذ اللحظات الأولى بإذن الله.

أما المثال الثاني، فهو مقال لصحفي أمريكي شهير، أعاد مشروع «الخلافة» للتداول على المسرح الدولي بالرغم من وجود قرار لتغييب ذكره… وكم من كلمة صدق وحق خرجت من أفواه لا تنشد الصدق ولا تؤمن بالحق… ففي الحادي عشَر من جانفي عام 2010 كتب “جون شيا” الصحفي الأميركي البارز، ورئيس تحرير مجلة American Reporter بالمجلد السادس عشر برقم 3851 – مقالاً بعنوان: “الحرب ضدَّ الخلافة”، تضمَّن المقال رسالة موجهة إلى الرَّئيس “أوباما” تتعلَّق بما أسماه “دولة الخلافة الخامسة”.

وقد بدأ “شيا” مقاله بالإشارة إلى اجتماع الرئيس “أوباما” بِمُستشاريه من أعلى القيادات العسكريَّة والمدنيَّة لمناقشة مسألة إرْسال قوَّات إضافيَّة إلى أفغانستان، يقول “شيا”:

بعد عدَّة شهور من التروّي أصْدر الرَّئيس أوامرَه بانتِشار ثلاثين ألف جندي إضافي في أفغانستان، والآن ماذا عساي أن أقول والجنود في طريقِهم فعلاً إلى هناك؟! أفغانستان، هذه البلاد التي أصبحت بعد ما يقرُب من عقد من الزَّمان رهانًا لكسْر العظام في اللُّعبة الَّتي يلعَبُها الجهاديون.

المشكلة هي أنَّ الرئيس ومستشاريه لا يُريدون الاعتِراف بأنَّ هذه اللعبة تأخُذ الآن منحًى جديدًا، إنَّهم لا يريدون الاعتِراف بأنَّ الجهاديين لا يسعَون إلى غزو البلاد الإسلاميَّة؛ وذلك لأنَّ لهم فيها قاعدة عريضة تنظُر إليهم وإلى قيادتِهم على أنَّهم يمثِّلون القيادة الروحيَّة في الإسلام، إنَّهم يسعَون بدلاً من ذلك إلى بناء “دولة الخلافة الخامسة” الَّتي ينضوي الإسلام جَميعه تحت حكمها، “الخليفة” في هذه الدَّولة هو الإمام، وهو القائد الروحي والحكومي، وكلّ المسلمين يقرُّون له بذلك.

ثم يضاف قائلا، بعد معاتبة القيادة الأمريكية حول دخول الحرب في أفغانستان:

“الحقيقة الجليَّة هي أنَّه لا يستطيع أي جيش في العالم، ولا أيَّة قوَّة عسكريَّة – مهما بلغت درجة تسليحها – أن تهزم “فكرة”.

يجب أن نقرَّ بأنَّنا لا نستطيع أن نحرق قادة هذه الفِكْرة في كلّ بلاد الشَّرق الأوسط، ولا أن نحرق كتُبَها، ولا أن ننشر أسرارها؛ ذلك لأنَّ هناك إجماعًا بين المسلمين على هذه الفكرة.

إنَّ الشرق الأوسط يواجه اليوم القوَّة الاقتصاديَّة الموحَّدة للدُّول الأوربيَّة، هذا صحيح، لكن عليْنا أن نعرِف أنَّه في الغد سيواجه الغرب القوَّة الموحَّدة لدولة الخلافة الخامسة.

ليسمح لي سيادة الرئيس “أوباما” أن أُبدي إليه بعض الملاحظات الهامَّة.

سيدي الرَّئيس:

إنَّ المعركة بين الإسلام والغرْب معركة حتميَّة لا يمكن تجنُّبها، وهي ذاتُ تاريخ قديم، ولا بدَّ أن نضعَ حدًّا لهذا الصراع، وليس أمامنا إلاَّ أن ندخل في مفاوضات سلام مع الإسلام.

إني أتوقَّع أن يخبرَك البعض بأنَّه من المستبعد تمامًا أن ندخُل في مفاوضات مع عدوّ متخيَّل اسمه “الخلافة الخامسة”، لكنَّه يجِب عليك كقائد عسكري وأنت تصوغ سياستك في التعامل مع الإسلام أن تعترِف بسخافة الادِّعاء بأنَّ الإسلام منقسم على نفسه، وأن تعترف كذلك بأن توحيد بلاد الإسلام تحت إمرة قائد كارزمي أمر محتمل”.

إنَّه من المسلَّم به أنَّه يصعب محاربة شبح لا يمكن رؤيته، أو حتَّى الاعتقاد بوجوده، لكنَّ الأشدَّ صعوبةً هو أن تجِد هذا الشَّبح قد أصبح حقيقة واقعة لَم تحسب لها حساباتك، فإذا حدث ذلك – وهو ما تسعى إليه التَّنظيمات الجهاديَّة – سنكون قد وقعنا في شركٍ كبير آخَر، الملايين من المسلمين سيقِفون ضدَّنا، وعندئذ يصعبُ عليْنا التَّراجُع”. انتهى

وهكذا، نجد أن دولة الخلافة بوصفها مشروعا سياسيا حضاريا للأمة الإسلامية، هو أمر متأصل لدى العديد من الباحثين الموضوعيين في العالم، ولا يقتصر الأمر على حالات فردية، بل هم يرونه على أنه أمر واقع لا محالة وليس مجرد شبح يتخيل في الذهن، خاصة بعودتهم إلى تاريخ الأمة على امتداد قرون، رغم كل محاولات الأنظمة محو هذه الفكرة من أذهان المسلمين.

وعليه وجب على كل موضوعي أن يعد استراتيجية للتعامل الدبلوماسي مع هذه الحقيقة التي صار الغرب الكافر المستعمر يسعى بكل الوسائل والسبل إلى تأخير قدومها خوفا من تأثيرها على المسلمين كعامل من عوامل قوتهم، ومن أثرها لاحقا على أنظمتهم الاستعمارية التي تقوم على نهب خيرات الشعوب، تماديا في سياسة الهروب إلى الأمام رغم التحذيرات المتكررة من الأصوات العاقلة في الغرب والتي تؤكد على العمق التاريخي والحضاري للخلافة بوصفها نظام للحياة والمجتمع والدولة، لا بوصفها مجرد اصطلاح بلاغي أو شرعي، لعل أبرز هذه التحذيرات تلك التي تحدث عنها “جاي تولسون”.

“جاي تولسون” هو أحد الكتَّاب الأميركيين البارزين في شؤون الثَّقافة والفكر والدين، يكتب حاليًّا في مجلةU.S. News & World Reportكان رئيسًا لتحرير The Wilson Quarterly وكتب في عدة صحف ومجلات أخرى، أبرزها “الواشنطن بوست” و “وول ستريت جورنال”.تخرَّج في جامعة برنستون، وألَّف كتابين، وحصل على جائزتَين بصفته أحد الكتَّاب البارزين في الدراسات الأدبيَّة.

في الثاني من جانفي من عام 2008م كتب “تولسون” مقالاً، حاوَلَ فيه الوقوف على الدَّافع وراءَ جهود العديد من الإسلاميِّين المعاصرين لاستعادة هذه المؤسَّسة الإسلاميَّة القديمة، التي ألغاها “كمال أتاتورك” في عام 1924م، وأعلن بعدها تركيا دولةً علمانيَّة حديثة، هذه المؤسسة هي “دولة الخلافة الإسلامية”.

“الخلافة” كما يراها “تولسون” ببساطة هي: “نظام لقيادة دينيَّة – سياسيَّة يرجع جذورُه إلى الخليفة الأوَّل للنَّبي محمَّد – صلَّى الله عليه وسلَّم – في أوائل القرن السَّابع الميلادي”.

يرى “تولسون” أنَّ الغرب قد أساء فهْم فكرة “الخلافة” واعتبرها مفهومًا غامضًا مهدِّدًا له، في حين أنَّها عميقة الجذور في الذَّاكرة الثقافيَّة للعالم الإسلامي، ووجدت في أشكال مختلفة على مدى ألف وثلاثمائة عام تقريبًا، وامتدت سلطة الخلافة عبر ثلاث قارات من هذه البلاد، التي تُعْرَف الآن بباكستان إلى منطقة الشَّرق الأوسط وشمال أفريقيا، إلى ما يعرف الآن بإسبانيا والبرتغال، كما أنَّ معظم تاريخ المسلمين كان تحت ظلّ دولة الخلافة، وما يؤكد ذلك هو أن هذه الاستبيانات التي أُجْرِيت على شعوب أرْبع دول إسلاميَّة، كشفت أنَّ ثلُثي هذه الشعوب يؤيِّدون توحيد البلاد الإسلاميَّة في دولة واحدة أو خلافة واحدة.

تساءل “تومسون”: ماذا تعني “الخلافة” بالنسبة لمناصريها وأعدائها، سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين؟ وهل تتضمَّن هذه الخلافة برنامجًا سياسيًّا صالحًا للتَّطبيق؟ أم أنَّها مجرد مصطلح بلاغي من النَّاحية السياسية، مريح من النَّاحية النفسيَّة؟ أم أنَّها صرخة حرب تحشد وراءَها كلَّ هؤلاء الذين يبحثون عن القوَّة للإسلام، أو يسعون إلى مجرد إحداث تغيير؟

يجيب “تولسون” عن السؤال قائلاً: “إنَّ معظم الدَّارسين والمحلِّلين يروْن أنَّ السبب الأخير هو الصَّحيح، لكنَّهم يتَّفقون في نفس الوقت على أنَّ الجدل حول “الخلافة” يكمن في هذه الأزْمة الحالية التي يعيشها العالم الإسلامي وقياداته، وما يزيد في تعقيد هذه الأزْمة هو نظرة الكثيرين من المسلمين – والإسلاميِّين منهم بصفة خاصة – إلى أنَّ السلطتَين الدينيَّة والسياسيَّة لا تنفصلان في الإسلام”. انتهى

في الجزء الثالث من هذا المقال، سيكون حديثنا بمشيئة الله عن “ثوابت الدبلوماسية التونسية” وعما هو عليه حال الدبلوماسية في عهد الرئيس قيس سعيد، مقارنة بمن سبقوه من الرؤساء في تونس…

المهندس وسام الأطرش

CATEGORIES
TAGS
Share This