لجوء تونس إلى صندوق النقد الدولي هروب إلى الأمام، ومعالجة للداء بالتي كانت هي الداء
الخبر:
كشف وزير الاقتصاد والتخطيط، سمير سعيد، الأربعاء، “أن وفدا تونسيا سيتحول الى واشنطن في الفترة بين 18 و24 أفريل 2022 لتعميق التفاوض مع صندوق النقد الدولي، مشيرا إلى أن وثيقة الإصلاحات الاقتصادية، جاهزة وشاملة” دون تقديم تفاصيل إضافية عنها.
وقال سعيد إن المشاورات مع صندوق النقد الدولي، “في طريق جيد وان الإصلاحات ستكون هيكلية وستمكننا من إرجاع التوازنات المالية على المدى المتوسط”. وأشار سعيد من ناحية أخرى، إلى أن تونس في حاجة إلى القيام بإصلاحات هيكلية سواء في الوظيفة العمومية أو في منظومة الدعم الحالية التي تشجع على التهريب، وفق قوله. وأوضح في السياق ذاته، انه “لا يوجد إلغاء للدعم بل سيتم تعزيزه وسيكون موجه أساسا للعائلات محدودة الدخل”.
التعليق:
من جهته فإنّ صندوق النقد الدولي أكد إن بعثته التي زارت تونس، من 23 إلى 25 مارس 2022، “حققت مزيد التقدم في المشاورات الفنية مع السلطات التونسية وان المحادثات كانت “مثمرة”. وقال الصندوق: “سنبقى ملتزمين، اليوم، تجاه السلطات التونسية في جهودها المتعلقة بالإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية الموجهة لصالح المواطن”
وأكدت البعثة “أن تونس تواجه تحديات هيكلية كبيرة تتجلي من خلال عدم توازن عميق للاقتصاد الكلي ونسبة نمو ضعيفة جدا رغم المكامن الهامة وكذلك نسبة بطالة مرتفعة جدا ونسبة استثمار ضعيفة ووجود تفاوت اجتماعي وتضاف إليها اليوم آثار الأزمة الصحية والحرب الواقعة في أوكرانيا.
وبينت أن البرنامج الإصلاحي الذي تطرحه الحكومة التونسية يهدف إلى معالجة هذه التحديات بشكل مستديم وعادل سواء على المدى القصير للتغلب على انعكاسات الحرب في أوكرانيا على الاقتصاد وكذلك على المدى المتوسط لضمان نمو أكثر قوة مستديم ومندمج وحماية اجتماعية أفضل ، وتهدف تونس من مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي إلى الحصول على قرض بقيمة 4 مليار دولار.
الأزمة المالية واللجوء الخاطئ إلى صندوق النقد الدولي
تعاني البلاد من أزمة مالية واقتصادية جعلته على شفير الإفلاس على غرار لبنان بعد تصريحات سعادة الشامي نائب رئيس الوزراء اللبناني بشأن إفلاس الدولة والمصرف المركزي اللبناني ممّا جعل وزير الاقتصاد والتخطيط التونسي سمير سعيد يقول إن الوضع في تونس لا يمكن مقارنته بلبنان، ويسعى أهل الحكم في تونس منذ مدّة متذلِّلين للحصول على قرض من صندوق النقد الدولي، هذا ولا تكاد تجد معترضًا على ذلك من الاقتصاديين والخبراء المتخصصين التونسيين سواء من داخل الحكم أو من خارجه، وهذا ما جعل فكرة قبول الاقتراض من صندوق النقد الدولي تلقى رواجا وقبولا في هذه الأوساط السياسية على اعتبار أنه سيكون فيه إنقاذ للبلاد.
ومن المعلوم أنه لا يلجأ إلى الاستدانة من صندوق النقد الدولي وأمثاله من الصناديق المتَّهمة بأنها صناديق استعمارية إلا الدول ذات الوضع الاقتصادي والمالي الحرج جدًا، وهي تلجأ إليه للإنقاذ القريب الملحّ الذي لا يتحمل التأخير، وهو بلا شك لجوء خاطئ أثيم؛ إذ إنه متى يتم الاتفاق مع هذا الصندوق على الاقتراض فمعناه أن هناك اتفاقًا محكمًا وشروطًا ملزمة جائرة قد قامت بين هذا البلد وهذا الصندوق، وتأخذ صفة وجوب الالتزام بها بموجب القانون الدولي، وستبدأ بعدها رحلة عذاب البلد الـمَدين الـمُضنية إلى أن يسدد المال الذي عليه وبشروطهم التي تزداد قسوة كلما عجز عن الإيفاء بها، وهو أي تونس ستعجز، وهذه الشروط ستزداد قسوة، وستصبح الفوائد مركبة، بل ومضاعفة التركيب.
ومن أين لها القدرة على إيفاء الديون الجديدة بينما اقتصادها ضعيف ومتهالك مع اشتداد الأزمة المالية في ظل وضع اقتصادي دقيق وضغوط من المؤسسات المالية الدولية، للبدء بإصلاحات تشمل أساسا الدعم الحكومي والمؤسسات العمومية وكتلة الأجور وأعداد الموظفين.
وبدل أن يلجأ حكامه إلى معالجة وضعه بتحويل اقتصاده إلى اقتصاد حقيقي يعتمد على الإنتاج الزراعي والصناعي والتصدير، نرى أنهم قد لجئوا إلى هذا الصندوق، فحكامه بهذا اللجوء سيجعلونه رهينَ حتفٍ له، وسيكون حاله كحال دول العالم الأخرى التي عانت من أزمات اقتصادية ولجأت إلى مثل هذه الصناديق الدولية، والتي صار حالها بعد اللجوء أسوأ بكثير مما كان قبله، ودول أوروبا الشرقية ودول أمريكا اللاتينية ودول أخرى أفريقية وآسيوية هي شواهد حية على ذلك، واللبيب من يتعظ بغيره؛ ولكن يظهر أنه لا يوجد في تونس من حكامه لبيب.
التضخّم في أعلى مستوى له منذ ثلاث سنوات وسط لهيب الأسعار
سجلت نسبة التضخم في تونس أعلى مستوى لها منذ ثلاث سنوات لتصل إلى مستوى 7.2 في المئة خلال شهر مارس 2022، بعد أن كانت في حدود سبعة في المئة خلال الشهر السابق و6.7 في المئة خلال شهر جانفي 2022، وفق ما نشره المعهد الوطني للإحصاء
وتعكس هذه النسبة المرتفعة من التضخم ما تعرفه تونس من أزمة اقتصادية كبيرة أججتها الأسعار “المستعرة” منذ مطلع العام الحالي، إذ عرفت أسعار جل المنتوجات، خصوصاً المنتوجات الأساسية من خضر طازجة وغلال وسلع، منحى تصاعدياً يزداد تقريباً يومياً، وفق معاينة يومية لحركة الأسعار في مختلف الأسواق التونسية.
ويتذمر التونسيون من لهيب الأسعار التي “أحرقتهم” ولم يعودوا قادرين على مجاراة النسق السريع لحركة الأسعار، وسط دخل شهري متواضع جداً، وتزايد عمليات المضاربة واحتكار السلع.
نحو إقرار زيادة في نسبة الفائدة الرئيسة
نسبة التضخم المرتفعة تعود في جانب منها إلى عوامل داخلية، أهمها تراجع الإنتاج الصناعي والفلاحي واختلال منظومات الإنتاج، وعدم التوازن بين العرض والطلب، الأمر الذي عزز نمو مسالك التوزيع غير القانونية. وكذلك فإنّ نسبة التضخم المرتفعة تعود في جانب آخر إلى التضخم المالي المستورد بسب ضعف الدينار التونسي أمام اليورو والدولار، وتراجع قيمة صرف الدينار، ما يجعل قيمة الواردات ترتفع بشكل كبير، علاوة على تنامي الواردات غير الضرورية، التي لها مثيل مُصنع في تونس.
ووسط توقّعات بعض المؤسسات المالية الدولية في تقارير التقييم أن يفقد الدينار التونسي نسبة كبيرة من قيمته أمام العملات الأجنبية الرئيسية (الدولار واليورو والين الياباني) بحلول نصف السنة الحالية، وعليه فإنّ البنك المركزي قد يتجه لرفع نسبة الفائدة الرئيسة لتطويق الخطر المتزايد أي إلى إقرار زيادة في نسبة الفائدة المديرية أو الرئيسة (نسبة الفائدة التي فرضها البنك المركزي على البنوك التجارية)، في حال تواصل هذا المنحى التصاعدي في نسب التضخم،
أزمة التضخّم والغلاء أكبر من أن تحلّ برفع نسب الربا
إنّ الواجب الشرعي يحتّم علينا أن ننظر إلى هذه المشكلة – مشكلة التضخّم و تهاوي قيمة الدينار- من زاوية رعاية شؤون الناس، بناء على ما يقتضيه مبدؤنا، أي الإسلام، والذي نجزم أنه الموافق لفطرة الإنسان والصالح لعلاج مشكلاته.
إن مشكلة التضخم المستمر، وما يتبعها من ضعف قيمة العملة ومن غلاء في الأسعار، وبالتالي ضعف القدرة الشرائية، هي إحدى المشكلات الأصيلة التي أفرزها النظام الرأسمالي الفاسد الذي اجتاح العالم منذ أكثر من قرنين من الزمان واستحكم بعد سقوط المنظومة الشيوعية. وبالتالي فإنه على الرغم من الأسباب المحلية لمشكلة الغلاء في تونس – وعلى رأسها فساد الطبقة السياسية المتحكمة برقاب الناس – فإنه من الواضح أن مشكلة التضخم وغلاء الأسعار والركود الدوري للاقتصاد هو ظاهرة عالمية، المسؤول عنها بشكل أساسي النظام الرأسمالي الظالم وأربابه المتوحشون.وبكل تأكيد لا يسع مقالا كهذا أن يحيط بكل عوامل هذه المشكلة المؤلمة. إلا أنه يمكن إلقاء الضوء على جانب أساسي من عوامل هذه الأزمة. ألا وهو مشكلة العملات الورقية التي بدأ اعتمادها منذ أوائل القرن الميلادي الماضي، إلى أن اعتمدت كلياً في السبعينات منه، بعد أن فكّت الولايات المتحدة الأمريكية ما تبقى من الارتباط النسبي بين الذهب والعملات المتداولة، لتجعل الدولار الأمريكي الأساس الذي ترتبط به سائر العملات.
إن الحل الوحيد لهذه المشكلة، مشكلة التضخم المالي، تكمن في العودة إلى النظام الصحيح الذي شرعه الإسلام، والذي لطالما اعتمدته الأمم طوال التاريخ، أي العودة إلى قاعدة الذهب. بحيث يكون الذهب هو العملة المتداولة، أو تكون قيمة العملة الورقية المتداولة مقدرة بوزن محدد من الذهب، فتصدر الدولة أوراقاً لا تزيد قيمتها عما تملك من رصيد ذهبي، بحيث يتمكن أي شخص يحمل عملة تلك الدولة استبدال ذهب بقيمتها المحددة متى شاء .
إن العودة إلى نظام القاعدة الذهبية هو من أهم الإجراءات التي من شأنها أن تنقذ العالم من تسلط الدولار الأمريكي ووحوشه المفترسة، وبالطبع فإن “أشباه الدول” ـ كما هو حال تونس ـ ليست مؤهلة لهكذا مهمة، إذ تحتاج دولاً حقيقية تملك قرار نفسها. ولعل المرشح الوحيد لهذه المهمة الجليلة هي الأمة الإسلامية، حين تعيد بناء خلافتها عما قريب إن شاء الله تعالى.
إننا على ثقة بأن من يصرّ على حبس نفسه في المربّع التونسي الضيّق سيرى هذا الطرح خيالياً, لأنه أوسع كثيراً من أُفُـقه. أما من اتسع أفقه بسعة الإسلام فهو جدير بأن يقدر قيمة هذا الفكر، وأن يفكر ملياً به، إذ من اتسع تفكيره ليطال الإنسان – بوصفه إنساناً – فإنه لا بد أن يترفع على التفكير على قياس بلد صغير مثل تونس.
وصدق الله العظيم إذ قال: (وألّو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً..).
أستاذ محمد زروق
CATEGORIES محلي