لا يحدث إلاّ في “جمهوريّات الموز”.. اختفاء الغذاء والماء والدواء

لا يحدث إلاّ في “جمهوريّات الموز”.. اختفاء الغذاء والماء والدواء

لها من العمر ما يزيد عن ستة عقود, حين يتغزلون بها ويصفون محاسنها يقولون بأنها دولة وطنية, مدنية, حديثة..لها جحافل ممن يعتبرون أنفسهم الطبقة المثقفة, يدافعون بشراسة عن مدنيّتها وعن قانونها ومؤسّساتها, بوصفها دولة القانون والمؤسسات. نفس الشيء بالنسبة للماسكين بدواليبها, شغلهم الشاغل هو المحافظة على مدنيتها وترسيخ مؤسساتها, وجعل علوية قوانينها غاية الغايات, ومن أوكد المسائل التي على الحاكم والمحكوم الرضوخ لها. هذا ما دأب عليه حكام تونس وبطانتهم منذ أن أسس زعيمهم “بورقيبة” هذه (الدولة) إلى يومنا هذا.
تلك التسميات وتلك الأوصاف التي يطلقونها على الدولة ويبذلون قصارى جهودهم لتثبيت دعائمها وضمان ديمومتها واستمرارها, تختزل في تسمية واحدة، وفي وصف واحد، وهي “الدولة العلمانية” التي فصلت الإسلام عن حياة الناس وأبعدته عن الحكم بشكل قاطع واختار القائمون عليها وكل من يدور في فلكها الرضوخ والخنوع للقوى الاستعمارية ورضوا أن يكونوا في تبعية مخزية ومهينة لتلك القوى فكريا وسياسيا واقتصاديا. نعم هي دولة علمانية نبذ الساهرون عليها أحكام الإسلام وراء ظهورهم ونازعوا الله في حق مقصور عليه جلّ في علاه, ألا وهو التشريع, واتبعوا ما تتلوه عليهم شياطين الغرب وجحدوا بشرع الله بل حاربوا كل من دعا وعمل لتطبيقه وجعله المصدر الأول والأخير لسن القوانين ورعاية شؤون الناس. فصل الإسلام عن الحياة والاحتكام للنظام الديمقراطي العلماني انعكس وبوضوح على الحياة اليومية للناس, ومع تعاقب الحكام والمسؤولين منذ فترة حكم بورقيبة إلى اليوم باتت مساوئ هذا النظام وعجز الدولة الساهرة على تطبيقه بارزة للعيان أكثر فأكثر, و”لا ينتطح فيها عنزان”. فما تعيش على وقعه تونس اليوم وتتالي الأزمات ما هو إلا دليل قاطع على أن هذه الدولة لا يمكنها بأي حال من الأحوال رعاية شؤون الناس وتوفير ما يلزمهم من متطلبات العيش, فالخبز أصبح من الأشياء النادرة, فلمن يريد الحصول على رغيف خبز أن يقف في طابور طويل ولساعات طويلة وفي أغلب الأحيان تنتهي رحلة العذاب هذه دون الوصول إلى المرام. فآلاف المخابز أغلقت أبوابها وتوقفت عن النشاط في ظل اضطراب تزويدها بمادة الدقيق من قبل المؤسسات الرسمية, والأزمة قابلة للاحتدام نتيجة عجز الدولة عن القيام بواجبها وتوفير أهم سلعة استهلاكية لدى الناس, فكل المؤشرات توحي بأن العديد من المخابز ستلتحق بركب تلك التي توقفت بشكل نهائي عن النشاط, وتشير الأرقام إلى أن نسبة المخابز التي أغلقت أبوابها تفوق الأربعين بالمائة, هذا دون الحديث عن الأزمة الكبيرة التي تواجهها المستشفيات والمدارس والسجون ودور الإيواء فهي تكاد تكون عاجزة تماما عن التزود بمادة الدقيق, علما أن ديوان الحبوب المؤسسة الحكومية المكلفة بتوريد الحبوب والمزود الوحيد للمطاحن, على أبواب الإفلاس بعد أن تجاوزت ديونه ثلاث مليارات دينار أي ما يعادل تسع مائة وستة وثمانين مليون دولار. في مقابل هذه الأزمة الخانقة يعيش الرئيس “قيس سعيد” في حالة إنكار تام للأزمات يرافقها عجز كلي عن إدارة شؤون الناس, ومن أين له أن يتمكن من رعاية شؤون الناس ودولته التي يستميت في الدفاع عنها لا تملك الإرادة والقدرة على إيجاد الحلول والبدائل لمعالجة المشاكل والخروج من الأزمات, فهي وجدت أساسا لغرض آخر وهو محاربة الإسلام كنظام يشمل جميع الحياة ويشبع جوعات الناس وفق ما جاء به الوحي كتابا وسنة, هذا الى جانب إثقال كواهل الناس بالضرائب والإتاوات. هذا في ما يخص مادة الخبز دون الحديث عن فقدان السكر والزيت والقهوة وعلف المواشي مما جعل استهلاك اللحوم بأحمرها وأبيضها ضربا من ضروب الترف المبالغ فيه والمذموم.
هناك معضلة أخرى لا تقل خطورة عن معضلة فقدان الخبز, إنها أزمة الأدوية واختفائها من رفوف الصيدليات, سواء التابعة للمستشفيات العمومية أو الخاصة, فجراء المشاكل المالية التي تعاني منها الدولة ووقوفها على حافة الإفلاس, تعيش تونس على وقع أزمة حادة ضربت قطاع الأدوية, ما يهدد حياة الآلاف من المصابين بأمراض مزمنة. فمنذ أشهر عديدة اختفت مئات الأدوية من الصيدليات في كامل أرجاء البلاد خاصة تلك المتعلقة بعلاج أمراض خطيرة ومزمنة مثل مرض القلب والسكري وضغط الدم والسرطان. فالدولة التي يذود الرئيس عنها والتي يستهدفها المتآمرون والعملاء والخونة, على حد وصفه, جعلت المريض يعاني من أجل الحصول على الدواء ويدور في حلقة مفرغة, فدواء السرطان مثلا أصبح حكرا على طبقة الأغنياء فمن يملك المال يتجه إلى أوروبا ليحصل على الدواء وهذا الأمر مكلف جدا، قد يصل إلى عشرين ألف دينار حسب ما صرح به رئيس جمعية “تحدي لمكافحة السرطان” نبيل فتح الله وهذا ما لا يقدر عليه البتة الفقراء الذين يعانون من هذا المرض. فهم بالكاد يحصلون على قوت يومهم جراء التهاب الأسعار وتدهور المقدرة الشرائية لمعظم أهل تونس, وسبب نقص الأدوية المستوردة هو الديون المتراكمة على الصيدلية المركزية, وقد ناهزت 750 مليون دينار, وحتى الأدوية البديلة أو تلك التي يسمونها بالأدوية الجنيسة اختفت هي أيضا ولا أثر لها في الصيدليات, بعد ارتفاع أسعار المواد الأولية ويتم توريدها بالكامل إضافة إلى ارتفاع تكلفة الشحن بين ثلاث وأربع مرات, والذي زاد الطين بلة أن الدولة سعّرت الأدوية المصنّعة محليا مما يجعل المصنعين المحليين غير قادرين على تغطية كلفة المواد الأولية والمصاريف الأخرى.
بل إنّ جرام هذه الدولة طال الشيء الذي جعل الله منه كل شيء حيا, وهو الماء, وتعدّ مسالة شح الماء وندرته مسألة قديمة وتخص المناطق الداخلية المهمشة والمنسية التي ترزح تحت نير العطش منذ سنوات طويلة واضطر أهلها إلى استهلاك مياه غير صالحة للاستعمال البشري, فالدولة جعلتهم أشبه بالدواب والحيوانات البرية لشربهم المياه الملوثة والآسنة, وبعد انحباس الأمطار ودخول البلاد في حالة جفاف توسعت دائرة نقص المياه وطالت المناطق الحضرية وبات أغلب سكان تونس يتهددهم العطش. واستغلت الدولة حالة الجفاف وعلقت فشلها بالكامل على انحباس الأمطار وحملت كالعادة الناس مسؤولية نقص الماء وتوعدت بقطعه عن المتساكنين في الصيف ليلا, لم تجد من الحلول إلا قطع الماء كل ليلة في فصل الصيف بينما كانت تغط في سبات عميق طيلة عقود واعتمدت تمشيا دمّر منظومتنا المائية, وبينما ظلّت تفتح الطريق أمام طالبي الثراء الفاحش من المستثمرين لتنصيب وحدات تعليب المياه مع ما تتسبب به من استنزاف للطبقات المائية وتهديد للأمن المائي للبلاد. هذا دون نسيان قطاع السياحة فهذا القطاع من أكثر القطاعات المستهلكة للماء إن لم يكن أكثرها حيث يصل معدل استهلاك الماء إلى 500 لتر للسرير الواحد يوميا أي ما يعادل خمس مرات من استهلاك الفرد. هذا وقد شهدت مدينة الرديف حالة غضب واحتقان بسبب انقطاع الماء الصالح للشراب طيلة أسبوعين وكعادتها لم تحرك الدولة ساكنا بل خرج أنصار “قيس سعيد” في وسائل الإعلام ليكرروا سردية الرئيس بأن الأزمة مفتعلة وهناك من يتربص بالدولة ليسقطها، وأن المستهدف من خلق تلك الأزمات هو رئيس الدولة الذي حسب زعمهم جاء ليخلص البلاد من شرور الخونة والعملاء. والحال أن هذه الدولة مردت على الخيانة والعمالة منذ تأسيسها, ولم يتغير نهجها حتى بعد اندلاع الثورة, لا لشيء إلا لكونها ليست بالدولة المبدئية اذ تحتكم لنظام يخالف عقيدة أهل البلد وسمحت طبيعتها بوجود إمعات وتفه وصفهم صلى الله عليه وسلم بالرويبضات لا يقدرون على خير أبدا..

CATEGORIES
Share This