“لجنة الحريات والمساواة” تسلّط الأقلية العلمانية على الأغلبية المسلمة

“لجنة الحريات والمساواة” تسلّط الأقلية العلمانية على الأغلبية المسلمة

        منذ ان أثمرت الثورة في تونس على هروب رأس النظام الحاكم “بن علي” , ولاحت فرصة تاريخية لتغيير النظام وبدأ الحديث عن أسس جديدة للدولة, تجنب الوسط السياسي والإعلامي البنفسجي  في تونس الحديث عن هوية الدولة, أو على الاقل محاصرته وعدم الاغراق فيه, بحجة عدم الدخول في صراع ايديولوجي عقيم . وهذا ما يسّر لهيئة ” بن عاشور” والمنظمات السياسية والمهنية المشكلة لها اتخاذ “الدولة المدنية” نموذجا سياسيا للمرحلة القادمة.

الدولة المدنية تحيّل على  الهوية الاسلامية

         وبالرغم من اهمية موضوع تأسيس الدولة باعتبارها كيانا تنفيذيا يطبق قناعات ومفاهيم أمة, فقد تم عن قصد  تجاهل  هوية الشعب التونسي باعتباره كيانا اجتماعيا يحمل عقيدة و مشاعر اسلامية راسخة في وجدانه, وتحكم علاقاته الاجتماعية احكاما شرعية تحولت  بعراقتها إلى أعراف اجتماعية يستحيل تجاوزها. وهكذا تم دفع هيئة “بن عاشور” و”المجلس التأسيسي” الى تبني خيار “الدولة المدنية”  دون اطلاع الرأي العام على حقيقة معناها  وحقيقة علاقته بطبيعة الامة الاسلامية التي يشكل الشعب التونسي جزء منها.

       وجاءت المقترحات الصادمة  ل”لجنة الحريات الفردية والمساواة” التي اتخذت من الدستور أساسا لعملها ليكتشف  الرأي العام ما تم إخفاؤه عنها من معنى  “الدولة المدنية” والذي لم يكن سوى معنى “الدولة العلمانية” التي تحارب الهوية الاسلامية , فتفصل الدين عن الحياة وتحارب وجوده في كل المجالات العامة, وتجعل منه شأنا فرديا خاصا.

تيّارات أم أحزاب

            أن عملية بناء نظام سياسي دون النظر الى طبيعة  الامة  ومراعاة مكوناتها وأوزانها النسبية، هي في الحقيقة محاولة لبناء نظام سياسي هش. لأن هوية المجتمع  تتأسس على الطابع الغالب للتيار السائد في المجتمع.  وهذا الأمر لا يحتاج لدليل.

             فالتيار السياسي والاجتماعي  ليس هو الحزب أو التنظيم؛ بل هي تلك الجماهير التي تتميز  برؤية ثقافية واختيار اجتماعي، ومجموعة متماسكة ومترابطة من القيم والاتجاهات والتفضيلات والاختيارات والمواقف والممارسات السلوكية والأخلاقية  والدينية .

            وتونس كغيرها من البلدان الاسلامية خضعت لعملية منهجية لتغيير توجهاتها الفكرية  زمن الاستعمار  الخارجي ، وزمن أنظمة الحكم العميلة المتحالفة مع الغرب.  وقد أدت عملية الغزو الثقافي الممنهج  إلى ظهور تيار علماني، بشقية الليبرالي واليساري، دون ان يكون له  جذور تاريخية في الموروث الثقافي الحضاري  للأمة ألإسلامية بل كان ارتباطه أساسا بالسلطة وبالاستعمار وثقافته. وبالرغم من  أن تونس كغيرها من بلاد الاسلام قد عرفت تعددية اجتماعية وثقافية واسعة، إلا أن تلك التعددية كانت داخل إطار الهوية الإسلامية العامة، ولم تكن خارجها.

العلمانيون وتصنيع هوية مزيفة

        بعد الثورة ركز المنتمون للتيار العلماني ومعهم الدولة العميقة على إظهار وجود انقسام في المجتمع حول الهوية، وأن  أن هذا الانقسام يمنع تشكل هوية واحدة ونهائية للمجتمع. وأصبح  هدفهم أيضا إعادة تقسيم المجتمع , لا على أساس الهوية السياسية و الاجتماعية للتيارات المشكلة له ,  بل على أساس المؤيدين للدولة والأمن والاستقرار والمتخوفين من التنظيمات الإسلامية وسياساتهم ، في مقابل المؤيدين للتنظيمات أو الأحزاب الإسلامية.

          كان الهدف من هذا، هو عرقلة تأييد جماهير التيار الإسلامي للأحزاب الممثلة لهذا التيار, وإظهار أن المجتمع منقسم على الهوية بالتساوي، وكأن التيار العلماني له نفس حضور التيار الإسلامي.

            فكل ما حدث في تونس بعد الثورة  من نزاع سياسي حاد، واعتداءات مشبوهة,  وكل محاولات فرض ديمقراطية مقيدة ، وتأكيد سيطرة الدولة العميقة على السلطة ، كان موجها أساسا لحصار الهوية الإسلامية للدولة، و تقييد التيار الإسلامي السائد، حتى لا يبني دولة إسلامية، بالإرادة الشعبية الحرة، نظرا لأن التيار الإسلامي هو التيار الغالب.

التيار الاسلامي حاضر وإن غاب

        وبعد تمكن التيار العلماني بشقيه اللبرالي واليساري المتحالف مع اجهزة الدولة العميقة من ايصال مرشحيهم الى سدة الحكم بعد انتخابات 2014 المشبوهة ,  ظن أصحاب هذا التيار  أن حجمهم السياسي في الحكم يعكس حجمهم الحقيقي  بين الجماهير, لذلك تجرؤا على تكوين “لجنة الحريات الفردية والمساواة”  لتقديم مقترحات علمانية غربية لتنظيم العلاقات الاجتماعية والأسرية. فكانت صدمتهم وذهولهم من ردة الفعل الشعبية العارمة والرافضة لكل مقترحاتها جملة وتفصيلا بل حتى دون الخوض في تفاصيلها.

          وهكذا فكل ما قام به إعلام الدولة العميقة المتحالف مع التيار العلماني الموالي للغرب  لم يغير من الحقيقة على أرض الواقع شيئا ، لأن الأغلبية الواسعة لجماهير التيار ألإسلامي ليست مرتبطة بحجم تأييد الأحزاب والتنظيمات ألإسلامية بقدر ارتباطها بالعقيدة الاسلامية وبتاريخها وتراثها الثقافي والتشريعي والحضاري الاسلامي.

          الحقيقة الواضحة أن أغلبية الجماهير الشعبية  في  بلاد الاسلام تنتمي للتيار الإسلامي ، وهي صاحبة الحق في اختيار هوية المجتمع وهوية الدولة الاسلامية . ولكن تلك الجماهير لا تنتسب لحزب إسلامي أو تنظيم إسلامي بعينه ، فالأوزان النسبية للأحزاب والتنظيمات متغيرة، أما الأوزان النسبية لمكونات المجتمع فمستقرة ، مما يجعل التيار الاسلامي هو السائد في تونس وغيرها ، هو مصدر الهوية الإسلامية للمجتمع والدولة، وليس التنظيمات والأحزاب الإسلامية.

محمد مقيديش

CATEGORIES
TAGS
Share This