يبدو أنّ النظام السعودي لم يعد يكتفي بالقمع وتكميم الأفواه والتضييق السياسي والاغتيالات وتقطيع الجثث بالمناشير وإذابتها بالأحماض، بل تجاوز هذه الفظاعات ليشنّ حربًا دمويّة على منظوريه لا تقلّ بشاعةً عن تلك التي يشنّها على الشعب اليمني إرضاءً لأسياده وإنفاذًا للمشاريع الأمريكيّة الصّهيونية المستهدفة لمقدّسات المسلمين ومقدّراتهم…فصباح 13 أفريل 2020 حاصرت قوّات الشرطة العسكريّة المدجّجة بالسّلاح قرية (خريبة) التي تقع ضمن المرحلة الأولى من مشروع (نيوم) وشرعت في تهجير أهلها من ديارهم غصبًا بالقوّة… وكان الأهالي المنتسبين إلى قبيلة (الحويطات) قد عبّروا عن رفضهم إخلاء قراهم ومنازلهم ومن بينهم المسمّى (عبد الرّحيم الحويطي) الذي تمسّك بموقفه واستمات في الدّفاع عنه رافضًا فكرة التخلّي عن بيته وأرضه ولو كلّفه ذلك حياته… فما كان من عصابات بن سلمان الإجراميّة إلاّ أن أهدرت دمه وتعاملت معه بوصفه (جيشًا معاديًا) فأمطرته بوابل من الرّصاص وهدمت بيته فوق رأسه وأردته قتيلاً بين زوجته وأبنائه الثّلاثة… وقبل موته وثّق عبد الرّحيم الحويطي قصّته في سلسلة من مقاطع الفيديو صوّرها بنفسه، وقد بدا فيها شامخًا عزيزًا شجاعًا مطمئنًّا إلى قضاء الله كاشفًا لمخطّطات الاستعمار…كما بدا أيضًا على درجة متقدّمة من الوعي السياسي: فقد اتّهم السلطات السعوديّة بممارسة إرهاب الدّولة بحقّ عشائر الحويطات لإجبارهم على إخلاء أراضيهم وقراهم، وقال (أتوقّع أن تقتلني الشرطة في بيتي وتتّهمني بالإرهاب وتلقي أسلحة بجوار جثّتي كما يحدث في مصر)…وأضاف مزدريًا بالنظام السعودي وولي عهده (هذه الدّنيا تحت ولاية أمثال محمد بن سلمان لا يُؤسف عليها…بكينا هذا الزّمن بولاية الأطفال وأفكار الصّبية وأعوان الفاسدين)…كما أغلظ القول لعلماء البلاط ناعيًا عليهم جبنهم وخيانتهم الأمانة (مصيبتنا العظمى في العلماء الجبناء، بدّي أوصللهم رسالة: والله بئس وعاء العلم أنتم لو أخذتم العلم بحقّه ما وصلنا لهذه الحال، ومن حق العلم عدم كتمانه)…وختم حديثه بفضح مشروع (نيوم) وكشف ما يخطّط له النظام السعودي فوق أراضي الحويطات (يقولون إن قوانين السعوديّة على الشريعة الإسلاميّة مع التحفّظ…لكن سيضعون قوانين تبيح لهم كل شيء وسينشؤون مراقص وخمّارات)…
مشروع (نيوم)
وللتذكير فإن مشروع (نيوم) الذي انخرط فيه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان منذ أكتوبر 2017 هو مشروع استثماري تجاري وصناعي وسياحي يتركّز على السّاحل الشمالي الغربي من البحر الأحمر بطول 150 كلم وعرض 100 كلم، وتبلغ تكلفته 500 مليار دولار…أمّا مساحته الإجماليّة فتمسح 26.500 كلم مربّع شاملة في جزء منها بعض الأراضي الأردنية والمصرية والإسرائيلية أيضًا…هذا المشروع/الدّويلة مُسخّر بزعمهم (لدعم الإبداع والفنون) فيما هو واقعًا نواة لأكبر بؤرة للفساد والفجور في المنطقة: فهو عبارة عن تأسيس لتجمّع منتجعات ومراقص وكازينوهات ونوادٍ مشبوهة على شاكلة ماهو موجود في الإمارات وشرم الشيخ إضافة إلى البنوك والبورصات والشركات التجارية وبعض الصّناعات لتكون مرتكزًا لتجمّع الأثرياء أصحاب رؤوس الأموال في المنطقة والعالم من اليهود والأمريكان والأوروبيين…وأمثال هذه البؤر تكون عادةً مراكز للتجارة بكل شيء بما في ذلك الخمور والمخدّرات والأعراض تحت غطاء السياحة: إذ يشتمل المشروع على سبع نقاط جذب بحرية سياحيّة بالإضافة إلى 50 منتجعًا وأربع مدن سياحيّة صغيرة ومشروع سياحي ضخم منفصل بالبحر الأحمر يلتحم بمنتجعي شرم الشيخ والغردقة بمصر والبتراء بالأردن وأيلات بإسرائيل ليكوّن (دويلة سياحيّة) يُشرف عليها الإسرائيليّون بمقتضى رؤية 2030 للمنطقة… وضمن هذه الرؤية يسعى الفاجر بن سلمان إلى تغيير نمط عيش السعوديين وتفكيرهم نحو العلمانية والحياة الغربية، أمّا ما يأخذه من الغرب فليس العلم والصناعة بل بالعُري والرقص والفساد والفسق، ويبدّد في سبيل ذلك المليارات من أموال الأمّة المتأتيّة من الحجّ والنفط…وكما فعل المجرم السيسي لإخلاء شمال سيناء ومثلثها الجنوبي أمام المشاريع الصّهيونية، أقدمت كتائب بن سلمان على تهجير قبيلة الحويطات بالحديد والنّار والجرّافات، وما حادثة الحال عنّا ببعيدة…
السعوديّة 2030
هذا المسخ الممنهج لهويّة الجزيرة العربيّة وتركيبتها العرقيّة والإثنية انتقل مع محمد بن سلمان إلى سرعته القصوى وتحوّل إلى مخطّط حكومي يرمي بكلّ صفاقة إلى نزع القداسة عن مشاعر الحجّ تنظيرًا وممارسة، أي تهيئة العقليّات لإنجاز ذلك والقبول به وتزويده بترسانة تشريعيّة وبنية تحتية والانخراط فيه على جميع المستويات دون تحفّظ ولا خطوط حمراء… وقد جسّد بن سلمان هذا الانبطاح اللاّمشروط في خطّته لسنة 2016 (رؤية السعودية 2030) وهي خطة ما بعد النفط في المملكة السعودية وتشمل ـ إلى جانب البرنامج الاقتصادي الذي يمكّن لأمريكا وشركائها ولوبيّاتها المالية في المملكة ـ برنامجين مسمومين خطيرين يستهدفان الهويّة والمقدّسات: الأوّل هو برنامج تعزيز الشخصيّة السّعودية الذي يُعنى بتكريس الهوية الوطنية للأفراد وإحياء التراث الوطني للملكة وترسيخ قيم التّسامح والوسطية والاعتدال وخلق جيل يتماشى مع اقتصاد السوق المفتوح القائم على النفعيّة والرّأسمالية الجشعة ومع المخطّطات الاستعمارية لدمقرطة المملكة وتفتيت رواسب الإسلام فيها وفي شعبها… كما يتطلّع إلى (تصحيح الصورة الذهنيّة للملكة السعودية خارجيًّا) من دولة وهّابية إلى دولة ديمقراطيّة منفتحة على ثقافات العالم…
أمّا البرنامج الثاني فهو الهيئة العامّة للترفيه وهي ذراع الفساد والتّمييع العمليّة، وما مصطلح (ترفيه) إلاّ تهذيب وتغطية على ذلك، وقد أُسند إليها نظريًّا دور تنظيم وتنمية قطاع الترفيه في المملكة وتنويع وإثراء تجاربه وتوفير الخيارات والفرص الترفيهيّة لكافّة شرائح المجتمع…بمعنى أن دور الهيئة هو تكريس العقليّات الترفيهية التافهة المائعة وتزويدها بالبنية التحتية والتمويل والترسانة القانونية وتنشيطها واستحثاثها من أجل إفساد الذوق العام وتمييعه بما يُفقد البلاد مناعتها وطابعها الإسلامي المتميّز بوصفها قلب مقدّسات المسلمين ويؤدّي عمليًّا إلى امتهان تلك المقدّسات والاستخفاف ببيت الله الحرام ومدينة رسوله المنوّرة والاستهانة بهما… أمّا السبيل إلى ذلك فهي استهداف شريحتين أساسيّتين في المجتمع ألا وهما المرأة والشّباب…
من التنظير إلى الممارسة
ولم يتوقّف الأمر عند النوايا (السيّئة) بل تعدّاها إلى الممارسة الميدانيّة على أرض واقع بلاد الحرمين الشريفين في تطاول صفيق على الله ورسوله لا يجرؤ عليه إلاّ أحفاد آل سلول. ففي تبادل مريب للأدوار ارتفعت منذ 2016 (أصوات سعوديّة معارضة بالخارج) تطالب (برفع الوصاية الذكوريّة على المرأة السعوديّة وتخفيف معاناتها من العقليّات الوهّابية)… وقد اهتبلها بن سلمان فرصة لإطلاق ما أسماه (عهدا ثقافيّا جديدا في المملكة التي يسودها الاتجاه المحافظ) فسُمح للنساء السعوديّات بممارسات كانت محظورة عليهنّ كقيادة السيّارات وحضور مباريات كرة القدم في الملاعب وارتياد دور السنما وفتح باب التجنيد الاختياري لهنّ ،كما وقع تعيين إمرأة في منصب حكم (نائبة وزير العمل) في مخالفة صريحة للشرع..
وقد استضافت العاصمة الرياض لأوّل مرّة في تاريخها فعاليّات (أسبوع الموضة العربي) حيث عُرضت تصميمات مخالفة لمعايير الزيّ الوهّابي (العباءة السوداء والنقاب) بفتوى ومباركة من هيئة كبار العلماء…كما سُمِح بإقامة الحفلات الموسيقيّة العامّة المختلطة والماجنة واستقدمت هيئة الترفيه المطربين من الجنسين عربا وأجانب على غرار (ماريا كاري ـ نيكي ميناج..)..وإمعانا منه في محاربة الله ورسوله واسترضاء أسياده في واشنطن وتل أبيب ،أذن بن سلمان بافتتاح أوّل (بار حلال أو ديسكو حلال) في مدينة جدّة يستقبل الرجال والنساء ويقتصر على الموسيقى والرقص والمشروبات غير الكحوليّة ـ مبدئيّا ـ لاستدراج الشباب إليه…وفي نفس السياق استشرت ظاهرة المسابقات ذات الجوائز المليونيّة ووُظِّفت لتمييع الإسلام على غرار مسابقة تأدية الأذان ومسابقة رحلة الهجرة إلى جانب مسابقات (الحصن ـ الروديو الأمريكي ـ البلوت ـ التركسي ـ ذو فويس في نسخته العربيّة…) والأخطر من كلّ ذلك أنّه قد سُمِح للسيّدات بلعب (البلوت والسّيكونس) وللأطفال بممارسة التزلّج في باحات المسجد الحرام والمسجد النبويّ في استهانة كليّة بمشاعر الحجيج والمعتمرين ودون أدنى احترام لقداسة المكانين الشريفين…
الشرق الأوسط الجديد
في أيّ سياق سياسي يتنزّل مشروع (نيوم) وفي أي مخطّط يندرج..؟؟ عبّر الرّئيس الإسرائيلي الأسبق شمعون بيريز في كتابه (الشرق الأوسط الجديد) عن تصوّره واستشرافه لمستقبل العلاقات العربية/الإسرائيلية، وقد بدا تصوّره ذاك في تسعينات القرن المنصرم ورديًّا وغير واقعي ومتفائلاً أكثر من اللاّزم: إذ تنبّأ بقيام تكتّل اقتصادي عربي/إسرائيلي يماثل الاتّحاد الأوروبي بين كيان يهود ودول الطّوق خاصّةً الأردن ومصر والسعودية، كما توقّع أيضًا إصدار هذا التكتّل لعملة موحّدة وإحداث مناطق تبادل حرّ وخلق مدن استثماريّة وسياحيّة مشتركة وتركيز مشاريع عملاقة لإنتاج الطّاقة تكون عابرة للحدود…ولكن السؤال المحيّر هو كيف ستشارك السعودية (بيضة القبّان اليهودي) في هذا المشروع وهي لا تمتلك حدودًا جغرافيّة مع إسرائيل..؟؟ سنة 2016 وفي خطوة مفاجئة منحت مصر السيسي للملكة جزيرتي (تيران وصنافير) الموجودتان قبالة خليج العقبة وقريبًا الحدود الجنوبيّة “لإسرائيل” بدعوى أنّ الجزيرتين هما في الأصل تابعتان لمملكة الحجاز وفق الوثائق الاستعمارية البريطانية، وأنّ مصر كانت تمارس وصايةً عليها وقد حان الوقت لإعادتها إلى آل سعود… وبذلك أصبحت المملكة معنيّة باتّفاقية كامب دايفد للسلام إلى جانب إسرائيل ومصر والأردن ومشمولة أيضًا بما تنصّ عليه الاتّفاقية من مشاريع مشتركة بأثر رجعي…وقد أكّد شمعون بيريز في كتابه على أهمية الجزيرتين “لإسرائيل” لأنّهما منفذها الوحيد لتقيم لنفسها ميناءً مستقلاًّ في شمال البحر الأحمر أحد أكثر الممرّات البحرية استراتيجيةً في العالم، وقد جاءت ملامح التنسيق الاقتصادي المقترحة متطابقة ـ بقدرة قدير ـ مع رؤية بن سلمان للسعوديّة 2030…
تقارب وتنسيق
في الأثناء كثر الحديث في الصحف العبرية والعالمية عن الزيارات السريّة لولي العهد السعودي محمد بن سلمان إلى تل أبيب وعن التقارب بين النظامين السعودي والإسرائيلي…وقد تزامن هذا التقارب مع التنسيق المستمرّ بين بن سلمان وإدارة ترمب الجديدة وخاصّةً بينه وبين صهر الرئيس الأمريكي ومستشاره المقرّب الصهيوني (جيرارد كوشنر) مهندس صفقة القرن…الغطاء السياسي لهذا التقارب يقوم على تحويل العداء العربي من إسرائيل إلى إيران: فهو يقوم على مسلّمة استراتيجيّة تهمّ الاستقرار والأمن القومي لدول المنطقة مفادها أن أكبر عدوّ يهدد الجميع هو إيران وليس إسرائيل، فهي مصدر المشاكل والحروب وأكبر داعم للإرهاب في المنطقة وتمثّل بالتالي خطرًا حقيقيًّا أو محتملاً للجميع بما في ذلك إسرائيل… لذلك فإنّ مقتضيات التصدّي لها تستوجب تقارب دول المنطقة مع “إسرائيل” والتنسيق معها لا عسكريًّا فحسب بل واقتصاديًّا أيضًا.. وقد تبلورت هذه الرّؤيا خصوصًا بعد القمّة العربيّة الإسلاميّة التي حضرها ترمب في السعوديّة والتي أثمرت نتائج سياسيّة بدأت ملامحها تتّضح تباعًا وتمثّلت خاصّةً في تشكيل التحالف العربي للعدوان على اليمن وحصار قطر وتصفية الثورة السورية وتغيير مواقف عربان الخليج منها ووقف دعمهم لها، وكذلك تصنيف حماس والإخوان وحزب الله كحركات إرهابيّة…أمّا النتائج المباشرة والمرتبطة عضويًّا بمشروع الشرق الأوسط الجديد فتمثّلت في مناورات عسكريّة وسياسيّة واجتماعيّة لتمهيد الأراضي والعقول، ويتنزّل في هذا الإطار مذابح السيسي وتهجيره لأهالي سيناء بتعلّة محاربة الإرهاب وكذلك رؤية بن سلمان السعودية 2030 وما انبثق عنها من مشاريع بما في ذلك مشروع (نيوم) وتهجير قبائل (الحويطات) من أراضيهم…