كلما تأكد فشل المنظومة السياسية، التي استطاعت أن تلتف على إرادة التونسيين في التغيير الجذري، في إدارة الشأن العام، وانكشاف عجزها الفاضح عن سياسة الناس ورعايتهم الرعاية الراشدة، وبعد أن زادها عجزها عن التعاطي مع جائحة كورونا وترك الناس إلى قدرهم، فعطل مظاهر الحياة اليومية، بل وبلغ بهم الأمر أن أغلقوا بيوت الله وعطلوا الجُمع والجماعات، وكلما ظهر للناس تفرق كلمتهم، ومبارزة بعضهم البعض بالعداوة وتبادل الاتهامات بالفساد والخيانة، إلا وطفت على ساحة الحياة العامة قضيتان خطيرتان تضع النظام برمته في دائرة النقض من جذوره: الدستور ونظام الحكم.
فلم تكف ستة عقود لتوجد لمسمى “دستور 1959” حضوة لدى الناس ولا رضا به أو تسليم، ولم تبك عليه أرض ولا سماء حين تم إلغاؤه. ولا كان دستور 2014 بأوفر حظا من سابقه وقد طعن في السبسي يوم أن نادى بتعديله يوم 20 مارس 2019 ولم يمض على إصداره خمس سنوات وهذا قيس سعيد الرئيس الحالي ينادي بالعودة إلى دستور 1959 بعد أن “ثبت له بالتجربة أنه غير مناسب وغير ملائم” غير مبال بإخلاله بالقسم الذي أداه على احترامه والسهر على حمايته، والذي صعد بمقتضاه إلى سُدّة الحكم
ولم يقدر الوسط السياسي العلماني الذي تسلط على رقاب الناس منذ أن أورثه المستعمر الكافر الحكم، وكرسه راعيا لوجهة نظره في الحياة التي فرضها علينا بالحديد والنار، وناطورا لمصالحه، أن يستقر رأيه على شكل النظام السياسي يصلح للإنسان من حيث هو إنسان، ولا أن يقنع الناس بأن هذا الشكل أو ذاك هو الأمثل لهم، بل إن كل طرف يدعو إلى الشكل الذي يساعده على تثبيت مركزه في الحكم.
فقيس سعيد وقد أسكره وهم الحصول على 72% من أصوات المقترعين في الانتخابات الرئاسية والتي لا تُجهل الظروف التي حفّت بالعملية الانتخابية، يدعو إلى التحول من النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي، بعذر أن النظام المطبق اليوم يفضي باستمرار إلى انقسام السلطة التنفيذية، ويشل تحركات الرئيس بسبب الصلاحيات الواسعة لرئيس الحكومة، وهو الذي صرح في إحدى الحوارات التي أجريت معه سنة 2013 بقوله: “للأسف التجربة الدستورية في تونس وفي البلاد العربية بوجه عام أثبتت أن الدساتير وضعت لإضفاء مشروعية على الحكام.”
إلا أن الأطراف التي تنتسب إلى خانة الثوريين وعلى رأسها حزب حركة النهضة ترى بأن تونس عليها أن تذهب إلى النظام البرلماني الكامل وإنهاء حالة التمازج بين النظام الرئاسي والبرلماني لتجاوز أي إشكاليات قد تحدث جراء المزج بين هذين النظامين خشية التحول إلى النظام الرئاسي وتركيز السلطات بيد شخص وجهة واحدة، إذ انه يمكن أن يكون الرئيس الحلقة الأضعف التي سوف يكسرها أتباع الثورات المضادة الذين يتربصون بالثورة التونسية ومشروعها.
هكذا ظلت “الصراع” وهكذا أشغلت القوى المهيمنة على بلادنا نواطيرٍها، الذين فرضتهم علينا، بأنماط دساتير وأشكال حكم لا ترعى شأنا رعاية حقيقية ولا تبرم أمرا رشدا، وأوهمتهم بأن التيه في زواريب هذه الأحابيل والصراعات الدونكشوتية التي تسكنهم هو سياسة ومن صميم الأعمال السياسية، مما ينزع عنهم أي شرعية لحكم البلاد. حتى أن قيس سعيد، الرئيس التونسي، نادى خلال مراسم تكليف وزير الداخلية هشام المشيشي، بتكوين الحكومة الجديدة، بضرورة مراجعة الشرعية في البلاد، في إشارة إلى النظام السياسي القائم. وقال سعيد يومها: “الشرعية نحترمها، لكن آن الأوان حتى تكون تعبيرا صادقا عن إرادة الأغلبية”.
فهل استعاد أهل تونس إرادتهم منذ أن سلبهم إياها المستعمر الغربي، يوم أن توجه المستشار الألماني بسمارك خلال مؤتمر برلين (13 جوان- 13 جويلية 1878)، الذي التأم لاقتسام تركة الرجل المريض، الدولة العثمانية بين دول أوروبا الغربية، إلى وزير الخارجية الفرنسي “وليام- هنري وادينغتون” بقوله: “إنّ الإجّاصة التونسية قد أينعت وحان قطافها. أتفكّرون في ترك قرطاج بين أيدي البرابرة” !!! بل، منذ أن فرضت عليها الدول الغربية عهد الأمان، ودستور 1861 الذي أسس بموجبه لإقصاء الأحكام الشرعية، وقد أخذ حاكم البلاد يومها مباركة إمبراطور فرنسا، نابوليون الثالث، محتل الجزائر، والطامع لاحتلال تونس، للدستور الذي يعده بعضهم مفخرة لهم.
وهل عبر دستور 1959 أو دستور 2014، أو نظام الحكم الذي يخضعون له، عن إرادة أهل تونس الذين ارتضوا الإسلام منهج حياة، وقد أسس لإقصاء الأحكام الشرعية، والتوطين لنمط الحياة العلمانية التي يفرضها الغرب المستعمر، مع ما يعلمه الجميع من إشراف التدخل الأجنبي على صياغة فصوله وتحديد منهجه والتأصيل لغايته. واستعادة الإرادة لا تكون إلا بجسر كل الفترة التي سُلِبنا فيها تلك الإرادة، فلا شرعية لأي سلطة قامت فينا منذ أن فقدنا إرادتنا ولم نعد نصدر في كل شؤوننا عن قناعاتنا، إلى يومنا هذا حتى يكون دستورنا منبثق من العقيدة الإسلامية ومأخوذ من الأحكام الشرعية، بناء على قوة الدليل، دستور إسلامي ليس غير، وليس في شيء غير إسلامي.
فمهما اضطرب القائمون اليوم على شأن الناس فينا، ومهما لبّسوا الحق بالباطل فلن ننال من ورائهم خيرا ولن نرجو منهم صلاحا. فالخير كل الخير في ظل سلطان الإسلام، ولغيابه يقع على أهل تونس، كسائر شعوب الأمة، فرض إيجاده وجعل قطرِهم نقطة ارتكاز لدولته، يطبق عليهم فيه الإسلام كاملا غير مجزأ وتفتك المبادرة من أعدائها لقيادة البشرية إلى الفلاح.